طباعة هذه الصفحة

مذكرات مجاهدي الوادي مصدر لكتابة التاريخ النضالي والثوري

” شاهـدٌ علـى ثورة التحريـر” للمجاهـد العربـي بلـول..أنموذجـا

فوزي مصمودي باحث في التاريخ مدير المجاهدين لولاية الوادي

تميّزت المكتبة التاريخية على مستوى ولاية الوادي في العشريتين الأخيرتين بصدور كمّ معتبر من مذكرات المجاهدين التي رواها أصحابها من صُنّاع ثورة نوفمبر 1954 على نخبة من الأساتذة والباحثين والإعلامين الذين قاموا بدورهم بالتدقيق فيها وتحريرها وسهروا على إخراجها وإصدارها في كتب ورقية، كإحدى أبرز المصادر التي يعتمد عليها الأكاديميون والباحثون والأساتذة في كتابة تاريخنا النضالي والثوري، والطلبة في إنجاز أطروحاتهم ورسائلهم الجامعية..

ومن هذه الأعمال القيمة، مذكرات المجاهدين: مبروك حمتين، محمد الصالح نصير، بوغزالة حمد الهادي، الجيلاني طليبة، إبراهيم معتوقي، بلقاسم خالدي، مصباح بريك..التي أشرف على تحريرها الدكتور طليبة بوراس رئيس مصلحة بمديرية المجاهدين وذوي الحقوق لولاية الوادي، وأخرى أنجزها أصحابها مثل مذكرات المجاهدين: العربي بلول، تواتي إبراهيم معمر، ناوي محمد، بن عون عبد القادر، دقاشي الصادق، عمار حشية، بن علي مسعود بن المكي، عاشور أحمد بن البشير، الجيلاني غنبازي، علي بوغزالة، زنقي بلقاسم،..وغيرهم.

مذكرات المجاهد العربي بلول:

ومن أبرز الإصدارات في هذا الشأن مذكرات عضو جيش التحرير الوطني المجاهد العربي بلول التي صدرت في طبعتها الأولى عام 2010 في (103 صفحة) بمطبعة مزوار بالوادي، بينما الطبعة الثانية فكانت عام 2012 في (94 صفحة) بمطبعة سخري بالوادي، عن دار الثقافة الشهيد محمد الأمين العمودي، وجاءت بعنوان (شاهد على ثورة التحرير..المجاهد العربي بلول 1956 ـ 1962) والتي تخللتها عديد الصور والوثائق، وتعدّ أول مذكرات لمجاهد تصدر بالوادي.
وقد رَفع المجاهد العربي بلول ـ رحمة الله عليه ـ شكره وتقديره إلى كل من الأستاذ عمارة بوترعه الذي ساعده في تحريرها، والذي سبق أن نَشَرَ أجزاء منها بـ (مجلة أول نوفمبر) التي تصدر عن المنظمة الوطنية للمجاهدين ضمن عدديها رقم 100 و101 لشهري جانفي وفيفري 1989، وكذا للأستاذ رشيد هميسي على مساهمته في إعداد مقدمة المذكرات، وأخرى للسيد محمد حامدي المدير السابق لدار الثقافة محمد الأمين العمودي التي تحملت مؤسسته طباعتها.
وقد استهلت هذه المذكرات بكلمة للسيد بشير عبادي الأمين الولائي للمنظمة الوطنية للمجاهدين بالوادي، الذي أكد على أن من المهام السامية والمسؤولية التاريخية التي تحملها المنظمة هي “الحفاظ على ذاكرة الأمّة لما تمثله من قيم ومبادئ ومُثُل عُليا تتوارثها الأجيال، واعتبارا لكون المجاهدين هم جزء من هذا المجتمع فإن مسؤولياتهم التاريخية متواصلة بتبليغ الرسالة النوفمبرية للأجيال الحالية واللاحقة، والعمل على كتابة وتسجيل وتدوين مذكراتهم الشخصية لتمكين جيل الاستقلال من الاطلاع على الكنز التاريخي وعلى الرموز والمآثر والبطولات والتضحيات التي قدّمها الآباء والأجداد”.
 إلى جانب إصدار للسيد مدير الثقافة سابقا السيد محمد حامدي الذي أكد فيه بأن الدولة الجزائرية عازمة على إعادة كتابة تاريخ الثورة التحريرية، شاكرا المجاهد العربي بلول وأبنائه، وكذا إذاعة سوف التي كانت سَبّاقة في التعريف بمسيرة هذا المجاهد الفذ من خلال برنامجها الأسبوعي (شاهد من الثورة) الذي كان يُعده ويقدّمه الأستاذ بوراس طليبة.
 وفي مقدمته لمذكراته، جعل المجاهد العربي بلول هدفين أساسين من تدوين سيرته الثورية، أُولاها ــ حسب ما يذكر ــ “ لكي أحفظ للجزائر تاريخها والتاريخ أمانة، أما الهدف الثاني فلكي أشعل في قلوب أبناء الجزائر وطنيتهم وأبُثّ فيهم حبّ الوطن لينهضوا به ويقيموه بما يتناسب مع مقتضيات حياتهم المعاصرة، فالنضال ليس محصورا على البندقية والدم، فللقلم شأنه وللكلمة شأنها وللمسؤولية شأنها وللساعد شأنه”.

نُتَــف مـــن حيــاة المجاهـد:

 وقد توزّعت هذه المذكرات على أبواب مختصرة تناولت التعريف بالمجاهد العربي بلول بن محمد الصالح بن العربي ومسعودة بنت عبد القادر بلول، الذي ولد خلال شهر أكتوبر1933 ببلدية البياضة بولاية الوادي، وقد تمكن في سنّ مبكرة من حفظ ما تيسّر من القرآن الكريم بمسجد الشيخ العيد بن يامة، على يد الشيخ الحبيب بن العيد بن يامة. ونتيجة للفقر المدقع الذي كانت عليه أسرته ــ على غرار أغلب العائلات الجزائرية خلال الحقبة الاستعمارية المظلمة، لاسيما في منطقة وادي سوف التي كانت تخضع للنظام العسكري الجائر الذي كان مطبقا بالجنوب الجزائري من قبل إدارة الاحتلال الفرنسي ــ فقد اضطر الفَتَى العربي بلول إلى ترك الكُتّاب ليتفرغ إلى مساعدة والده في رعي الماشية بمنطقة الدخلة ببلدية نقرين بولاية تبسة.
 وقد ظل على هذه الحال حتى قيام ثورة غُرة نوفمبر 1954، حيث يروي في مذكراته أنه شاهد لأول مرة العلم الوطني عام 1955 بمنطقة بن قشة بولاية الوادي من قبل المجاهد مسعود ديدي، الذي كان يَضَعُه على لباسه العسكري. وخلال عام 1956 لَبّى نداء الواجب الوطني والتحق بصفوف الثورة مجاهدا مسلحا.

معارك وأعمال نوعية في مسيرته الثوريـــة:

كما تناول في مذكراته المعارك والاشتباكات والكمائن التي شارك فيها وكان أغلبها بتراب ولاية تبسة وبالحدود التونسية؛ منها على الخصوص معركة عين طاهر بالحدود الجزائرية التونسية وتحديدا بمنطقة الشبيكة والخنقة في 7 جانفي 1957، التي استخدم فيها العدو الطائرات والمدافع..ومعركة والخنقة بتاريخ 15 مارس 1957 بقيادة محمد الحبيب جراية، وكذا الهجوم على الكويف بولاية تبسة في أكتوبر 1958، وقد ذكر صاحب المذكرات أن من المجاهدين الذين كانوا معه في هذا الهجوم: “المولدي بريك والجيلاني مهاوات والعربي سعدين المدعو العربي بريك من الوادي وإبراهيم عبيد من بئر العاتر”، إلى جانب الهجوم على مركز القنقيط ببكّاريا بتبسة في نوفمبر 1958 بقيادة الرائد فلاح، وكان معهم آنذاك صُحفي ألماني يحسن اللغة العربية.
كما شهد كميناً ضد العدو على الطريق الرابط بين الكويف وحيدرة بالتراب التونسي في بداية عام 1959، وكمين آخر في 18 سبتمبر 1959 بمنطقة هنشير الحديد بجبل بوربعية ضد شاحنة ودبابة فرنسيتين، وكذا الهجوم على الكويف مرة ثانية، وآخر على مركز العدو بذراع الحديد في أواخر ديسمبر 1959. كما شارك في الهجوم الثاني على مركز القنقيط في جانفي 1961، إلى جانب معركة 23 جويلية 1961 بقيادة المجاهد صالح السوفي بضواحي بكّاريا بتبسة..

مشاركته في الهجومات على مراكز العدو الحدودية

ومن الهجومات الفاصلة التي شارك فيها المجاهد العربي بلول الهجوم على طول الحدود التونسية في أوائل شهر سبتمبر1961 وبتخطيط من قبل قيادة أركان الجيش بإشراف العقيد هواري بومدين التي عرفت بهجومات الـ (25 يوما)، وقد امتدت من البحر شمالا إلى صحراء بئر العاتر جنوبا، وقد استهدفت هذه العمليات النوعية مراكز العدو على طول الحدود التونسية، حيث الخطوط الشائكة والمكهربة الشهيرة بخطي شال وموريس التي شرع الجيش الفرنسي في إقامتها بداية من سنة 1956، تكبّد العدو على إثرها خسائر كبيرة في العتاد والأرواح، وهي شبيهة بالهجومات على الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 – إلى حدّ ما ــ
وخلال هذه الفترة، تدرّج في الرُتب من جندي إلى رامي هاون خفيف إلى عريف ثم عريف أول قائد رشاش 24، ثم رقيب ومنه إلى محافظ سياسي.
وبعد أن استرجعت بلاده سيادتها الوطنية فقد واصل نضاله في سبيل بناء جزائر مستقلة وآمنة ومزدهرة وحماية حدودها، حيث بقي ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي حتى عام 1972، حيث أحيل على التقاعد، ليواصل العمل في الحياة المدنية بمتوسطة أمير شعراء الجزائر محمد العيد آل خليفة بالدبيلة، ومنها إلى متوسطة مقى عمار بذات البلدية، حتى تقاعد نهائيا عام 1994، ليحج في العام الموالي إلى بيت الله الحرام بجواز سفر للحج مُهدى من قِبَل وزارة المجاهدين وذوي الحقوق.

المجاهـد الشاعـــر

للإشارة، فإن مُجاهدنَا لم يكتف فقط بمقارعة الغزاة بالسلاح والصبر والتضحية والشجاعة بل أنطقته الثورة شعرا فجادت قريحته بمجموعة من القصائد الشعبية الثورية التي تنبض وطنية وإخلاصا لوطنه وأمته وقد قالها على السّليقَة، والتي نتمنى أن تُجمع وتطبع في عمل مستقل، وضمن هذا الإطار ذكر لي نجله السيد عبد الحي أن العائلة تحتفظ بتسجيلٍ كامل وبصوته لقصائده ومقطوعاته الشعرية، ومن ذلك قصيدة (من وحي النضال الثوري) التي نشرها في آخر مذكراته، ومطلعها:

 مَـاذَا مْشَتْ رجلي جْبال وبْحاير  والعين شافت شِي تبقى حايـر
المدفع إيكُحْ وقنابل الطيــارة وبِارادتي حبيت نصبح ثاير
   مشيت بنية وخلّيت أمي ولعزاز عليّا في حرب ثاير لمن واقظ بيّا
اسلاحي ثمونية والذخيـرة ميّـة   اتفـاجي عليـا كيف نصبح حـايـر
حتى يقول:
أمي الحنينة ما بْكت وناحت مكتوب من ربي صبغلي ساير

وفــاتـــــه..

    وتشاء الأقدار أن يلتحق المجاهد العربي بلول بالشهداء والصالحين يوم الجمعة 31 جانفي 2025 وقد شهدنا جنازته المهيبة التي تمت في اليوم الموالي والتي حضرها رفقاء دربه من المجاهدين وأبناء الشهداء وأبناء المجاهدين وجمع غفير من المواطنين الذين اكتظت بهم مقبرة حي الهمايسة ببلدية حاسي خليفة، بعدما أبّنه المجاهد بشير عبادي الأمين الولائي للمنظمة الوطنية للمجاهدين، تاركا وراءه تاريخا حافلا ومواقف وطنية ثابتة ومذكرات هي مرجع لنا جميعا وأولاده هم: نور الدين (كمال)، بدر الدين، إسماعيل، محمد الصالح، عبد المجيد، وعبد الحي، إلى جانب أربع بنات.