طباعة هذه الصفحة

تحكي فصلا من فصول التعذيب الاستعماري بالمسيلة

فيلا الشهيد بديار.. من هنا مر جلادو ديغول

عبد النور بركاتي

تقع فيلا بديار في منتصف مدينة المسيلة، يمر المواطنون قربها يوميا ولا يعلم قصتها إلا القليل، الكثير منهم غيبهم الموت والباقي تقاسمتهم ظروف الحياة ومشاغلها ولم تبق سوى رخامية مربعة معلقة عـلى الجدار تشير إلى أن المكان يخفي قصة حزينة..

بديار.. اشترى الفيلا وغادرها للجهاد
القصة بدأت مع عزم الشهيد أحمد بديار، أحد أعيان الحضنة، شراء الفيلا من زوجة أحد المعمرين المدعوة باد وكس جوليات زوجة باجيو، وعلى الرغم من تطلع وطمع الكثير من الأهالي والمعمرين في شرائها إلا أنها آلت في نهاية الأمر إلى أحمد بديار، الذي دفع فيها ثلاث مائة فرنك فرنسي، آنذاك، أي ما يعادل 07 ملايين سنتيم، وكان ذلك يوم 16 جويلية 1954. الفيلا تتربع على مساحة 700 متر مربع.
انخرط الشهيد أحمد بديار في صفوف الثورة والتحق بالجبال إلى جانب إخوانه تاركا داره وأهله والفيلا، التي لم يطب له المقام فيها طويلا، إضافة إلى مواشيه وفلاحته التي وهب جزءا كبيرا منها للمجاهدين.
هذا النشاط كله أدى إلى محاكمته غيابيا وصـدر في حقه حكم بالإعدام، إلى أن جاء يوم 27 فيفري 1961 حيث استشهد رحمه الله بمنطقة مسـيف جـنوب المسـيلة.
ومع اشتعال فتيل الثورة وكثرة المجاهدين والفدائيين والنظام المحكم الذي أفرزه مؤتمر الصومام، ازداد الحس الوطني والوعي الجهادي للأهالي حيث انخرطوا في اللجان وخلايا الثورة ولم يدخروا جهدا ولا مالا من أجل تحرير الجـــزائر.
وبغية إخماد هذه الجذوة المتقدة الحارقة التي هبت على المستعمر، عملت فرنسا على إنشاء مراكز تعذيب في المسيلة، فأسست معتقل الجرف بسلمان ومركز بدوار بن صوشة وآخر بسد القصب ومحتشدا بالشلال وأخــرى في جنوب وشمال وغرب الولاية، لكن هذه المراكز لم تؤت أكلها خصوصا في مدينة المسيلة، وذلك موازاة مع تنامي التحاق المواطنين بصفوف الثورة جماعات وفرادى.
وسط كل ذلك، سعت الإدارة الاستعمارية جاهدة لإيجاد مكان خاص باستنطاق وتعذيب المجاهدين فاهتدت إلى فيلا أحمد بديار بإيعاز من بعض الذين لم يحظوا بشرائها- وحولتها إلى مكتب ثان لهذا الغرض.
انتقلنا إلى فيلا بديار مع مجموعة من المجاهدين، على رأسهم المجاهد أحمد زرواق، أمين المجاهدين بالمسيلة، والذين أنزلوا قصرا ضيوفا على هذه الفيلا في الخمسينات، فمنهم من قضى في زنزاناتها ودهاليزها ولعق من موائدها الجهنمية، وأضاف قطرات من دمه إلى لون جدرانها أسبوعا أو شهرا، ومنهم أكثر من ذلك.
دخلنا الفيلا التي تغيّرت بعض ملامحها ومعالمها، لكنها مازالت محافظة على جـزء بسـيط من شكلها خصوصا المعالق، حيث يُعلّق السجين- وقاعـة التعذيب وحوض الماء الذي بقي رسمه فقط، بالإضافة إلى النوافذ الضيقة التي ازدادت اتساعا أكثر، أما مكان الزنزانات فقد غير تماما، لأن أهل الدار احتاجوا لمساحة الأرض.

من هنا مر الجلادون

محطتنا الأولى كانت درجات القبو، حيث مرحلة العذاب الأحمر، يقشعر بدنك وأنت تطل على تلك الصالة المستطيلة بظلماتها وقطـع الحديد المثبتة في الحائط وأماكن الكهرباء التي تشرف مباشرة على قاعة أخرى مجاورة لها والتي يلقى فيها المعذب للراحة وأخذ النفس ثم العودة لمائدة الحديد من جديد، رفقاؤنا مويسات رمضان، عطوي عمار، ثامر محمد، كحالي الطاهر، عريوة قانة، علي ملوكي وغيرهم من المجاهدين الذين تعاقبوا على المركز الثاني بالمسيلة، سردوا لنا حكايات وقعت لهم في هذا المركز، منهم من اقتلعت أذنه ليعيش أصما لحد اليوم كالمجاهد عريوة قانة، ويذكر المكان الذي حصل له ذلك فيه بدقة، عمي كحالي الطاهر استشهد مجاهد أمام عينيه من أثر التعذيب لكنه بقي ثابتا على مبدئه وقد كان رئيس لجنة المطارفة، المجاهد ثامر محمد على الرغم من تعرضه لأنواع عدة من العذاب يستحضر لحظة تعليقه على الجدار كالشاة المسلوخة قدماه في الأعلى ورأسه إلى الأسفل وأسلاك الكهرباء تلسع جلده حتى عورته، إلا أن الثبات عنده حتى الشهادة كان أفضل لديه من أن يبيع قضيته ويلبسه العار والدمار.

ليل نزلاء المكتب الثاني

مسلسل العذاب الذي لعقه مويسات رمضان لا تختلف حلقاته عن إخوانه المجاهدين غير أن الصورة التي لم تفارق خياله إلى يومنا هي استشهاد مجاهد أثناء تعليقه على جدار الموت في المركز الثاني، والجلاد الفرنسي يقول له قل يحيا ديغول، لكن شهيدنا يهلل ويكبر ويردد تحيا الجزائر ولسان حاله يردد: واقض يا موت ما أنت قاض أنا راض إن عاش شعبي سعيدا.. فانهال عليه الجلاد عذابا حتى سقط شهيدا.
ليل نزلاء المكتب الثاني بالمسيلة لم يكن يختلف عن نهاره لأنهم اعتادوا الظلام حـتى في النهار غير أنه في الليل ينصرف الجـلادون للنوم، فيبيت بعضهم يضمد جراحه والآخر يئن مـن كثرة آلامه وهي فرصة لتبادل الحديث ومعرفة أخبار جديدة خصوصا من النزلاء الجدد.

خبز بالبول

على الرغم من تشديد الخناق على سجناء المركز وعدم السماح لهم من التنسيق بينهم خصوصا مع من كشف البحث أن له يدا طولى في الثورة، إلا أن روح التضـامن بينهم قوية، ثامر محمد يأخذنا إلى مكان قصة وقعت له مع المجاهد الشاعر البدوي محمد بن الزوالي في زنزانتيهما، وهذا الأخير منعت عنه إدارة المركز الطعام والشراب فاشتد به الجوع فطلب من ثامر قطعة خبز فرماها إليه من فوق ومن سـوء حظ بن الزوالي أن القطعة وقعت في إناء (البول)..أكرمكم الله.. فنادى صاحبه مستفتيا إياه: هل يجوز أكل قطعة الخبز أم لا؟ فأجابه ثامر بجواز ذلك.
إن سياسة الاستعمار الفرنسي في إنشاء مكاتب ومراكز التعذيب والسجون والمحتشدات لم تجد نفعا بل كان لها تأثير إيجابي على سيرورة الثورة التحريرية، حيث أعطت دفعة قوية لمن دخل إليها ونال من عذاباتها إذ عزم على الانتقام منها بأي طريقة بعد خروجه، فالشعب الجزائري ازداد تمسكه بقضيته كلما زادت سطوة المستعمر وتشديده الخناق عليه وهذا ما صنعته سنوات الجمر في المكتب الثاني بالمسيلة للمجاهدين الذين كتبت لهم حياة ثانية.

المركز قبلة لتذكر البطولات

في كل مناسبة تاريخية يصبح مركز التعذيب قبلة لتذكر بطولات الشعب الجزائري، حيث يعمد كثير من صناع الثورة التحريرية بمنطقة الحضنة إلى زيارة هذا المركز الاستعماري المهم والذي كان سببا فيشحن همم المجاهدين في نضالهم الحر، إضافة إلى ذلك يعرف هذا المركز إقبالا متميزا لمحبي تاريخ المنطقة والجزائر وهذا قصد الاستفادة مما يحويه من ماض مر صعب  الدماء، كما أنه فضاء لكثير من الباحثين الجامعيين في الكتابة وإنجاز البحوث والمذكرات الخاصة بتاريخ الجزائر بالإضافة إلى ذلك يحتفى بهذا المركز في هذا اليوم من كل سنة وكلما حانت أو جاءت الفرصة الملائمة لذلك.
وتبقى فيلا الشهيد أحمد بديار واحدة من المعالم التاريخية التي تحوي قصصا وحكايـات عن الغطرسة الاستعمارية وأساليبها في التعذيب اللاإنساني للجزائريين نخشى أن تزول بزوال القلة الباقية من المجاهدين، ونرجو أن يشترك كل الذين عاشوا الحدث وجيل اليوم من أجل الحفاظ على ذاكرة الأمة من الضياع.