طباعة هذه الصفحة

الإبـادة الصّهيونيــة

لا تفاوض على الحياة إلاّ بالموت أو البندقية

بقلم: عيسى قراقع
لا تفاوض على الحياة إلاّ بالموت أو البندقية
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

الإبادة الصّهيونية الجارية في فلسطين ليست على الوعي والرواية، ولا لكسب التعاطف والتأييد لهذه السردية أو تلك، وليست لتعديل موازين القوى، ليست صراعاً بين الحضارة والهمجية، ولا حتى صراعاً بين الأرض والسماء في النصوص الدينية، إنها إبادة موجهة إلى الخالق العظيم، بأن من خلقتهم من غير اليهود في فلسطين، الأغيار والبربريين والإرهابيين، كان خطأ إلهياً يجب تصحيحه بالسيف والمدفعية.

الإبادة تقول: يا شعب فلسطين لقد عدنا، عاد شمشون ليقضي على دليلة الفلسطينية، اخرجوا وارحلوا، صواريخنا تهدر وقنابلنا المتفجرة، اخرجوا من الحياة فلا تفاوض على حياتكم إلا بالموت أو البندقية.
لم تعد الحرب تكثيفاً للسياسة، ولا مجرد هدنة لتحقيق إنجازات وانتصارات أو هيمنة، ولم تعد لتحقيق مصالح اقتصادية وجمع الثروات والذهب، فالصراع الآن على الحياة، هناك من يجب أن يحيا وهناك من يجب أن يموت، وعلى الأقوياء أن يقصفوا أعمار الضعفاء ويهدروها قصفاً ومسحاً وتعذيباً، اغتصاباً وخنقاً وسلخاً وتنظيفاً، جسداً وذاكرة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
المطلوب أن يموت الفلسطيني، ليس موتا عاديا، بل قتلا وثأرا وانتقاما ونسفا وجوعا وحرقا، ليس موتا بالضغط او الابتزاز او الحصار، ولا بالقهر واليأس والطرد والسجن، بل إخفاء وتمزيقا، تطهيرا وإلغاء من الخارطة السياسية وحتى من النقاش ومن الخيال، ان لا يكون الفلسطيني موجودا، هذه هي تعاليم الرب اليهودي والصهيونية الدينية العنيفة، لا مجال للتفاوض مع هذا الرب المسلح الذي يقاتل بالتوراة والنار والحديد.
الإبادة شطبت كل تلك المفاهيم الأخلاقية والأسئلة القانونية حول القيمة العليا والأسمى للحياة، تحوّلت إلى أدنى قيمة تحت جنازير الدبابات في قطاع غزة، فقيمة الحياة أصبحت تساوي شطب الحياة، وكل ما يقال عن الكرامة الإنسانية اصبح بلا معنى، فالإبادة القادمة من عصور الجحيم لا تسمع ولا ترى، ولا تسمح لاحد ان يفكر بالحياة والحرية، ولا حتى بالقضاء والقدر، جحيم ثم جحيم إلى آخر جحيم.
البلدوزر في غزّة، الفولاذ واللهب ورائحة اللحم البشري والجوع، الإبادة لا تسعى الى هزيمة الفلسطينيين أو إضعافهم أو إنهاكهم، لا تطلب راية استسلام بيضاء، بل إخفاء ودفن الفلسطينيين، إزالة الحضور بالغياب، والقضاء على تهديد كل من عاش تحت الاحتلال، حتى لا ينبثق جيل آخر من أزقة النسيان.
إبادة وهستيريا وجنون، من دير ياسين حتى غزة، اقتلوا النساء فلا زلن يحبلن بالأمل، اقتلوا الأمل فما زال يبرق في عيون الأطفال، اقتلوا الأطفال فما زالوا يحملون الحجارة، اقتلوا الحجارة فما زالت ترفع عمود البيت في الذاكرة، اقتلوا كل شيء، لا تفتحوا حوارا إلا مع الموت والعدم.
الإبادة هي النّهاية، نهاية مئات القرارات الدولية، نهاية شرائع حقوق الانسان، نهاية جلسات التفاوض العبثية، نهاية كافة سيناريوهات الحلول السياسية للصراع، نهاية هذه المؤتمرات والجلسات والتدخلات الدبلوماسية، نهاية فلسفة العدالة من أرسطو حتى محمود درويش، نهاية الثقافة والديمقراطية، إغلاق ابواب المفكرين المصلحين وحاملي جوائز السلام، انه دين جديد، دين الموت، دين الجريمة المنظمة، وعلى كل العباد ان يذهبوا الى غزة وليس الى مكة، ليؤدوا طقوس الموت قاتلين او مقتولين.
لا تفاوض في حُمى الإبادة، لا هدنة، وإن كانت فهي هدنة الميتين حتى ينظف القاتل وجهه، هدنة الشهيد الذي يبحث عن قبره، الموت مرايا بلا وصايا، وكل يرى في غزة نفسه، عزلة ابدية، دفن السماء بالتراب والجثث، وكل من يتكلم يرى الضحية فيه لا تشبه الضحايا، كل يخرج من موته الى موته دخانا او شظايا.
الإبادة تقول: لا يكفي نهب الأرض وبناء المستوطنات، لا يكفي أن يحشر الفلسطينيون في معازل ومصائد ونذلهم على الحواجز العسكرية، لا يكفي أن نعذبهم ونطحنهم في السجون والمعسكرات، نحتاج الى الابادة، إرسال الفلسطينيين الى ما وراء الوراء، إلى قاع الظلام وإلى أبعد مدى، لا همس ولا صمت ولا أشباح ولا صدى.
توقّفوا عن الحديث عن حل الدولتين أو الدولة الواحدة، توقفوا عن تركيب أطراف اصطناعية لحكم ذاتي بلا سيادة، توقفوا عن الحوار حول المخيمات واللاجئين وحق العودة، تراهات مزعجة، هنا الإبادة، اصهروهم في النار، حتى يصيروا رمادا، اصهروهم حتى لا يعود الحمام إلى صوته في أعالي الشجر، اصهروهم حتى لا يجدوا من يصلي عليهم ويطلب الرحمة، هنا الابادة، لا نريديهم حتى ظلالاً، اصهروهم حتى تتلاشى رائحتهم من التراب ومن اللغة ويصيروا سرابا.
الإبادة أستاذ جاء من ألمانيا النازية، وعندما سجنت الصهيونية الله في توراتها أصبح كل شيء مباحاً، الحياة قابلة للتصفية، لا شرعية دولية، ولا محكمة جنائية، القتل طليق وحر ومفتوح، القتل لا توقفه الأحكام والمعايير والشهود، الكل في المحرقة، نظام دولي جديد، تشكيلات مشوهة للانسان وللأرض وللطبيعة، حدود دموية بين الوطن الخرافي والوطن الواقعي، حدود لا فاصل لها بين مجزرة ومجزرة.
الإبادة لا تحتاج إلى ضمير إنساني، تحتاج إلى وهم يستطيع أن يركب ذاكرة وهوية وأسطورة مختلقة، تحتاج إلى عميان وشياطين ووحوش لا يقدرون على التعايش مع الجمال والأغنية، إبادة نقيّة تمسح الآخرين، لا تهتم بالاحصائيات والأرقام المجرّدة، أو بما تخسره في هذه الحرب أخلاقيا وإنسانيا، لا قيمة مطلقة للحياة البشرية، الابادة لا شريك لها إلا الإبادة، استئصال كل مولود وولد، وعلى كل الذين وجدوا استثناء وشذوذا على هذه الارض أن يغيبوا حتى يرتاح الله في سمواته السابعة.
أبيدوهم، لا توقّعوا معهم على أي معاهدة، حقوقهم تحاصرنا وتعزلنا، الاعتراف بهم يعذّبنا، يلغي شرعيتنا، السلام لنا وحدنا، لا فرق بين صوت الطفل وصوت القنبلة، سلامنا يمتلئ من فراغ أرواحهم وعلينا أن ننتج أدب الابادة، ونعلم أولادنا كيف يصعدوا التلال فوق الجثث، أن يبدعوا فن إطلاق الرصاص في الكتابة.
الإبادة ليست على اختلاف الرؤى وتفسير الحقوق التاريخية، ليست على حق تقرير المصير لهذا الطرف أو ذاك، ليست تنظيرات سياسية أو أكاديمية، الإبادة لا تعطي الوقت لتحميل المسؤوليات أو التعلم من الخبرات، الإبادة لا تريد سوى أن يبقى واحد وحيد على هذه الارض، اليهود الانقياء خلفاء الله، صوته الهادر في الطائرات والصواريخ، هندسة الخراب الذي نراه ولا نراه.
أيّها الإباديّون الملوّثون، هل انتصرتم علينا؟ هل انتصرنا عليكم؟ اكتملت رحلتكم في أجسادنا وابتسمت تل أبيب، ولكني أحسب أنكم في مخيم الدهيشة لم تجدوا شارعاً للحراسة، وأحسب أننا شعب نقوم ألف مرة من القيامة، وأحسب أن في فلسطين كل موت روح وجسد وحقيقة، وصدقونا للمرة الأخيرة إن موتنا الكبير هزم دولتكم الكبيرة، حلمنا يدل علينا، هنا نحيا وهنا نموت، وفي حياتنا تموتون كلما دقت أجراس البحر وعلى سواحلنا نتمدّد، ينهض موتانا ويدور الزمن، تنكسر الدائرة، فإذا كان عندكم إله واحد مجنون، فكلنا آلهة.