طباعة هذه الصفحة

لقبت بخولة جرجرة

«فاطمة نسومر» نموذج للجزائرية المقاومة للاستعمار

دروس لجنرالات فرنسا في البطولـة والفروسية

ولدت المجاهدة «لالا فاطمة نسومر» سنة 1830، بمنطقة «عين الحمام» بالقبائل المتواجدة، شرْقَ الجزائر، اسمها الحقيقي فاطمة سيد أحمد، لقبت بـ» نسومر» نسبة إلى قرية نسومر التي كانت تقيم فيها، كلفها أخوها الأكبر «الطيب» بالاهتمام بالمدرسة القرآنية بعد وفاة والدهما. تتميز هذه المرأة بالتدين العميق والذاكرة القوية جدا، وبتقواها وحكمتها وذكائها الحاد وتتمتع بشخصية قوية، كما كانت ترفض الاضطهاد بكل أشكاله وأنواعه، لقّبها الاستعمار الفرنسي بـ «جان دارك جرجرة».
 لكنها رفضت اللقب مفضلة لقب « خولة جرجرة» نسبة إلى «خولة بنت خويلد» الشجاعة والمدافعة عن دينها، أما كلمة «جرجرة»، فهي جبال وعرة تتواجد بمنطقة القبائل بالجزائر. وقد هزمت جيش العدو في معركة 18 جويلية 1854 حيث أرغمت الجنود الفرنسيين على الانسحاب من أراضيها، بعد أن خلفوا وراءهم أكثر من 800 قتيل، منهم 25 ضابطا و371 جريحاً. و هي التي واجهت عشر جنرالات من قادة جيوش فرنسا فلقّنتهم دروس البطولة والفروسية.
نشأت لالا فاطمة نسومر في أحضان أسرة تنتمي إلى الطريقة الرحمانية، أبوها سيدي محمد بن عيسى، مقدم زاوية الشيخ سيدي أحمد أمزيان شيخ الطريقة الرحمانية، كان يحظى بالمكانة المرموقة بين أهله، إذ كثيرا ما كان يقصده العامة والخاصة لطلب النصح و تلقي الطريقة، أما أمها فهي لالا خديجة التي تسمى بها جبل جرجرة.
 عند بلوغها السادسة عشر من عمرها زوّجها أبوها من المسمى يحيى ناث إيخولاف، إذ قبلت به على مضض بعدما رفضت العديد من الرجال الذين تقدموا لخطبتها من قبل، لكن عندما زُفّت إليه تظاهرت بالمرض و أظهرت كأن بها مسّ من الجنون، فأعادها إلى منزل والدها ورفض أن يطلقها فبقيت في عصمته طوال حياتها.
 آثرت حياة التنسك والانقطاع و التفرغ للعبادة، كما تفقهت في علوم الدين وتوّلت شؤون الزاوية الرحمانية وبعد وفاة أبيها وجدت لالا فاطمة نسومر نفسها وحيدة منعزلة عن الناس، فتركت مسقط رأسها وتوجهت إلى قرية سومر، أين يقطن أخوها الأكبر سي الطاهر، و إلى هذه القرية نسبت، حيث  تأثرت بأخيها الذي ألّم بمختلف العلوم الدينية والدنيوية، مما أهّله لأن يصبح مقدما للزاوية الرحمانية في المنطقة وأخذت عنه مختلف العلوم الدينية، ذاع صيتها في جميع أنحاء القبائل. قاومت الاستعمار الفرنسي مقاومة عنيفة أبدت خلالها شجاعة و بطولة منفردتين.
برهنت فاطمة على أن قيادة المقاومة الجزائرية ليس حكرا على الرجال فقط بل شاركت فيها النساء، و فاطمة نسومر شبّت منذ نعيم أظافرها على مقت الاستعمار، ومقاومتها له رغم تصوفها وتفرغها للعبادة والتبحر في علوم الدين والتنجيم، إلا أن هذا لم يمنعها من تتبع أخبار ما يحدث  في بلاد القبائل من مقاومة زحف الغزاة الفرنسيين، والمعارك التي وقعت بالمنطقة لا سيما معركة تادمايت التي قادها المجاهد الجزائري الحاج عمر بن زعموم ضد قوات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال بيجو سنة 1844، كما أنها لم تكن غافلة عن تمركز الغزاة الفرنسيين في تيزي وزو بين 1845-1846، وفي دلس 1847، تم محاولة الجنرال روندون من دخول الأربعاء ناث إيراثن عام 1850 التي هزم فيها هزيمة منكرة.
لما واتتها الظروف انضمت إلى المقاومة حيث شاركت بجانب بوبغلة في المقاومة و الدفاع عن منطقة جرجرة وفي صد هجومات الاستعمار على أربعاء ناث إيراثن، فقطعت عليه طريق المواصلات ولهذا انضم إليها عدد من قادة الأعراش وشيوخ الزوايا والقرى، ولعّل أشهر معركة قادتها فاطمة نسومر هي تلك التي خاضتها إلى جانب الشريف بوبغلة (محمد بن عبد الله)، في مواجهة الجيوش الفرنسية الزاحفة بقيادة الجنرالين روندون وماك ماهون فكانت المواجهة الأولى بربوة تمزقيدة حيث أبديا استماتة منقطعة النظير.
إلا أن عدم تكافؤ القوات عُدة وعددا إضطر الشريف بوبغلة بنصيحة من فاطمة نسومر الى الإنسحاب نحو بني يني، وهناك دعيا إلى الجهاد  المقدس، فاستجاب لهما شيوخ الزوايا فجندوا الطلبة وأتباعهم واتجهوا نحو ناحية واضية، لمواجهة زحف العدو على قراها بقيادة الجنرالين روندون و يوسف التركي ومعهما الباشا آغا الخائن الجودي، فاحتدمت المعركة وتلقت قوات العدو هزيمة نكراء، و تمكنت لالا فاطمة نسومر من قتل الخائن الجودي بيدها، كما استطاعت أن تنقذ من موت محقق زميلها في السلاح الشريف بوبغلة حينما سقط جريحا في المعركة.
بالرغم من الهزيمة النكراء التي منيت بها قوات روندون يتشكرت، إلا أن ذلك لم يثنه من مواصلة التغلغل بجبال جرجرة، فاحتل عزازقة  في سنة 1854 فوزع الأراضي الخصبة على المعمّرين الوافدين معه، و أنشأ معسكرات في كل المناطق التي تمكّن منها، وواصل هجومه على كل المنطقة. بالرغم من التغلغل والزحف لم يثبّط عزيمة لالة فاطمة نسومر من مواصلة هجوماتها الخاطفة على القوات الغازية فحققت انتصارات أخرى ضد العدو بنواحي يللتن والأربعاء  وتخلجت  وعين تاوريغ وتوريرت موسى، مما أدى بالقوات الفرنسية إلى الاستنجاد بقوات جديدة وعتاد حديث، إضطرت على إثرها فاطمة نسومر إلى إعطاء الأوامر بالإنسحاب لقواتها إلى قرية تاخليجت ناث عيسو، لاسيما بعد اتبّاع قوات الاحتلال أسلوب التدمير والإبادة الجماعية، بقتل كل أفراد العائلات دون تمييز ولا رحمة.
 لم يكن انسحاب فاطمة نسومر انهزام أو تقهقر أمام العدو أو تحصنا فقط، بل لتكوين فرق سريعة من المجاهدين لضرب مؤخرات العدو الفرنسي وقطع طرق المواصلات والإمدادات عليه.
الشيء الذي أقلق جنرالات الجيش الفرنسي وعلى رأسهم روندون المعزز بدعم قوات الجنرال ماكمهون القادمة من قسنطينة. خشي هذا الجنرال من تحطم معنويات جيوشه أمام هجمات فاطمة نسومر، فجند جيشا قوامه 45 ألف رجل بقيادته، اتجه به صوب قرية آيت تسورغ، حيث تتمركز قوات فاطمة نسومر المتكونة من جيش من المتطوعين، قوامه 7000 رجل و عدد من النساء، وعندما احتدمت الحرب بين الطرفين خرجت فاطمة في مقدمة الجميع تلبس لباسا حريريا أحمر كان له الأثر البالغ في خلق الرعب  بين عناصر جيش الاحتلال.
على الرغم من المقاومة البطولية للمجاهدين بقيادة فاطمة نسومر، فإن الانهزام كان حتميا نظرا للفارق الكبير في العدد والعدة بين قوات الطرفين، الأمر الذي دفع فاطمة نسومر إلى طرح مسألة المفاوضات وإيقاف الحرب بشروط قبلها الطرفان.
إلا أن السلطات الاستعمارية كعادتها نقضت العهود، إذ غدرت بأعضاء الوفد المفاوض بمجرد خروجهم من المعسكر حيث تمّ اعتقالهم جميعا، ثم أمر الجنرال روندون بمحاصرة ملجأ لالا فاطمة نسومر وتم أسرها مع عدد من النساء.   خوفا من تجدّد الثورة بجبال جرجرة أبعدت لالا فاطمة نسومر مع 30 شخصا من رجال و نساء إلى زاوية بني سليمان بتابلاط، وتم سجنها في «سجن يسر» وبقيت هناك لمدة سبع سنوات تحت حراسة مشدّدة إلى أن وافتها المنية سنة 1863 عن عمر يناهز 33 سنة، على إثر مرض عضال تسبب في شللها.