طباعة هذه الصفحة

انضباطه جعل المنظمة الخاصة تعيّنه مسـؤولا بمسقط رأسه:

الشهيد بوقارة كان يرى في الشباب الطاقة المزوّدة للثورة

سهام بوعموشة

لقد كان الإعلان عن الثورة المسلحة الحلم الكبير الذي كان يتطلّع إليه الشهيد أحمد بوقارة المعروف أيام الثورة باسم سي أمحمد بوقرة، ورفاقه في النضال منذ انضمامه إلى صفوف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وبعد اندلاع الثورة، انضم إليها ولبى نداءاها، وكان أول اتصاله بالتنظيم الذي رسمته قيادة الثورة بعد اعتقال رابح بيطاط مسؤول المنطقة الرابعة وتولي اوعمران المسؤولية بعده.
وإثر انطلاق الثورة كلّف سي أمحمد بوقرة بالتوجيه والتنظيم السياسي وشرع منذ الوهلة الأولى في تكوين خلايا النظام الذي يعتمد عليه في الكفاح المسلح، وقد تقلّد مهمات مختلفة، حيث عيّن مسؤولا سياسيا، وفي الوقت نفسه كان يقوم بالاتصال، والتنسيق مع نظام الثورة بالجزائر العاصمة وما جاورها، وظلّ سي أمحمد يتحرك بقوة في هذا الاتجاه، وكان هدفه تقوية الإيمان بالثورة ونشر رسالتها المقدسة.
ولد الشهيد بمدينة خميس مليانة ولاية عين الدفلى حاليا، بتاريخ الـ2 ديسمبر 1928، وعاش في هذه المدينة وترعرع بين ربوعها، كان يتميّز منذ صغره بالحيوية والفطنة والذكاء، وحين بلوغه السادسة من العمر سجّله أبوه في المدرسة الابتدائية الفرنسية المخصصة، لأبناء الجزائريين الذين كانت تسميهم الإدارة الاستعمارية الأهالي.
واصل تعليمه في هذه المدرسة حتى تحصّل على الشهادة الابتدائية، وفي نفس الوقت كان يتابع دروسا في اللغة العربية، ويحفظ القرآن الكريم في الكتاب.  كان والد أحمد بوقارة حريصا على حسن تربيته وتشجيعه على اكتساب المعارف، وكان يرغب في إرساله إلى جامع الزيتونة بتونس ليواصل تعلمه فيه
لكن الظروف لم تكن مواتية لذلك فاكتفى بما تعلمه في بلاده. ويذكر الذين كتبوا عن سي أمحمد أنه انقطع عن التعليم وعمره 15 سنة، ولكن ما تعلّمه في المدرسة الفرنسية والكتاب جعل فكره ينمو ومداركه تتوسّع، ومن هنا بدأ وعيه الوطني يتبلور وازداد هذا الوعي نموا، حين انخرط في الكشافة الإسلامية الجزائرية، التي تعتبر بالنسبة إليه بمثابة مدرسة لقّنته دروسا في التربية والأخلاق الوطنية.
ونظرا لنباهته وحيويته اندمج بسرعة في النشاطات الكشفية، ما أهله فيما بعد لتوليه قيادة فوج الجوالة. إن نشاطه الكشفي هو الذي عمّق لديه الوعي الوطني، وصقّل مواهبه فتفتّح ذهنه وتوسعت مداركه فأصبح مستوعبا خطورة الأوضاع المأساوية التي كانت تعيشها بلاده، ومن ثم ازداد إيمانا بضرورة النضال الهادف إلى التغيير، وقد مهّد له انخراطه في الكشافة الانضمام إلى صفوف الحركة الوطنية التي وجد في برامجها ضالته فأعطاها كل اهتمامه.
لقد كان سي أمحمد مثل كثير من شباب الجزائر يتطلع إلى يوم تشرق فيه شمس الحرية على أرض الجزائر، وهذا ما دفعه إلى المشاركة في مظاهرات الثامن ماي 1945 المعبرة عن الرفض القوي للاستعمار، والمطالبة بالحقوق في الحرية والاستقلال، هذه المظاهرات نتجت عنها أحداث أليمة عاشها الشعب الجزائري واكتوى بنارها.
لقد اصطدم سي أمحمد كغيره من أبناء الوطن برد فعل السلطات الفرنسية العنيف، إذ سلطت عليهم القمع والسجن والتشريد والقتل الجماعي ولم ينج سي أمحمد من عمليات القمع، إذ ألقت عليه القبض وزجت به في السجن وظلت تتابعه وتلاحقه حتى بعد خروجه من السجن.
هاجر إلى تونس عام 1946، فرارا من ملاحقة البوليس وهناك التحق بجامع الزيتونة للدراسة، لكنه لم يبق فيه سوى عام واحد، وفي هذا العام شارك مع المناضلين الجزائريين الذين وجدهم هناك في تنظيم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، ولكن هاجس العودة إلى الجزائر لم يفارقه طوال وجوده هناك فعاد وكله إرادة وعزم وحماس لمواصلة الكفاح.
وبعد عودته من تونس عام 1947، انضم إلى صفوف المنظمة الخاصة التي تكوّنت في نفس السنة، كان سي أمحمد من المناضلين القلائل الذين وجدوا في برامج هذه المنظمة، ما يشبع تطلعهم للإسهام في الأعمال التي تعجّل بالانطلاقة الفعلية للكفاح المسلح.
واعتبارا لانضباطه وحيويته عينته المنظمة الخاصة مسؤولا بمسقط رأسه لتأطير وتنشيط خلاياها، وقد انصبت اهتماماته على تكوين المناضلين وفق خططها، فأظهر براعة في التكوين وظلّ ينشط في مجال تنظيم المناضلين، ومتابعة نشاطهم وتدريبهم على الأعمال (شبه العسكرية)، إلى حين اكتشاف العدو المنظمة الخاصة، فألقي عليه القبض مع مجموعة من رفاقه، ولما أحيل على المحكمة العسكرية بالبليدة حكمت عليه بثلاث سنوات سجنا.
وبعدما أطلق سراحه أجبر على مغادرة مسقط رأسه، فتوجّه إلى العاصمة مكرها، لكن، هذا الإبعاد أتاح له فرصة عرف كيف يستغلها، فالتحق بمركز التكوين المهني بالقبة وتخصّص في الكهرباء.
بعد مؤتمر الصومام تمّ تعيين سي أمحمد بوقرة مسؤولا سياسيا على مستوى الناحية، ثم تدرّج في سلم المسؤوليات بعد ذلك، حتى صار عضوا في مجلس قيادة الولاية الرابعة، أما قيادته للولاية فقد أسندت له منذ سنة 1957، حيث نظّم هياكلها ودعّم نظامها الثوري بالشباب المتعلّم، الذي كان يرى فيه الطاقة الحيّة والمتجددة التي تحتاج إليها الثورة.
 فلم تكن اهتماماته بالتنظيم والتنسيق تتوقف عند حدود الولاية الرابعة بل امتدت إلى بقية الولايات الأخرى، مما أكسبه التقدير والاحترام من قبل جميع المسؤولين، لقد خاض سي أمحمد بوقرة الكثير من المعارك بجبال زكار وعمرونة واثنيه الحد والونشريس وغيرها، وساعدته في ذلك خبرته الذاتية المعتمدة على حرب العصابات.
لقد اعترف له العدو قبل الصديق بشجاعته وبطولته على أرض المعركة بفضل حنكته السياسية وخططه العسكرية، في أواخر شهر مارس 1959 ازداد نشاط «سي أمحمد بوقرة»، وأصبحت تحركاته تثير القلق لدى القوات الاستعمارية التي كانت تتحيّن الفرص للوصول إليه أو محاصرة الجهات التي يتردد عليها، فكثيرا ما وجد القائد نفسه في مواجهات غير متكافئة مع العدو ولكنه كان غالبا ما يخرج منها منتصرا.
استشهد القائد أحمد بوقارة ورفاقه بتاريخ الـ05 ماي 1959، عندما اتجه نحو مركز القيادة بنواحي أولاد بوعشرة بولاية المدية، وجد نفسه ومن معه من المجاهدين محاصرين من قبل قوات العدو فلجأ وإلى ناحية في الجبل واختفوا فيها وظنوا أنهم بعيدون عن قوات العدو.
لكن مجموعة من قوات العدو لمحتهم واكتشفت مكانهم فسلّطت نيرانها عليهم من بعيد، فما كان من القائد ورفاقه إلا أن يثبتوا ويواجهوا القصف الجوي العنيف بكل بسالة وصمود، فلم يستسلموا رغم كثافته وهكذا تواصلت المواجهة بين الطرفين إلى أن استشهدوا.