طباعة هذه الصفحة

الدكتور مصطفى حليمي في حوار لـ «لشعب»:

التاريخ مرآة الأمم يعكس ماضيها ويترجم حاضرها

سعيدة : علي جلطي

 الكتاب التاريخي... السبيل لترسيخ قيمة الانتماء إلى الوطن

 الدكتور حليمي مصطفى من مواليد 1987 بمدينة سعيدة له عدة دراسات أكاديمية، منها موضوع رسالة ليسانس بعنوان «هجومات 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها على العلاقات الدولية»، ثم رسالة الماجستر: صراع رجال الإصلاح مع الإدارة الاستعمارية (ضمن مشروع تحليل الإدارة الاستعمارية)، ورسالة دكتوراه: في صراع المخابرات بين الجزائر وفرنسا (دراسات أمنية). إضافة إلى إسهامات في ورشات بحث حول تاريخ الجزائر المعاصر وتاريخ المخابرات المعاصرة والمشاركات والمنشورات الوطنية والدولية على مستوى جامعات الجزائر، وهو عضو ناشط في الجمعيات ذات الطابع التاريخي، مثل جمعية اليعقوبية للدراسات التاريخية والحضارية وهو رئيس الجمعية، وله دور في إحياء أيام التظاهرات الوطنية والدينية.
- «الشعب»: يعتبر التاريخ ذاكرة الشعوب، إنطلاقا من هذه العبارة حدّد لنا قيمة التاريخ في حياة الأمم والشعوب؟
الدكتور حليمي: يحتل التاريخ أهمية قصوى في حياة الأمم والشعوب، لذلك نجدها قد أولته رعايتها البالغة، وسعت إلى جمعه في شكل مدونات عن سير الأجداد، أو عبر المحافظة على الموروثات، أو من خلال القصص الشعبي، ليؤدي دوراً مهماً في تعبئة وجدان الناشئة، حتى ينشب الشبل ناسجا على منوال أجداده، محافظاً على قيم شعبه الموروثة كابراً عن كابر. ولا شك أن الاعتناء بالتاريخ وتدوينه من معالم ثقافة الشعوب وصروحها لأنه مرآة للأمم، يعكس ماضيها، ويترجم حاضرها، وتستلهم - من خلاله - مستقبلها. على أساس هذا تحرص الأمم أيما حرص وتهتم أيما اهتمام بالتاريخ وبالحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون نبراساً وهادياً لهم في حاضرهم ومستقبلهم. فالشعوب التي لا تاريخ لها، لا وجود لها.
إن الأهمية العلمية للتاريخ تنطلق من كونه علم يتيح فهم الأحداث التاريخية، عن طريق منهج يصف ويسجل ما مضى من وقائع وأحداث ويحللها ويفسرها على أسس علمية صارمة بقصد الوصول إلى حقائق تساعد على فهم الماضي والحاضر والتنبؤ بالمستقبل. لأنه كعلم في سياقه الأكاديمي معلم لمسيرة الأمم والجماعات والشعوب، بما يتضمنه من تجارب الصواب والخطأ، وحشود السنن والنواميس، ويمكن أن يغدو دليلا مناسبا للإفادة من الخبرات الإيجابية وتجاوز تكرار الخطأ الذي تعلمنا منه في تاريخنا.
- لا شكّ أنّ الكتابة التاريخية تحتاج إلى ضوابط ومؤهلات لدى المؤرخ، حدّد لنا تلك الضوابط وأهم الشروط الواجب توفرها في المؤرخ؟
  لا شك أن كثير من المهتمين بالتاريخ من غير الأكاديميين، يجهلون بشكل نسبي ومتفاوت حقيقة المنهج العلمي التاريخي الذي يعتمده الأكاديميون، خاصة في الدراسات الأكاديمية عالية المستوى (دكتوراه + دكتوراه دولة) أو حتى البحوث القصيرة ذات التحكيم الوطني أو الدولي والتي تخضع لشروط علمية منهجية وتقنية. إن الفكرة الغالبة لدى العامة فيما يتعلّق بالتاريخ هو أنه استحضار لأحداث في إطار زماني ومكاني دون تمحيص وتدقيق في الوقائع وتأكد منها، وهذا حكم في الكثير من التحامل على أهل التاريخ.
في هذا المقام وهذه الفرصة الصحفية السانحة نوضّح للقارئ الكريم، بعض تقنيات وضوابط عمل المؤرخ الذي يعتبر الحقيقة التاريخية مبتغاه الرئيسي. إن الكتابات التاريخية الأكاديمية التي تصدر عن الأساتذة المختصين في التاريخ وخاصة تلك التي تنتج عن نهاية التخرج في الدراسات العليا تأتي نتاجا لبحث طويل وعميق خاضه الباحث في حادث أو قضية تاريخية معينة، وجلّ المعلومات الواردة فيه قد خضعت لتدقيق كبير جدا، لأن الهدف الأسمى الذي يرمي إليه المؤرخ والباحث في التاريخ دائما هو الحقيقة التاريخية للحدث الذي يبحث أو يكتبه، لذلك يجب عليه دائما التأكد من أن المصادر أو الوثائق التي يبنى عليها استنتاجاته صحيحة والتأكد من أنها ليست مزيفة تزييفاً كليا أو جزئياً، وإذا كان المصدر مزيفا فما يبنى عليه يصبح لا قيمة له، لذلك يكون مضطرا لأن يتأكد أولا من أصالة النص أولا فإذا ثبتت صحته يمكن أن يستخدمه باطمئنان.
إن إثبات النصّ الأصل الذي يعتمد في الدراسات التاريخية، يمرّ بخطوات عسيرة تبدأ أول بنقد ظاهري يسعى من خلاله الباحث إلى التأكد من شخصية كاتب النصّ ومن صحة نسبة الكتاب إليه، وذلك بطرق مختلفة، كاختبار نوع الحبر المستخدم والقلم الذي كتب به النصّ في المخطوط أو الوثيقة الأرشيفية مثلا أو دراسة اللغة والأسلوب والمصطلحات والصيغ الخاصة بالفترة التي كتب فيها النص، هذا بالإضافة إلى العادات الجارية في ديوان من الدواوين في زمن من الأزمنة أو الخصائص المشتركة بين كل الوثائق التي من نوع معين والتي ثبت صحتها، وتتطلّب عملية النقد على جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن كاتب النصّ وهذا يعطي للباحث المعرفة بمدى تحريه الحقيقة ومدى علاقة الكاتب بالأحداث، التي كتب عنها كاتب النصّ وهل شاهدها بنفسه أو اشترك فيها أو سمع عنها فقط وهل مضى وقت طويل بين وقوع الحدث وبين تدوينه. ومعرفة كاتب المصدر وتاريخ كتابته وعلاقته بالأحداث كلها تخدم الباحث وتهم من أجل الاطمئنان على دقة ما جاء بالنص التاريخي.
يضاف إلى ذلك نقد باطني تحليلي إيجابي وسلبي، يتعلّق بشكل مباشر بالنص التاريخي نفسه وذلك من خلال السعي للوصول إلى المعنى السليم لألفاظ النص كما يقصدها الكاتب من خلال مراعاة، مدلولها الحقيقي في ذلك الوقت حتى يفسر النصّ تفسيرا صحيحا، يضاف إلى ذلك مسألة روح النقد والشك التي يلتزم بها الباحث التاريخي التي تمنعه من أخذ المعلومات الواردة في المصدر التاريخي على أنها تعبير عن الحقيقة الخالصة.
ومن هنا يمكن أن نؤكد أن الالتزام بخطوات المنهج التاريخي وضوابط الكتابة التقنية، والمنهجية يقودنا إلى كتابة تاريخية ذات مصداقية وتكون النتائج التي نصل إليها نتائج مطمئنة وأقرب للحقيقة التاريخية المرجوة. وأمام هذا الكم الهائل من الالتزامات التي تقع على عاتق المؤرخ تصبح الكتابة التاريخية الغزيرة والتأليف الكثير أمرا متعبا وصعبا يأخذ من الوقت والجهد الكثير وفي الجهة الأخرى نجد أن هذا الجهد لا يقابل بالاهتمام الكافي ولا العائد المادي المشجع.

-  ما أهمية الوثيقة في الكتابة التاريخية والفرق بين الكتابة التاريخية الهاوية والكتابة المتخصصة (تاريخ الجزائر نموذج)؟
 في الشقّ الثاني للكتابة التاريخية بالجزائر نجد الكتابة التاريخية الهاوية، التي برزت بشكل لافت خلال السنوات القليلة الماضية ولقيت قبولا وتشجيعا من دور النشر لعائداتها المادية، عموما هذا النوع من الكتابات التاريخية حماسي جدا يحمل كما هائلا من المعلومات الجديدة للقراء ويتميز بعضها بالتشهير، التخوين ونشر حقائق من المفروض أن لا تنشر للعامة أو لا يحقّ نشرها إلا بعد مدة معينة، لأن نشر مضمون الوثيقة الأرشيفية يخضع لاعتبارات علمية منهجية وقانونية نظرا لتأثيراتها على المجتمع حاليا. لكن رغم ذلك نجد بعض الكتاب يجاهرون بأرشيفهم الشخصي العدواني أو ما يملكون من شهادات شفوية ليبدوا وجهة نظر في قضية تاريخية معينة.
يضاف إلى ذلك أن هذا النوع من الكتابة أكثر جرأة، من كتابات فترة الحزب الواحد وفترة التسعينات حينما كانت الكتابات الهاوية (وحتى الأكاديمية في حيز ضيق) تخضع لتضييق ورقابة، خاصة توجب أن تكون هذه الكتابة تصبّ ضمن الإطار العام للدولة وتوجهاتها ولا تطعن في القضايا التاريخية الكبرى لا تناقشها. وهذه سياسة عامة أفسدت الحقل التاريخي وضيقت على الآراء ووجهات النظر وأصبح يخيل للقارئ أن الثورة الجزائرية عظيمة نفذها مجموعة من الملائكة لا يخطئون. هذا التصور الخطأ جعل القارئ الجزائري يقبل على المادة التاريخية الجديدة التي تحمل في طياتها معلومات جديدة عليه لم يسمع بها عهد الحزب الواحد أو الكتابات الموجهة بصفة عامة. ولكن مع تطور الأوضاع السياسية أصبحت الكتابات التاريخية أكثر دقة وجرأة وهو ما يرغب فيه الجمهور القارئ.
رغم ما حققته الكتابة الهاوية من نجاح وانتشار كبير وسط العامة، إلا أنها تبقى تفتقر إلى المنهج وبالتالي ابتعادها عن الحقيقة التاريخية المرجوة، وكثيرا ما سجلت هذه الكتابات ثغرات فادحة وأخطاء تاريخية واضحة كتبها بعض الفاعلين في الثورة التحريرية ومنهم حتى من كان ضمن مجموعة 22.

- ما هي أهم الصعوبات التي تواجه انتشار الكتاب التاريخي المتخصّص في الجزائر؟.
 مأزقي المنهج والموضوع في الكتابة الأكاديمية بسبب عدم تطور المدرسة التاريخية الجزائرية الناشئة، سيطرة الكتابة الاستعمارية على الكثير من القضايا التاريخية في مختلف العصور، وهي التي لا يكاد يخلو منها أي بحث تاريخي بصفتها مرجعا أو مصدرا، ضعف التكوين وغياب التجديد في الممارسة التاريخية من أولى مراحلها إلى آخرها، صعوبة دراسة كل أحداث الثورة الجزائرية لعدم مرور الوقت الكافي واكتمال شروط الكتابة التاريخية، عدم نشر الكتابات الجامعية (مذكرات الماجستير ورسائل الدكتوراه، نقص ثقافة المطالعة وخاصة التاريخية منها، انتشار الكتابة الهاوية التي تتميز عادة بطغيان الأهواء والقناعات الشخصية، قلة المصادر، الوثائق والأرشيف، وغياب التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث، وغيرها من الأمور المنهجية الدقيقة التي تضمن كتابة تاريخية رصينة، عدم وجود التشجيع الكافي من طرف دور النشر والتي تعاني هي كذلك مشاكل عديدة أهمها غلاء مكوّنات الكتاب، الضرائب، عدم استفادة الكتاب التاريخي من وسائل الإعلام والوسائط الالكترونية.    
زيادة على أن الكتاب التاريخي يتميز بكبر حجمه وكثرة قضاياه المركبة، وهو ما لا يطيقه القارئ المعاصر المحب للقصر والإيجاز وفي مقابل ذلك ميلهم إلى قراءة الروايات الممتعة والقصص القصيرة التي لا تكلفهم وقتا، ولا تأخذ من أوقاتهم الثمينة الكثير، رفض المجتمع للكتب البحثية العميقة.

- ما مستقبل الكتابة التاريخية في الجزائر خدمة للقارئ بصفة عامة وطالب التاريخ بصفة خاصة؟
 إن محاولة الإقلاع نحو دروب جديدة تتطلّب المحافظة على المكتسبات والدفاع عنها، والحفاظ على التاريخ الجزائري جزء رئيسي من هذه المكتسبات، ولهذا فإن الكتاب التاريخي هو السبيل الوحيد لحفظ تفاعلنا الإيجابي مع تاريخنا لنحقق القدوة الحسنة ونرسخ قيمة الانتماء إلى الوطن والتضحية من أجله. ومن شأن الكتاب التاريخي كذلك ضمان التكوين الفكري والمعرفي للإنسان الجزائري بغية تنمية حضوره الاجتماعي من خلال إدراكه لأهمية الماضي في فهم الحاضر والتطلع للمستقبل.
إن الكتابة التاريخية الأكاديمية التي نسعى بكل ما أوتينا من قوة لنشرها وتطويرها، هي تجاوز للتراكم الكمي للمعلومات وستحضار للبعد المنهجي في تحليل بعض الأحداث التاريخية. كما أنّها ترمي بالأساس إلى تعزيز معرفة القارئ بصفة عامة والطالب بصفة خاصة بعلم التاريخ وضوابطه، وكذا تعميق فهمه للحقائق والوقائع، كما أن الكتابات الأكاديمية من شأنها تأطير التوجه الهادف للتاريخ من خلال السعي لأنه يؤدي وظيفته المجتمعية بجعل القارئ والطالب يكتسب أدوات منهجية لمسائلة التاريخ بفكر نقدي ووعي دقيق بمفاهيمه.