طباعة هذه الصفحة

حملـت لواء الحــرية وكبـحـت زحـف المسـتوطـنين الأجـانــب

هـذه وقـائع ثورة المـقـراني بــالأخـضــريـة عـام 1871

أ. محمد بجاوي جامعة التكوين المتواصل – البويرة

لا شك أن المتتبع لتاريخ منطقة باليسترو، يلاحظ أنه منذ وصول أشغال بناء الطريق الإمبراطوري الرابط بين الجزائر العاصمة وقسنطينة إلى مشارف عمال، يلاحظ استنكار السكان واستياءهم من إقدام السلطات الاستعمارية على بناء سكنات للعمال على أراضي قبيلة بني هيني المتاخمة لأراضي دوار بني خلفون من الناحية الشرقية، وأراضي دوار بني معاند من الناحية الشرقية الجنوبية، في مكان لا زال الناس إلى اليوم يسمونه حي ززي بمدينة الأخضرية، ومن ثمة فإن العمال الأوروبيين المقيمين في ززي، بمجرد حصولهم على قرار تسمية باليسترو سنة 1869، انطلقوا في سعيهم لإعطاء مستوطنتهم المكانة التي تجعلها قطبا يؤمّه الناس من مختلف قرى ومداشر الدواوير القريبة منها، وذلك من خلال عزمهم على إنشاء سوق أسبوعية بهذه المستوطنة بدلا عن السوق الأسبوعية التي كان أهل عمال يعقدونها كلّ جمعة غرب قرية قرقور ، وكذا السوق الأسبوعية التي كان سكان دوار بني خلفون يعقدونها كلّ يوم أربعاء بالبطحاء المسماة وادي الأربعاء..

إن المستوطنين في باليسترو واصلوا تنفيذ مخططهم القاضي بإنشاء السوق الأسبوعية غير آبهين باحتجاجات الأهالي القاطنين بالدوارين المذكورين آنفا، وهو ما حمل قايد دوار عمال، الحاج أحمد بن دحمان إلى تحذير رئيس بلدية باليسترو من عواقب الاستمرار في ذات الاتجاه بقوله : إن أعيان القوم وأشرافهم في الدوار سيستخدمون كل ما لديهم من تأثير على السكان الأهالي بغرض مقاطعة سوق باليسترو..
وأنشأ المستوطنون السوق الأسبوعية بالمستوطنة منذ سنة 1870 المنافسة لسوق الأربعاء لبني خلفون وسوق الجمعة لدوار عمال، ونتج عن ذلك تشنج في علاقات الأهالي بالمستوطنين فاستغل مقدمو الطريقة الرحمانية تذمر السكان وكثفوا من اتصالاتهم بدواري بني خلفون وعمال من أجل إصلاح ذات البين وشحذ الهمم وحث الناس على الثورة ضد الغزاة المستوطنين.
يضاف إلى ذلك حقد بعض عائلات الأفراد الذين كانوا يشتغلون عند بعض المستوطنين عامة وبصورة خاصة عند رئيس البلدية “مسيو باسيطي” الذي كان يهضم الحقوق ولا يفي المشتغلين عنده أجورهم، وهو ما دفع العمال عنده إلى الاحتجاج والتذمر مما كان يعطيهم من أجور زهيدة.
وفي صباح يوم السبت 08 أفريل من عام 1871، أعلن الشيخ الحداد مقدم الطريقة الرحمانية في ساحة السوق بصدوق، عن انطلاق الجهاد ضد المستعمر الفرنسي: عندما رمى عصاه وسط الجماهير المحتشدة قائلا: “بعون الله سيكون من السهل علينا أن نرمي بالفرنسيين في البحر الذي جاء بهم”، بعد أن كان المقدم قد تلقى الدعم والمساندة من قبل المقدمين الرحمانيين بمنطقة الزواوة وعلى رأسهم الشيخ سي محمد الصالح الذي بعث إليه رسالة التأييد والموافقة موقعة بختم الولي الصالح سيدي امحمد بن عبد الرحمن بوقبرين.
ودفع المقدمون الرحمانيون بـ250 قبيلة إلى المعركة المصيرية وهي تمثل في مجموعها ثلث الشعب الجزائري من أغلبية سكان منطقة القبائل وقسنطينة والتابعين لهم من وسط وغرب الجزائر، ولذلك اعتبر معظم الذين كتبوا عن ثورة المقراني ومنهم لويس رين، بأن ثورة 1871 هي حركة (المقاديم) المقدمين الرحمانيين، وأنها حرب دينية مبنية على التعصب الديني والعرقي، متناسيا أنها حركة شعبية قام بها رجال كانوا يثنون تحت سياط الظلم والتعسف والجوع.
وتوترت العلاقة بين الأهالي والمستوطنين في باليسترو، وهو ما جعل الأغراب يتوجسون خيفة مما ينتظرهم على أيدي الأهالي خاصة بعد انتشار نبأ إعلان الشيخ الحداد عن انطلاق الثورة وانتقل رئيس البلدية “مسيو باسيطي” إلى الجزائر العاصمة في الأيام الأولى من شهر أفريل سنة 1871م لإخطار السلطات الفرنسية هناك بأن تصرفات الأهالي بالمنطقة تدعو للقلق.
وحضر الضابط العسكري لملحقة العاصمة إلى مستوطنة باليسترو للاجتماع برؤساء دواوير كل من عمال، بني خلفون الزواتنة صنهاجة وغيرهم من القبائل المجاورة بغرض طمأنة باسيطي، وفي نفس الوقت، حثه على ضرورة أخذ الاحتياطات اللازمة حتى لا يأخذهم الأهالي على حين غرة أو غفلة منهم.
ومن جانب آخر، فإن الضابط العسكري لملحقة العاصمة بعث - من جهته - تقريرا إلى رؤسائه بتاريخ 15 أفريل لخص فيه الوضعية العامة للمنطقة، مؤكدا على ضرورة إرسال فرقة عسكرية مكونة من 200 إلى 300 جندي لحماية المستوطنين من الأهالي الذين يتعرضون لتأثير المقدمين الرحمانيين منذ 11 أفريل، هذا التأثير الذي يمكن أن تكون له عواقب خطيرة على المستوطنين وعلى الوجود الاستعماري بالمنطقة.
ولم يكن ساعتها بإمكان السلطات أن ترسل النجدات العسكرية المطلوبة للمستوطنين في باليسترو؛ لأن الوضعية الأمنية كانت نفسها متدهورة في كل الجهات وطلبات الاستغاثة التي بعث بها العسكريون والمدنيون كانت تصل تباعا من مختلف المناطق. وبقي المستوطنون في باليسترو قلقين على مصيرهم، وفي نفس الوقت كانوا يحضرون أنفسهم للمعركة القادمة بالتدرب على الأسلحة التي جلبها رئيس البلدية “باسيطي” من الجزائر العاصمة.

ثـورة أهـالي بــالـيـسترو

إن التململ والغضب العام في أوساط الأهالي الذي تولد عن إنشاء سوق أسبوعية في المستوطنة، استغله مقدمو الطريقة الرحمانية بالمنطقة منذ الأسابيع الأولى لسنة 1871م في إصلاح ذات البين بين دوار عمال ودوار بني خلفون المتنافسين فيما بينهم منافسة شديدة قبل حلول المستوطنين بين ظهرانيهم: وذلك من أجل جمع الكلمة وتوحيد صفوف الأهالي ضد إنشاء سوق المسيحيين الغرباء عن المنطقة. والواقع الملاحظ لبعض المواقف البارزة في علاقات الأهالي مع أولئك الغرباء على المستوى العام في المنطقة كان يدعو إلى القلق مما يمكن أن يحدث مستقبلا.
وخلال تلك الأيام، فإن المسمى سعيد بن رمضان، أمين قرية حزامة المتاخمة لمستوطنة باليسترو بدوار بني خلفون، قال مرة لزوجة باسيطي: بحق الله عليك أن تثقي في كلامي، فأنت طيبة والآخرون سيئون، وعليه أرجو أن تذهبي إلى الجزائر العاصمة..اتركي زوجك والباقين يمارسون مهامهم، فليس من الحكمة في شيء أن تبقي هنا بين هؤلاء”.

بــالـيـسـترو على صفـيـح سـاخـن..

يوم الأحد 16 أفريل من عام 1871، عقد رؤساء القبائل بمنطقة باليسترو المؤيدين لثورة محمد المقراني اجتماعا لهم في سوق صنهاجة دام 48 ساعة، تقرّر خلاله الهجوم على مستوطنة باليسترو بتاريخ 20/04/1871. في الوقت الذي كانت فيه الوضعية الأمنية العامة في المنطقة متدهورة حسب ما لخصه الحاج أحمد بن دحمان فيما كتبه بتاريخ 17/04/1871 إلى رئيس الملحقة بالعاصمة يخبره بأن قايد خشنة الجبل (بني عمران ) السي سعيد أولحاج، قد أحرق منازل المستوطنين التي كانت معزولة، مضيفا أنه وفرقة بني دحمان قاتلوا ثوار قبائل الخشنة وحاولوا منعهم من تدمير وتخريب ديار وأملاك المستوطنين.
ويوم الأربعاء 19 أفريل يعني ثلاثة أيام بعد ذلك، اكتظت سوق الأربعاء لدوار بني خلفون بالوافدين استجابة للنداء الذي أطلقه مقدمو الرحمانية الذين التقوا الرؤساء المنتدبين من قبل 12 فرقة أو دوار منها عمال زواتنة صنهاجة بني معاند، بني خلفون وغيرهم. حيث تقرر في اجتماعهم ذاك: مهاجمة الفرنسيين وتدمير كل المنازل وتخريب وإحراق حاجيات المستوطنين بها في فجر اليوم الموالي.
واجتمع رجال بني خلفون ليلة يوم 20 أفريل في الوهاد والروابي القريبة من المستوطنة وكان عددهم نحو 300 رجل استعدادا لمهاجمة المستوطنين، وتمكن أحد العمال القائمين على خدمة رئيس البلدية وهو المدعو حميدة بن سالم من بني خلفون من إخبار باسيطي بأن المستوطنة محاصرة.
ومع بزوغ فجر يوم الخميس 20 أفريل، وعلى الساعة السادسة صباحا، خرج أبناء المستوطنين لإحضار حزم التين المصففة في البيدر القريب من مستوطنتهم، وإذا بهم يعودون مسرعين ليخبروا أهاليهم أن التين بالبيدر قد تم حرقه، وأنهم خلال وجودهم بالمكان سمعوا صفير الطلقات النارية بتلك الجهة، وهو الأمر الذي أكدته سيدة من المستوطنين كانت متوجهة إلى العاصمة بعربتها الخاصة، ولكنها عادت بعد أن وجدت الطريق مقطوعا، ورجالا مسلحين يجوبون المنطقة، ورغم أنها لم تتعرض لأية مضايقة أو اعتداء، إلا أنها فهمت بأنه من الحكمة أن لا تحاول متابعة السير إلى العاصمة أو عبور هذا السد الذي يحرسه أولئك المسلحون.
ودق رئيس البلدية ناقوس الخطر بعد أن أدرك بأن الوضع خطير للغاية معلنا حالة الطوارئ. ولم يبق هناك واحد من المستوطنين يشك في أن الكارثة واقعة لا محالة. وطلب باسيطي من المستوطنين حضور الاجتماع العام الذي تم خلاله تحديد المنازل الثلاثة التي يجب أن يحتمي بها الجميع؛ لأنها الأكثر أمنا وهي: مقر رجال الدرك والكنيسة ومقر الجسور والطرق وهذه الأخيرة كانت مهيأة ومدعمة أفضل من غيرها لمقاومة المهاجمين.
وبمقر الجسور والطرق، تجمع عدد من المستوطنين تحت قيادة المسير لتلك المصلحة، ومعه حارس الفحص، وبها أيضا تم حفظ وتخزين المؤن الغذائية. أما رئيس البلدية وضابط الدرك ومن كان معهم فقد اتخذوا من الثكنة مكانا لصد هجمات الثوار، في حين أن الكابتن أوجي تكفل بالتنظيم العام للمدافعين عن الكنيسة التي ضمت عددا من الأفراد.
وما كاد أولئك المستوطنون ينتهون من تنظيم أنفسهم في المجموعات المشكلة، حتى شاهدوا في أعلى برج قايد دوار عمال راية القبة بزاوية بابا علي، خفاقة في السماء وتتحرك يمينا وشمالا وفي كل الاتجاهات، لتدخل بعدها أفواج من الرجال المسلحين المستوطنة التي كانوا لها مطوّقين من جميع النواحي دون أن يحاولوا الاقتراب من الديار الثلاث، بل ركزوا على مهاجمة وتدمير المنازل الأخرى منها مزرعة وفرن صناعة الآجر والقرميد التابعة لرئيس البلدية باسيطي، حيث كان أحد الأوروبيين بالمصنع حارسا وقد حاول صدّ المهاجمين فتم تحييده في الحين. وفي نفس الوقت، كانت مجموعة أخرى بقيادة محمد بورحلة أمين، فرقة آيت نزار بدوار بني خلفون، تدمر منزل بروسي الذي كان يحرسه أحد الأوروبيين، غير أنه لم يمس بسوء؛ لأن محمد أولحاج أو حليل كان قد شمله بعنايته (حمايته) وسرعان ما أخذه إلى الجبل وأبعده عن غضب الثوار، وعلى الطريق كان هناك إسبانيان أحاط بهما الثوار، فلما تبين أنهما ليسا مسلحين تركوهما لحال سبيلهما دون أن يؤذوهما.
في حين أن مجموعة من الثوار هاجمت المنزل الذي كان في الزبربورة على بعد 05 كلم شرق قرية باليسترو، وأحرقته دون أن تتعرض لحارسيه الاثنين بسوء؛ لأن الحاج عمر من فرقة المرابطين بأولاد عيسى أو شرفة القلعة قام بحمايتهما وأخذهما عنده بمساعدة أحمد بن عمر الخلفوني.
وطوال يوم 20 أفريل لم يتوقف الثائرون عن تدمير ممتلكات المستوطنين في باليسترو، حيث كانوا يطلقون رصاص بنادقهم نحو المنازل التي كانت تضم رجال الدرك ورئيس البلدية الذين تحصنوا بها، ولكن دون محاولة الاقتراب منهم.
وفي صباح اليوم الموالي 21 أفريل، وصل مبعوث القايد إلى بودواو، ولكنه اضطر إلى التوقف عن مواصلة طريقه بسبب المعركة التي كانت دائرة بين ثوار الخشنة والعساكر الفرنسية على مشارف المدينة، ولذلك لم يتمكن من إعطاء الرسالة للمسؤول العسكري حتى أواخر النهار وبدوره فإن هذا الأخير لم يتمكن من إرسال البرقية إلى المسؤولين بالعاصمة حتى وقت متأخر جدا من ليلة 21/22 أفريل.
أما في باليسترو، فقد كانت ليلة 20/21 أفريل 1871 مضطربة بسبب الطلقات النارية المتكررة التي كان الهدف منها إرهاق المحاصرين الأوروبيين حتى لا يذوقوا طعم النوم فيتعبوا ويسهل على الثوار بعد ذلك الإجهاز عليهم..
وفي صباح اليوم 21 أفريل، كانت فرق دوّار عمال والزواتنة قد انطلقت من برج القايد الذي كان به نحو 1200 مسلح باتجاه مستوطنة باليسترو، حيث اعترض طريقهم أحد المستوطنين بسلاحه فأردوه قتيلا، قبل أن يتمكن من إصابة أي فرد منهم. في حين أن الأوروبيين الذين كانوا بالقرب من باب الثكنة التي احتموا بها، عادوا جميعهم إلى الداخل.
ويوم الأحد 23 أفريل، توجه الثوار بالأسرى إلى قرية حميشة حيث أقاموا عند أمين الأمناء سعيد أو علي الذي كان يحتفظ حتى ذاك الحين بالكابتان أوجي وابن رئيس البلدية السابق باسيطي. وفي منزله أعطي للأسرى بعض الزرابي والحصائر.
أما المستوطن الفرنسي الذي نجا من غضبة الثوار التي عاشها الفرنسيون يوم 21 أفريل فقد التجأ إلى قرية القايد الحاج أحمد بن دحمان يوم الأحد 23 أفريل حيث استقبله القايد بكل إحسان ووعده بالنجاة إن لم يغامر بالخروج من القرية.
كل هذه الأحداث والسلطات الفرنسية لم تتمكن حتى ذاك الحين من معرفة أي شيء عن مصير الأسرى الآخرين لسببين:
-  أولا - قوات المقراني بمنطقة سوفلات كانت قد شغلت السلطات العسكرية عن تتبع أخبار المعمرين المختطفين في باليسترو، بعد تدمير القرية. فالمواجهة هناك كانت المحطة المصيرية للطرفين الفرنسي والجزائري.
-  ثانيا - لم تتسرب أية أخبار عن الأسرى سوى أن قايد الزواتنة حسين بن الطاهر الذي لم يكن من المؤيدين للثورة أخبر الملازم ديسنوايي في بودواو عن وجود 40 مستوطنا أسيرا عند سعيد أورمضان بأعالي قرية حزامة.
وتوجه الثوار يوم 22 أفريل نحو ذراع الميزان بعد أن طردوا المستوطنين الأوروبيين الذين كانوا في باليسترو، وأسروا من قاوم منهم، وأثناء تنقلهم ذاك، حطموا كل ما صادفوه في طريقهم من مزارع المعمرين ومنازلهم بالإضافة إلى الخطوط الهاتفية.

الحلقة الأولى