طباعة هذه الصفحة

غـزّة تحــت الــنـار..

حين يصير تدمير الحضارة إستراتيجية عسكرية

بقلم: بن معمر الحاج عيسى
حين يصير تدمير الحضارة إستراتيجية عسكرية
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

في زاويةٍ مظلمة من أرشيف بلدية غزّة المُدمر، حيث كانت رفوفٌ خشبية عتيقة تحرس 75 ألف وثيقة تروي حكاية مدينةٍ عمرها 5 آلاف عام، يرقد الآن رمادُ تاريخٍ بكامله..لم تكن النيران التي التهمت خرائط ملكية الأراضي العثمانية ومخطوطات العصر المملوكي مجرد “أضرار جانبية” لقذيفة صهيونية، بل كانت حلقة في سلسلة إبادةٍ منهجية للذاكرة الفلسطينية.

هذه ليست حرباً على الإنسان فحسب، بل معركة دولة الاحتلال ضد الزمن نفسه، محاولةٌ يائسة لشطب سبعة آلاف عام من التاريخ، وتحويل غزّة إلى صفحة بيضاء تُكتب عليها أسطورة “أرض الميعاد”.
منذ بدء العدوان في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّل القطاع إلى مختبرٍ لاختبار أساليب جديدة من “الإبادة الثقافية”، مصطلحٌ صاغه المحامي البولندي اليهودي رافائيل لمكين عام 1944، لوصف تدمير الهوية الجماعية عبر محو رموزها. فبينما كانت طائرات F-16 تُسقط أطنان المتفجرات على الأحياء السكنية، كانت وحدات هندسية صهيونية متخصصة تُدمر المواقع الأثرية بدقةٍ مذهلة: دير القديس هيلاريون (القرن الرابع الميلادي) الذي يُعتبر أقدم دير مسيحي في فلسطين، تحوّل إلى كومة من الأعمدة المنحوتة المكسورة، وكنيسة القديس برفيريوس (407م) التي شهدت تعاقب البيزنطيين والصليبيين والمماليك، سُويت بالأرض وهي تحوي عائلات نازحة، بينما اختفت من متحف خان يونس قطعٌ أثرية يونانية كانت تُظهر التبادل التجاري بين غزّة وحضارات البحر المتوسط.
اللافت أن التدمير لم يكن عشوائياً. فقصر الباشا (القرن الثالث عشر) الذي كان مقراً لحكم المماليك، تعرّض لهدمٍ مُتعمّد رغم بعده عن خطوط المواجهة، بينما استُهدف حمام السمرة العثماني – النموذج الوحيد المتبقي من حمامات غزّة العامة – بقذيفة دمرت نظام التسخين الجوفي الذي يعمل منذ 500 عام. حتى المقابر لم تسلم: في تل رفح الأثري، حيث كانت توابيت العصر البرونزي تحمل نقوشاً كنعانية، عبثت جرافات الاحتلال بالهياكل العظمية وكأنها تُعيد تمثيل مجزرةٍ ضد الأموات.
الأمر الأكثر قسوةً كان سرقة الآثار على طريقة عصابات القرن التاسع عشر. ففي يناير/كانون الثاني 2024، رصد مراسلون محليون شاحنات صهيونية تنقل قطعاً أثرية من متحف “مطاف الفندق” الساحلي، الذي كان يضم فخارياتٍ فينيقية نادرة.
وبحسب شهود عيان، تم تفريغ المتحف تحت حراسة الجيش، في عمليةٍ توازي نهب المتحف العراقي عام 2003، لكن بغطاء “شرعي” هذه المرة: فالقانون العسكري الصهيوني يصنّف الآثار الفلسطينية كـ«ممتلكات دولة” إذا تجاوز عمرها 200 عام! لكن الحرب على الحجارة كانت جزءاً من مخططٍ أكبر لاستهداف العقل الفلسطيني. فخلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، استشهد 44 مثقفاً بين كاتب وفنان وأكاديمي، منهم الروائي محمد الخضري الذي كان يؤرخ للحصار في رواية “أطفال الحديد”، والنحات عبد الرحمن المصري الذي حوّل شظايا القنابل إلى منحوتات تسخر من العنف.
حتى طلاب الجامعات صاروا أهدافاً: في مارس/آذار 2024، اعتقلت دولة الاحتلال مجموعة طلاب من جامعة الأقصى لأنهم “نظموا ورشة كتابة إبداعية دون ترخيص”، بينما حُوكمت الشاعرة آية البطنيجي (23 عاماً) بتهمة “تحريض” لأنها كتبت على حائط منزلها المدمر: “سينبت الياسمين من عيون الأطفال المقتولين”.
المكتبات التي كانت آخر حصون المقاومة الفكرية، تعرضت لهجومٍ ممنهج. مكتبة الجامعة الإسلامية التي احتوت مخطوطات نادرة مثل “الدر المنظوم في فضائل الروم” للشيخ عثمان الطباع (1924)، تحولت إلى رماد، فيما نهبت قوات الاحتلال مكتبة ديانا تماري صباغ التي حفظت مراسلات جبرا إبراهيم جبرا مع غسان كنفاني.
حتى أرشيف بلدية غزّة – ذاكرة المدينة الإدارية – لم يعد سوى أوراق محترقة تذروها الرياح، وكأن الكيان يريد محو أيّ دليل على أن لغزّة نظاماً مدنياً قائماً بذاته قبل نشوء دولة الاحتلال نفسها.
في المقابل، تحاول المنظمات الدولية التمويه على عجزها ببياناتٍ جوفاء. فاليونسكو التي أدرجت دير القديس هيلاريون على قائمة “التراث العالمي المهدد”، لم تُرسل أي بعثة تقييم، بينما تحول تقرير الأمم المتحدة عن تدمير 65% من المباني إلى مجرد رقم في إحصائية.
المفارقة أن العالم الذي انتفض عندما دمرت طالبان تماثيل بوذا في باميان عام 2001، يصمت اليوم أمام إبادة تراثٍ يمتد من الكنعانيين إلى المماليك، وكأن التاريخ الفلسطيني لا يستحق الحماية إلا إذا تحوّل إلى أسطورةٍ ميتة.
لكن غزّة ترفض أن تكون ضحيةً في متحف الذاكرة العالمية. بين الأنقاض، يولد فنٌ جديد: أطفال يرسمون جداريات المقاومة على حطام المنازل، شباب يعيدون تجليد الكتب المحروقة بورقٍ من علب المساعدات الغذائية، نساء ينقشن أثواباً فلسطينية بخرزٍ وجدنَه في الركام.
في شارع عمر المختار، حيث كانت مكتبة بلدية غزّة تقف شامخة، يُسمع الآن صوت مثقفين مجهولين يقرأون قصائد محمود درويش على الهواء مباشرة، بينما يدوّن طلاب جامعة الأقصى مذكراتهم على أوراقٍ مبعثرة، كأنهم يؤرشفون الدمار اليومي كي لا يُنسى.
ربما تكون دولة الاحتلال قد نجحت في تحويل غزّة إلى متحفٍ مفتوح للخراب، لكنها فشلت في إدراك أن الحضارة ليست حجارةً تُسرق ولا وثائقَ تُحرق. فتحت الأنقاض، ما يزال قلب التاريخ الفلسطيني ينبض بشراسة: كل جدارٍ مدمرٍ هنا يتحول إلى صفحةٍ جديدة في سفر المقاومة، وكل كتابٍ محترقٍ يولد ألف نسخةٍ في ذاكرة شعبٍ يعرف أن بقاءه مرهونٌ بقدرته على رواية حكايته.