طباعة هذه الصفحة

حملت حقيبتها الطبية من القصبة إلى الأخضرية

المجاهدة باية “الكحلة”..عين على التّمريض وأخرى على الانضباط

جمال أوكيلي

ونحن في رحاب أول نوفمبر نستلهم من قيمه معاني التّضحية ونستذكر مآثر من قدّموا أرواحهم فداءً للوطن، ونستحضر من استشهد في ساحة الوغى لتحيا الجزائر حرّة مستقلّة، سقط نبأ رحيل المجاهدة تومية لعريبي المعروفة باسم “باية الكحلة” كالصّاعقة على الأسرة الثورية وكل من عرفوها أو سمعوا عنها خاصة في أعالي منطقة الأخضرية، وبالتحديد في بني أوكيل وبوكرام وغيرها من المداشر التي كانت عبارة عن قواعد خلفية للقادة الميدانيّين من علي خوجة، سي لخضر، عز الدين، الذين دوّخوا عساكر الاستعمار في هذه الجهة العزيزة علينا.
وما روي عن المجاهدة باية الكحلة لا يتعدى ما تتداوله الألسن لمن عايشوها عن قرب فقط ليست أرشيفا مدوّنا أو بحثا أكاديميّا، كل ما  في الأمر مقتطفات مختصرة وذكريات عابرة ليس إلاّ، ترسم يوميات امرأة مجاهدة التحقت بالجبل وهي في ريعان شبابها وعزّ عطائها، حاملة معها قضيّة “عظيمة” قرّرت أن تكون إلى جانب إخوانها، الذين تركوا أغلى ما لديهم من أجل الجزائر، لم تأبه بالعيش الرّغيد في المدينة بعد أن وقفت على مشاهد إذلال وإهانة الجزائريّين وهم في أرض أجدادهم، وكان عليها أن لا تبقى على الهامش وأن تتفرّج على ما يحدث لأفراد شعبها وهي قادرة على تقديم ما بيدها ألا وهي شهادة في التّمريض.
بهذه الصفة أي ممرّضة كانت وجهة “تومية” إلى نقطة استراتيجية بالأخضرية لتجد نفسها وسط إخوانها وأخواتها، الذين احتضنوها وأصبحت واحدة منهم في تلك المداشر تقصدهم كلّما احتاجوا إليها في تلك الظّروف للتخفيف عنهم، زيادة على مهمة التحلي باليقظة والحذر من استعمار وحشي لا يرحم أحدا.
وإن كانت المعلومات شحيحة وحتى نادرة عن هذه المجاهدة نظرا لانسحابها من هذا الوسط عقب الاستقلال والانهماك في أعمالها الخاصة، غير أنّ الكلام المتداول والشّفهي منه يذكّر مناقبها وخصالها الوطنية واستعدادها لتضحية، ووقوفها الدائم مع شعبها.
كانت حقّا “امرأة حديدية” في الانضباط بين السكان، همّها أن ترى هذا الشّعب متّحدا ومتماسكا في مكافحة الاستعمار من خلال إشرافها المباشر على تحسيس وتوعية النّساء وحتى تنظيمهم بخصوص إعداد ظروف استقبال المجاهدين، القادمين من جهات بعيدة والتكفل بالمأوى والأكل وتوفير كل ما يلزم لهم. هذا ما كانت تحرص عليه “باية الكحلة” في مسيرتها النضالية، وهي لم تتجاوز سن الـ ٢٠، حاملة معها حقيبتها الطبية تتنقل من مكان إلى آخر تارة مجاهد مجروح وتارة أخرى مواطن مريض، والحالة الجسدية التي تظهر عليها المجاهدة تومية لعريبي من حين لآخر عبر الصور، صعوبة في الكلام إنما هو ناجم عن تعرّضها لأنواع التّعذيب الوحشي واللاّإنساني، الذي ماتزال علاماته بادية عليها في غياهب المعتقلات بالشّرق الجزائري عقب توقيفها رفقة مجموعة من الممرّضات المجاهدات وهي ذاهبة إلى الحدود التونسية.
وهكذا تشاء الصّدف أن يكون رحيل هذه المجاهدة في غرّة نوفمبر المجيدة، الشّهر الذي كان القطيعة مع استعمار استيطاني بغيض، وبداية عهد جديد في بناء الدّولة الوطنية التي كان يحلم بها الجزائريّون.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار