طباعة هذه الصفحة

الذكرى المزدوجة 20 أوت..من هجومات الشمال القسنطيني إلى مؤتمر الصومام:

مسار التحول الاستراتيجي في الثورة الجزائرية 1955-1956

منطق الدّولـة يتجلـى فـي عبقريــة هجومـات الشـمال القسنطيني وتوثيقـات الصومـام

وثائق فرنسية سريّة تكشف عمق الارتباك في صفوف الاحتلال

 

تحلّ الذكرى المزدوجة لـ20 أوت، جامعةً بين هجومات الشمال القسنطيني (1955) ومؤتمر الصومام (1956)، كإحدى المحطات الأكثر إشعاعًا في مسار الثورة الجزائرية، ومفصلًا حاسمًا في صياغة مشروعها التحرري، فليست هذه الذكرى مجرّد وقفة رمزية أو احتفال وطني، بل هي لحظة استعادة واعية لمرحلة تاريخية تَوحَّد فيها البعدان: التعبئة الشعبية المسلحة والتنظيم السياسي المؤسّس، في مسار واحد متكامل..لقد جاءت هذه اللحظة في سياق داخلي مشحون بالآمال والمخاطر، حيث كان الشعب الجزائري قد خاض في نوفمبر 1954 ثورة كبرى ضد قوة استعمارية من أعتى القوى العسكرية والسياسية في القرن العشرين، بينما كانت الجزائر تعيش واقع القمع الممنهج، ومحاولات الإدماج القسري، والحصار الإعلامي والدبلوماسي الذي سعى الاستعمار الفرنسي إلى فرضه لعزل الثورة عن امتدادها العربي والعالمي.
وفي الوقت الذي سعى فيه الاحتلال إلى تقديم الثورة على أنها تمرّد محدود أو عمل فوضوي، جاءت هجومات الشمال القسنطيني لتقلب المعادلة، وتفتح أمامها أفقًا جديدًا من الدّعم الشعبي والميداني، فيما مثّل مؤتمر الصومام نقطة الانعطاف نحو عقلنة الثورة ومأسسة قرارها، بما عزّز قدرتها على الصمود والمناورة، وأتاح لها الانتقال من طور المبادرة الثورية إلى طور المشروع السياسي الوطني الشامل.

 

❊الدكتور نورالدين السد - الجزائر
الحلقة الأولى
إن استعادة هذه المحطة المزدوجة اليوم، ليست فقط استرجاعًا لماضٍ مجيد، بل هي أيضًا دعوة إلى إعادة قراءة الثورة الجزائرية بوصفها مدرسة في الاستراتيجية، ودرسًا عالميًا في كيفية الجمع بين الفعل المسلّح والبناء السياسي في أعتى الظروف، وهو ما يحتاج إلى تحليل علمي تاريخي يستند إلى وثائق أرشيفية، ويُقارب الحدث برؤية نقدية تستكشف أثره البعيد على مسار الاستقلال وبناء الدولة.
من الإشكاليات التي تطرحها أية قراءة للذكرى المزدوجة 20 أوت هي:
@ كيف أسهمت هجومات 20 أوت 1955 في صياغة القرار السياسي والتنظيمي لمؤتمر الصومام؟
كيف جمعت ثنائية 20 أوت بين “شرارة التعبئة الشعبية” و«عقلنة الثورة”؟
كيف تفاعل الحدثان في تشكيل المسار التحرري حتى 1962؟
وما أثر هذا الجمع على مسار التحرير وبناء الدولة لاحقًا؟
 ثم لا بد من الإشارة إلى الأهداف التي  تسعى إليها هذه القراءة في الأحداث التاريخية الكبرى وأثرها في مسار ثورة التحرير الوطني، وهي حسب الرصد التاريخي متمثلة في ما يلي:
1- تحليل البنية السياسية والعسكرية للثورة بين 1954 و 1956.
2- دراسة أثر هجومات الشمال القسنطيني 20 أوت 1955 على تغيير ميزان القوى في الداخل والخارج.
3- قراءة أرشيفية لوثائق الصومام وما سبقها وما تلاها.
4- إبراز التفاعل الجدلي بين الميدان والسياسة عبر خريطة زمنية تحليلية.
5- استخلاص الدروس الاستراتيجية للثورات المعاصرة من التجربة الجزائرية.
محاور القراءة وتحليل الأحداث:
--  المحور الأول:
-- الخلفية التاريخية والسياسية لهجومات الشمال القسنطيني، الظرف التاريخي، والمرحلة التأسيسية للثورة الجزائرية:
--- السياق التاريخي والظرف الدولي بين 1954 و1956:
1-- الوضع السياسي والاجتماعي في الجزائر عشية 1 نوفمبر 1954:
عشية اندلاع ثورة التحرير، كانت الجزائر تعيش حالة استعمارية مركّبة امتدت منذ 1830، اتسمت بثلاثة أبعاد رئيسية هي:
-- البعد الإداري والسياسي:
فرنسا لم تعتبر الجزائر مستعمرة بالمعنى التقليدي، بل إقليماً فرنسياً مدمجاً، مقسمًا إلى ثلاث ولايات (قسنطينة، الجزائر، وهران) وفق قانون 1848، مع حرمان الغالبية العظمى من الجزائريين من الحقوق السياسية والمدنية.
-- البعد الاقتصادي:
سيطرة المعمّرين الفرنسيين على أكثر من 70% من الأراضي الزراعية الخصبة، خاصة في السهول الساحلية ومنطقة الهضاب العليا، ما أدى إلى تهجير الفلاحين الجزائريين إلى الأراضي القاحلة والجبال.
-- البعد الاجتماعي:
تكريس نظام تمييزي صارخ، حيث تُظهر وثيقة فرنسية من “Gouvernement Général de l’Algérie – Service des Affaires Indigènes” لسنة 1954 أن معدل الدخل السنوي للجزائري المسلم كان أقل بـ10 مرات من نظيره الأوروبي المقيم، مع نسب أمية تجاوزت 85% في صفوف الجزائريين، بعد أن كانت نسبة الأمية نادرة، وتكاد تكون منعدمة قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر.
- البعد السياسي:
من الناحية السياسية، كانت الحركة الوطنية الجزائرية تعيش وضعا تنافسيا حادة بين التيار الإصلاحي (جمعية العلماء المسلمين)، والتيار الاستقلالي السياسي (حزب الشعب – حركة انتصار الحريات الديمقراطية)، والجناح المسلح الناشئ (اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي ستتحول إلى جبهة التحرير الوطني)، هذا الوضع جعل العمل الثوري بحاجة إلى مبادرة حاسمة تعيد توحيد الجهود.
- السياسات الاستعمارية الفرنسية وأساليب القمع والإدماج:
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، انتهجت فرنسا في الجزائر سياسة مزدوجة تمثلت في:
1-- قمع أمني وعسكري:
خصوصًا بعد مجازر 8 ماي 1945 في سطيف، قالمة، وخراطة، التي أسفرت عن مقتل 45 ألف جزائري، مع اعتقال الآلاف، هذه المجازر رسّخت في الوعي الجزائري أن المطالبة السلمية بالحقوق لن تجدي.
2-- إصلاحات شكلية للإدماج:
 قانون 20 سبتمبر 1947 المعروف بـ”Statut de l’Algérie”، الذي أنشأ “الجمعية الجزائرية”
(Assemblée Algérienne) بصلاحيات محدودة، لكنه أبقى نظام التصويت المزدوج (المعمّرون الأوروبيون في هيئة، والأغلبية المسلمة في هيئة أخرى) مما أبطل أي فعالية للتمثيل الجزائري.
-- الإطار الجغرافي والزمني لهجومات الشمال القسنطيني:
الهجمات وقعت في 20 أوت 1955 في مثلث شمال-قسنطينة: (امتدت العمليات في مناطق واسعة من الشمال القسنطيني، بما في ذلك مدن وقرى مثل سكيكدة، الحروش، القل، عين عبيد، وادي الزناتي، السمندو، والخروب، بالإضافة إلى  بعض الدواوير والقرى المجاورة.
كان المنفذون للعمليات العسكرية يهدفون إلى  فتح جبهة واسعة في شمال القسنطيني لإرباك السيطرة الفرنسية، وكسر الطوق المفروض على ثورة التحرير الجزائرية.
ففي تقرير سري للمقيم العام الفرنسي روبير لاكوست بتاريخ 10 أكتوبر 1955، المحفوظ في Archives Nationales d’Outre-Mer، يؤكد أن السلطات الفرنسية كانت على علم بتصاعد العمل السري المسلح، لكنها اعتقدت أن “العمليات المحدودة يمكن احتواؤها”، وهو تقدير ثبت خطؤه لاحقًا بعد أحداث 20 أوت 1955.
-- 3 -- موقع الجزائر في خريطة الحركات التحررية العالمية:
الفترة بين 1954 و1956 شهدت تصاعد موجة التحرر في آسيا وإفريقيا:
-- آسيا:
 انتصار الثورة الفيتنامية على فرنسا في ديان بيان فو (1954)، ما شكل صدمة لباريس وأثبت أن قوة استعمارية كبرى يمكن هزيمتها عسكريًا.
-- إفريقيا:
استقلال بعض الدول، وهو ما أعطى دفعة معنوية واستراتيجية للثورة الجزائرية، إذ وفّر لها عمقًا جغرافيًا ولوجستيًا مهمًا.
-- العالم العربي:
صعود المد القومي بقيادة جمال عبد الناصر، خاصة بعد مؤتمر باندونغ (أفريل 1955)، الذي وضع القضية الجزائرية في سياق أوسع من صراع الجنوب العالمي ضد الاستعمار.
وثيقة من وزارة الخارجية الفرنسية مؤرخة في 2 سبتمبر 1955  (Réf: MAE/AFN/  32 - 1955 ) تحذّر من أن “الجزائر قد تتحول إلى فيتنام شمال إفريقية” إذا لم يتم حسم الوضع بسرعة، وهو تعبير يعكس القلق الفرنسي من تدويل القضية.

--4 -- البيئة الممهدة لهجومات الشمال القسنطيني:
إجمالاً، يمكن القول إن الفترة بين 1954 و1956 كانت بيئة متفجرة على المستوى الداخلي بالنظر إلى الظلم الاجتماعي الصارخ، والتهميش السياسي، والمجازر الدامية الحديثة العهد التي يمارسها النظام الاستعماري الفرنسي على المواطنين الجزائريين.
وعلى المستوى الخارجي:
عرفت فرنسا الاستعمارية هزائم في آسيا، وخاصة في فيتنام (ديان بيان فو) بالإضافة إلى تحرر دول الجوار المغاربي، وصعود التضامن العربي الإفريقي.
استراتيجيًا:
قناعة متزايدة لدى قيادة الثورة بأن توسيع رقعة العمليات المسلحة وتوحيد الخطاب السياسي بات ضرورة لا مفر منها، وهو ما سيمهد مباشرة لأحداث 20 أوت 1955 ومؤتمر الصومام 1956.
المحور الثاني:
هجومات الشمال القسنطيني – التعبئة الشعبية وكسر الحصار:
--1-- خلفية التخطيط والدوافع الاستراتيجية:
بعد مرور تسعة أشهر على اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، كانت القيادة الثورية تواجه تحديًا مزدوجًا: محدودية نطاق العمليات المسلحة في مناطق الأوراس وبعض الجيوب الجبلية، وبقاء الدعاية الفرنسية مسيطرة على المشهد الدولي، مقدّمة الثورة على أنها “تمرّد محليّ معزول”.
القائد زيغود يوسف الذي تولى قيادة الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) عقب استشهاد ديدوش مراد، أدرك أن استمرار الثورة يتطلب عملًا نوعيًا واسع النطاق يحقق ثلاثة أهداف متزامنة:
-توسيع رقعة المواجهة لكسر الطوق العسكري والإعلامي.
-إشراك الجماهير الشعبية مباشرة في العمل الثوري لكسب الشرعية الشعبية.
-إرسال رسالة سياسية قوية للداخل والخارج بأن الثورة مشروع وطني شامل لا يمكن احتواؤه محليًا.
--2-- سير العمليات الميدانية:
في صباح 20 أوت 1955، شُنّت هجمات منسقة على أكثر من 26 هدفًا في مناطق سكيكدة، الحروش، القل، السمندو، الميلية، زيغود يوسف، وحتى بعض القرى الساحلية.
شملت العمليات:
-استهداف مراكز الدرك والثكنات العسكرية.


قطع خطوط الهاتف والبرق.
مهاجمة المستودعات اللوجستية الفرنسية.
تنظيم مسيرات شعبية في بعض المراكز العمرانية لدعم الهجوم وإرباك القوات الاستعمارية.
شهادة المجاهد محمد الطاهر العبيدي، المحفوظة في أرشيف الولاية الثانية، تذكر:
 “كانت الخطة تقوم على مباغتة العدو من أكثر من محور في وقت واحد، مع جعل المدنيين جزءًا من المشهد، حتى يشعر الفرنسيون أن الشعب كله أصبح في الميدان”.

--3-- رد الفعل الفرنسي – الوثائق السرية
وثيقة فرنسية مؤرخة في 23 أوت 1955، صادرة عن
“État-Major de la 10e Région Militaire – Constantine” (مرقمة: EM/10RM/OPS/1955-287)، تصف ما جرى:
 “تعرضنا لهجمات مباغتة ومنسقة في مناطق متفرقة من الشمال القسنطيني، شارك فيها مئات المسلحين، مدعومين من آلاف المدنيين. ما يميز هذه العمليات هو تنوع الأهداف، وتزامن الضربات، وجرأة المهاجمين الذين انسحبوا إلى الجبال قبل وصول الإمدادات.”
وتشير نفس الوثيقة إلى أن الخسائر الفرنسية بلغت في يوم واحد:
71 قتيلًا من العسكريين ورجال الشرطة والدرك.
37 قتيلًا من المعمّرين الأوروبيين.
تدمير أو تعطيل 9 مراكز أمنية.

--4-- المجازر الانتقامية وأثرها الدعائي:
الرد الفرنسي كان دمويًا. تقارير الصليب الأحمر الدولي ومنظمة العفو الدولية لاحقًا وثّقت أن القوات الفرنسية، بمساعدة ميليشيات المعمّرين، نفذت عمليات انتقامية في القرى، راح ضحيتها ما بين 1.200 و3.000 مدني، وفق تقديرات مختلفة.
وثيقة سرية أخرى من “Ministère de l’Intérieur – Direction des Affaires Algériennes” بتاريخ 5 سبتمبر 1955، تعترف ضمنيًا بأن رد الفعل “كان مفرطًا في العنف وأحدث أثرًا عكسيًا، حيث زاد من انضمام القرويين إلى صفوف المتمردين”.

---5-- الاستنتاجات السياسية والاستراتيجية:
يمكن القول إن هجومات الشمال القسنطيني مثّلت نقطة تحول استراتيجية للثورة الجزائرية لعدة أسباب:
-- كسر الحصار الإعلامي:
 لأول مرة تتصدر أخبار الثـــــورة الصحـــــف العالميـــة، مثل Le Monde و The Times، التي تحدثت عن “انتفاضة شاملة في الجزائر”.

-- توسيع رقعة الثورة:
 الانتقال من مناطق محدودة إلى جبهة واسعة تمتد من الساحل إلى الداخل.
-- تحفيز التعبئة الشعبية:
الهجمات دفعت آلاف الشباب للالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني.
-- إرباك القيادة الفرنسية:
التقارير الداخلية الفرنسية أظهرت تخبطًا في التقدير بين اعتبار ما جرى حادثًا معزولًا أو بداية مرحلة جديدة من الحرب.
-- إعادة الثقة الداخلية:
الهجمات أعادت المعنويات للولايات الأخرى، ورسّخت قناعة بأن الحسم العسكري ضد فرنسا ممكن إذا تضافرت الجهود.
هذه العملية، برغم كلفتها البشرية العالية، وضعت فرنسا أمام معادلة جديدة: أن الاستمرار في إنكار البعد الشعبي والسياسي للثورة لم يعد ممكنًا، وهو ما مهّد لاحقًا لانعقاد مؤتمر الصومام 1956 بهدف تنظيم هذه الكثافة من الإنجازات الكبيرة لصالح ثورة التحرير الوطني..
المحور الثالث:  
مؤتمر الصومام – التأسيس السياسي والتنظيمي للثورة:
--1-- خلفية انعقاد المؤتمر – الحاجة إلى الهيكلة:
مع منتصف 1956، كانت الثورة الجزائرية قد اتسعت رقعتها الجغرافية، خاصة بعد نجاح هجومات الشمال القسنطيني، لكن هذا التوسع حمل معه مخاطر التشتت القيادي وغياب التنسيق الاستراتيجي.
غياب عدد من القادة الأوائل باستشهادهم أو اعتقالهم (استشهاد ديدوش مراد، واستشهاد مصطفى بن بولعيد، واعتقال المجاهد رابح بيطاط…).
-- تباين الرؤى بين القيادات الداخلية والخارجية حول أولويات العمل (العسكري أم السياسي).
-- تفاوت القدرات الميدانية بين الولايات التاريخية.
إن الثورة الجزائرية بعد سنتين من اندلاعها في أول نوفمبر 1954، رأى بعض قادتها أنه من الضرورة عقد مؤتمر وطني يضع أسسًا تنظيمية وسياسية واضحة لها، تضمن مأسسة الثورة وتحويلها من مجرد فعل مسلح إلى مشروع تحرري شامل.

---2-- ظروف الانعقاد – التحدي الأمني:
انعقد المؤتمر في قرية إيفري اوزلاقن بمنطقة الصومام (ولاية بجاية حاليًا) يوم 20 أوت 1956، في ظل حصار عسكري فرنسي خانق.
تنقل المندوبون سرًا عبر الجبال، بوسائل تمويه معقدة، لتجنب الكمائن.
الولاية الأولى (الأوراس) غابت بسبب المعارك الضارية مع الجيش الفرنسي، ما أثار لاحقًا جدلًا حول تمثيلها.
وثيقة فرنسية من
“Service de Renseignements – 5e Bureau” (رقم الملف: SR/5B/OPS/1956-198)، بتاريخ 28 أوت 1956، تشير إلى أن المخابرات الفرنسية كانت على علم جزئي بوجود “لقاء كبير” للقيادات، لكنها فشلت في تحديد الموقع بدقة، رغم نشر وحدات من المظليين في مناطق القبائل.

--3-- مخرجات المؤتمر – النصوص التنظيمية والسياسية:
من خلال الاطلاع على نسخة من الوثيقة الأساسية لمؤتمر الصومام منشورات Anep ونسخة من “محضر جلسات مؤتمر الصومام” المحفوظة في الأرشيف الوطني الجزائري (سلسلة: ALN/CNRA/1956)، يتبين أن النقاط الجوهرية كانت:
إعلان مبدأ أولوية الداخل على الخارج: القرار النهائي في القضايا الاستراتيجية يجب أن يصدر من القيادات الميدانية داخل الوطن.
أسبقية السياسي على العسكري: منع عسكرة القرار الوطني، وضمان وجود قيادة سياسية منتخبة.
تأسيس المجلس الوطني للثورة الجزائرية (CNRA) – بمثابة برلمان الثورة.
إنشاء لجنة التنسيق والتنفيذ (CCE) – الهيئة التنفيذية العليا.
تقسيم البلاد إلى ست ولايات عسكرية، لكل ولاية قائد وهيكل قيادي فرعي.
وضع سلم للرتب العسكرية ونظم إدارية لضبط جيش التحرير.
إدماج المرأة الجزائرية رسميًا في العمل الثوري، ميدانيًا وسياسيًا.

--4-- التقييم الفرنسي للمؤتمر – الوثائق السرية:
تقرير فرنسي صادر عن “État-Major Général à Alger” بتاريخ 15 سبتمبر 1956 (ملف رقم:
 EMG/OPS/ALG/1956-311)، يعترف بأن:
 “مؤتمر الصومام مثّل نقلة نوعية في تنظيم حركة التمرد، حيث تحوّلت إلى كيان منظم له مؤسسات، قيادة سياسية
مركزية، وقدرة على إصدار أوامر ملزمة، هذا التطور يفرض
علينا إعادة النظر في استراتيجيتنا التي كانت قائمة على تفكيك الخلايا المحلية.”
كما ورد في “٤٢Bulletin de Renseignement n°” (أكتوبر 1956) أن فرنسا باتت تواجه “حربًا سياسية بقدر ما هي عسكرية”، وهو تحول خطير في نظر القيادة الاستعمارية.
--5-- التحليل السياسي والاستراتيجي:
يمكن قراءة نتائج المؤتمر من ثلاث زوايا:
أ-- الزاوية التنظيمية:
-- تحويل الثورة إلى تنظيم مؤسسي يضمن استمراريتها، حتى في حال فقدان القادة.
-- فرض مبدأ وحدة القيادة على المستوى الوطني، ما أنهى مرحلة العمل غير المدروسة وغير المنظمة.
ب-- الزاوية السياسية:
-- الخطاب السياسي أصبح واضحًا وموجهًا نحو الخارج، ما سمح لاحقًا بتدويل القضية الجزائرية في الأمم المتحدة.
-- إشراك المدنيين والمرأة في العمل الوطني، ما عزز الشرعية الشعبية.
ج-- الزاوية الاستراتيجية:
-- أولوية الداخل على الخارج كانت خطوة جريئة، إذ وضعت القيادة في الميدان، حيث المعارك، بدل المنفى.
-- أسبقية السياسي على العسكري ضمنت عدم انزلاق الثورة إلى حكم عسكري بعد الاستقلال، رغم أن هذا المبدأ سيعرف لاحقًا تحديات.
--6-- أثر المؤتمر على مسار الثورة:
بعد الصومام، أصبح للثورة الجزائرية:
-- خارطة قيادة موحدة، ما جعل التنسيق بين الولايات أكثر فعالية.
-- لغة دبلوماسية متماسكة، استُخدمت في المحافل الدولية.
-- إستراتيجية شاملة تمزج بين الكفاح المسلح والحرب النفسية والدبلوماسية.
إن مؤتمر الصومام لم يكن مجرد اجتماع تنظيمي، بل كان تأسيسًا مبكرًا لفكرة الدولة الجزائرية الحديثة، وهو ما جعل بعض المؤرخين الفرنسيين، مثل Charles-Robert Ageron، يصفه بأنه “أخطر لحظة سياسية في تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر”.

–7-- العمق السياسي لمقررات الصومام:
إذا أردنا قراءة مؤتمر الصومام خارج النطاق المألوف للسرد التاريخي، فإننا أمام تجربة سياسية استثنائية في زمن الثورة المسلحة، لأن غالبية حركات التحرر في القرن العشرين انطلقت من العمل العسكري نحو التنظيم السياسي، لكن الصومام قام بعكس المعادلة: أسّس مؤسسات الدولة قبل قيام الدولة.
هذا الترتيب لم يكن ترفًا تنظيميًا، بل كان إدراكًا مبكرًا بأن:
-- أي فراغ مؤسساتي سيجعل النصر العسكري بلا مضمون سياسي.
-- وجود قيادة سياسية مركزية هو الضامن الوحيد لتجنب الانقسام بعد التحرير.
-- ضبط العلاقة بين العسكري والسياسي كان تحصينًا استباقيًا ضد الانقلابات أو حكم التعسفي بعد الاستقلال.
لقد استوعب مؤتمر الصومام دروس فشل ثورات سابقة في العالم، بسبب غياب مشروع سياسي واضح، وهذا ما جعل  المؤتمرين يصرّون على صياغة ميثاق وطني يحدد أهداف الثورة بدقة، مستلهمين محتوى نداء أول نوفمبر 1954 مؤكدين عمق الهوية، والنظام السياسي المستقبلي، والعلاقات الدولية المتوقعة.
--8-- الأثر الداخلي:
-- توحيد الجبهة الثورية:
بعد المؤتمر، بدأت الولايات العسكرية تتعامل مع أوامر موحدة، ما حدّ من الاجتهادات الفردية التي كانت تسبب فوضى في العمل الميداني.
توسيع قاعدة المشاركة الشعبية: إشراك المرأة، والطلبة، والنقابات، مما جعل الثورة تتحول إلى حركة تحرر شعبية شاملة.
-- رفع الروح المعنوية:
 الوثائق الداخلية للمؤتمر التي وصلت إلى القواعد الميدانية أعطت الانطباع بأن الثورة “تملك مشروعًا ودولة قيد التأسيس”، وهذا ما عزّز صمود المجاهدين.
--9-- الأثر الخارجي:
-- تدويل القضية الجزائرية:
بفضل مقررات الصومام، أصبح الوفد الخارجي لجبهة التحرير مزودًا بخطاب سياسي واضح، ما سمح له بكسب دعم من دول عدم الانحياز، ومن بعض دول أوروبا الغربية ذات المواقف الإنسانية تجاه قضايا التحرر.
-- إرباك الاستعمار الفرنسي:
 تقارير وزارة الخارجية الفرنسية عام 1956 أشارت إلى أن “الجزائر لم تعد تواجه تمردًا مسلحًا فحسب، بل كيانًا سياسيًا قادرًا على المفاوضة باسم شعبه”.
-- تعزيز التضامن المغاربي:
 مقررات الصومام ساعدت على إعادة تنشيط التعاون بين الحركة الوطنية الجزائرية وحركات التحرر، خاصة في تبادل السلاح والمعلومات.
--10-- القراءة الاستراتيجية:
إذا قرأنا الصومام من منظور فن الحرب والسياسة معًا، نجد أنه كان عملية “تعبئة استراتيجية كبرى” يمكن تلخيصها بثلاثة مستويات:
أ- مستوى الإدارة الثورية:
الانتقال من بنية غير مركزية إلى قيادة وطنية مؤسساتية كان خطوة جريئة؛ لأن اللامركزية كانت ميزة في العمل السري، لكن القيادة رأت أن الوقت حان للانتقال إلى “توحيد القرار” حتى لو كلّف ذلك مخاطر أمنية.
ب- مستوى الحرب النفسية:
الرسالة للفرنسيين كانت واضحة – أن الثورة ليست مجرد عصابات مسلحة، بل “حكومة في طور التكوين”، وهذا ما أضعف دعايتهم في المحافل الدولية.
ج- مستوى الرؤية البعيدة:
 الصومام كان يخطط لما بعد النصر، وهي ميزة نادرة في حركات التحرر، إذ أرسى مبادئ إدارة الدولة قبل قيامها، مع تصور واضح للهوية الوطنية والموقف من القضايا الدولية.
المآلات التاريخية:
على الرغم من الجدل الذي أثير لاحقًا حول بعض مقررات الصومام – خاصة مسألة “أولوية السياسي على العسكري” – إلا أن هذه الوثيقة التاريخية تبقى المخطط الأول للدولة الجزائرية الحديثة، كما أنها أرست معايير الشرعية الوطنية التي ظلت مرجعًا سياسيًا، إلى جانب بيان أول نوفمبر 1954 حتى بعد الاستقلال.