الدبلوماسية الجزائرية في ستينية الاستقلال

قوّة هـادئـة ومـواقــف ثــابتــة

عزيز بن عامر

 راهنت الجزائر، منذ استقلالها، قبل ستة عقود على تسخير آلتها الدبلوماسية أوّلا لحماية مصالحها الإستراتيجية وثانيا للمساهمة في تحقيق الاستقرار والأمن العالميين، وقد حققت هذه الدبلوماسية نجاحات كبيرة بفضل ثبات مواقفها المشرفة في دعم الشعوب المستضعفة، ونصرة القضايا العادلة، وإنهاء كل أشكال الاستعمار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام مبدأ السيادة في العلاقات الدولية.
 
اليوم ونحن نحتفل بالذكرى 60 للاستقلال والحرية، تقف «الشعب ويكاند» مع أستاذ العلوم السياسية الدكتور هشام دراجي عند مسار الدبلوماسية الجزائرية بما يشمل من إنجازات وقدرات على إدارة الملفات الساخنة بكل حكمة وحزم في بيئة دولية وإقليمية معقدة وملتهبة.
كما تتطرّق معه للوثبة التي بلغتها هذه الدبلوماسية في الفترة الأخيرة، من خلال حسن إدارتها للأزمة مع المغرب وإسبانيا، وتعاملها مع التحدّيات التي يفرضها الجوار المتوتر والإقليم الملتهب.
 
تاريخ حافل بالإنجازات

لعلّ أجمل ما قيل في تاريخ الأمم أن: «الزمن الماضي أو التاريخ المنصرم هو البئر التي نمت منها الأفكار والتصورات، والأساس الذي نقيم عليه البناء والبنيان، والبوصلة التي تحدد لنا أيّ الطرق نسلك، وأي الأهداف نوليها الاهتمام «، لذلك قد يبدو من المفيد الإشارة إلى تاريخ الدبلوماسية الجزائرية الحافل بالإنجازات في مستهل حديثنا عن عودتها القوية خلال السنتين الماضيتين، فقد عاشت الدبلوماسية الجزائرية عصرا ذهبيا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حين لعبت دور الوساطة في الكثير من الأزمات الدولية لعل أبرزها؛ أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران، وتسوية نزاع الأخيرة مع العراق، هذا كما ظهرت بصمة الدبلوماسية الجزائرية على المستوى الإقليمي من خلال نصرة القضية الفلسطينية في أروقة الأمم المتحدة حين مكنت الرئيس الراحل ياسر عرفات من الحديث باسم فلسطين في منابرها سنة 1974، وأيضا من خلال المساهمة الفعالة في إنهاء الانقسام بين الفصائل الفلسطينية عبر احتضان المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1987، وعقد مؤتمر إعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، سنة 1988.

مبادئ ثابتة ومواقف مشرّفة

بالرغم من بعض التراجع الذي عرفته، خلال سنوات التسعينات، بفعل الأزمة الأمنية الداخلية، فقد بقيت الدبلوماسية الجزائرية بالرغم من كل الظروف التي شابت تلك الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر، محافظة على ثبات مبادئها ومواقفها المشرفة في دعم الشعوب المستضعفة، ونصرة القضايا العادلة في العالم، وإنهاء كل أشكال الاستعمار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام مبدأ السيادة في العلاقات الدولية.
في الحقيقة، لقد ساهم التراجع الدبلوماسي للجزائر في هذه المرحلة الصعبة في عزلها عن محيطها الدولي والإقليمي، وأبعدها بعض الشيء عن دورها الريادي، وجعلها تنشغل، مجبرة بالعمل الأمني والعسكري، مفضلة بذلك العمل وفق مقاربة القوة الصلبة، وهو ما أدى إلى غياب شبه تام لمقاربة القوة الناعمة التي طالما كانت سر تفوق الجزائر تاريخيا.

العودة للواجهة من جديد

شهدت بداية القرن الواحد والعشرين العديد من المحاولات الدبلوماسية الجزائرية للعودة إلى الواجهة من جديد، وقد شجعها على ذلك حالتي التعافي الأمني تدريجيا، والاستقرار التي عرفته الجبهة الداخلية بعد عشرية كاملة من التوتر الأمني، فأقدمت على محاولة العودة للمشهد القاري من جديد عبر بوابة الدور الفاعل في الاتحاد الإفريقي، واستئناف مهمة الوساطة وفض النزاعات الدولية، والعمل على نشر الأمن والسلم الدوليين، بالإضافة أيضا إلى دورها الجديد في محاربة الإرهاب بمنطقة شمال إفريقيا والساحل، خاصة بعد الخبرة الكبيرة التي اكتسبتها من تجربتها الداخلية، والتي أهّلتها، بحسب الكثير من التقارير الدولية لكسب ثقة الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت آنذاك الحرب على الإرهاب الدولي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
لكن، وبالرغم من كل هذه المحاولات الحثيثة، عاد دور الدبلوماسية الجزائرية ليتراجع بعد أحداث ما يسمى» الربيع العربي»، ما ترك المجال للكثير من الدول المجهرية الصغيرة للسيطرة على القرار الجماعي العربي، وإدخال المنطقة في دوامة كبيرة من عدم الاستقرار، وهو ما ساهم بدوره جليا في تعقيد الكثير من الملفات على غرار؛ الملف الليبي، والملف السوري، وغيرها من الملفات المهمة الأخرى.

الحراك الدبلوماسي الأخير: قرارات حازمة

عرفت الدبلوماسية الجزائرية خلال السنتين الماضيتين حراكا دبلوماسيا كبيرا على جميع الأصعدة والمستويات، فقد بادرت مطلع سنة 2020 إلى استحداث « الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية «، وهي الهيئة السيادية العليا التي تهدف الجزائر عبرها إلى محاولة العودة مجددا لإفريقيا بعد الابتعاد الكبير عن القارة خلال العهد السابق، بالإضافة إلى محاولة مد يد المساعدة للدول الإفريقية خاصة الفقيرة منها، والتي تحولت إلى رهينة بيد الجهات الغربية المانحة، هذا فيما أقدمت بعد ذلك بكل حزم على المستوى القاري خلال اجتماع القمة الأفريقية 35 إلى الوقوف في وجه الكيان الصهيوني الذي حاول جاهدا التغلغل في الاتحاد الإفريقي بعد قرار المفوضية الإفريقية منحه صفة مراقب، وهو القرار الذي تم تعليقه بعد الجهود الدبلوماسية الحثيثة للجزائر وجنوب إفريقيا بالتعاون مع بعض الدول الصديقة الأخرى كمصر ونيجيريا، كما كلل النشاط الدبلوماسي الكثيف خلال الفترة الأخيرة بحصول الجزائر على شرف تنظيم القمة العربية القادمة بالرغم من مساهمة جائحة كورونا في تأخيرها، وهي بالمناسبة القمة التي تعلق عليها الجزائر آمالا كبيرة لعدة أسباب لعل أهمها: أولا؛ استهداف تجديد الالتزام الجماعي العربي تجاه القضية الفلسطينية، وتأكيد تقيد الجميع بمبادرة السلام العربية، ثانيا؛ طرح ملف إصلاح منظومة عمل جامعة الدول العربية، وهو المطلب الجزائري القديم المتجدد. ثالثا؛ العمل على إعادة سوريا للحضن العربي بعد غياب طويل.
كل هذه المساعي الحميدة للدبلوماسية الجزائرية تدفعها للواجهة، وتعيد لها دورها الريادي الذي اكتسبته إبان عصورها الذهبية، أين كانت تقود الأمة العربية بخطى ثابتة بعيدا عن الخضوع والخنوع الذي لازم الأمة خلال السنوات القليلة الأخيرة. هذه المساعي التي حاولت الجزائر ترجمتها على مدار السنوات الأخيرة بشكل فعلي في دعم الإخوة الفرقاء في ليبيا من أجل الوصول إلى تسوية تسمح بعودة الاستقرار لبلادهم والمنطقة ككل.
أما على المستوى الفردي، فقد شكلت المواقف الجريئة للدبلوماسية الجزائرية نقطة تحول كبيرة في المنطقة المغاربية خاصة حين أقدمت بكل حزم على قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجارة الغربية بعد سلسلة طويلة من الاستفزازات التي وصلت ذروتها بعد إقدام الأخيرة على التطبيع مع الكيان الصهيوني في صورة تعبر بكل حزن وأسى عن فقدان الشقيقة لبوصلتها السياسية والأخلاقية، وقد أعقب قطع هذه العلاقات أيضا توقيف إمدادات الغاز الطبيعي إلى إسبانيا عبر الأنبوب المغاربي العابر للأراضي المغربية وتحويلها للخط المباشر الرابط بين الجزائر واسبانيا، بالإضافة إلى إغلاق المجال الجوي الجزائري أمام الطيران المغربي.
في حين شكل التعاون الجزائري الأوروبي عبر بوابة الشراكة الجزائرية الإيطالية أحد أهم محاور الدبلوماسية الجزائرية أهمية، خاصة بعد زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى إيطاليا، وعقد العشرات من الشراكات والعقود الاقتصادية لا سيما في مجالات حيوية كالطاقة والصناعة. هذا كما عملت الدبلوماسية الجزائرية في ذات السياق على توطيد العلاقات الثنائية مع كل من ألمانيا وتركيا باعتبارهما شركاء موثوقين في الكثير من المجالات لا سيما الاقتصادية منها.
لا يمكننا الحديث عن الحراك الدبلوماسي الجزائري الأخير دون الحديث عن المواقف والقرارات الحازمة التي اتخذتها الجزائر في مواجهة التحول المفاجئ للحكومة الاسبانية تجاه قضية الصحراء الغربية، هذا التحول الذي عبر عن تنصل صريح لإسبانيا من مسؤوليتها التاريخية تجاه القضية باعتبارها المستعمر السابق للجمهورية العربية الصحراوية، هذا التحول الذي واجهته الجزائر بكل حزم من خلال تعليق معاهدة الصداقة مع اسبانيا، وفرض جملة من العقوبات الاقتصادية تجاهها خاصة من خلال فرض حظر على المنتوجات الاسبانية المستوردة، وهو الإجراء الذي كلف الخزينة الاسبانية بحسب الكثير من التقارير الاقتصادية القادمة من هناك ما يقارب 2.7 مليار دولار. ووسط هذه الأزمة الدبلوماسية الحادة خرجت الدبلوماسية الجزائرية كعادتها خلال السنتين الأخيرتين منتصرة لعدة اعتبارات نأتي على ذكر أهمها: أولا؛ حالة التيه وعدم الاستقرار التي صاحبت ردود الفعل الاسبانية بعد القرارات الجزائرية الجريئة التي شكلت صدمة كبيرة للجانب الاسباني الذي لم يكن يتوقع حدة رد الفعل الجزائرية، حيث أقدم مباشرة على التوجه نحو الاتحاد الأوروبي في خطوة أولى، ليحاول بعد فشلها اللجوء إلى إقحام روسيا في الأزمة في محاولة متجددة لكسب تعاطف بقية الدول الأوروبية الأخرى لا سيما إيطاليا وألمانيا، في محاولة فاشلة للاصطياد في المياه العكرة والاستفادة من حالة الاحتقان الأوروبي المشترك تجاه روسيا. ثانيا؛ استثمار الجزائر الأمثل في ملف الطاقة كسلاح دبلوماسي فعال في ظل الأزمة الطاقوية الكبيرة التي تشهدها أوروبا خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث شددت الجزائر على حقها القانوني في إعادة مراجعة أسعار الغاز الموجه نحو اسبانيا بعد تعليق معاهدة الصداقة، وهو ما شكل مجموعة كبيرة من الضغوط الداخلية على الحكومة الاسبانية خاصة في البرلمان ووسائل الإعلام.
في الأخير، لا بد أن نشيد بالعودة القوية للدبلوماسية الجزائرية من خلال قدرتها الفائقة على إدارة الكثير من الملفات الساخنة بكل حكمة وحزم في بيئة دولية وإقليمية معقدة، وهو الرهان الذي كسبته الدبلوماسية الجزائرية الجديدة، لتسجل بذلك ثباتها على مواقفها ومبادئها المشرفة في الذكرى الستين للاستقلال.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024
العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024