طباعة هذه الصفحة

المـرأة التــي تنتظــر فـي الخيمة

بقلم: سما حسن
المـرأة التــي تنتظــر فـي الخيمة
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

 قالت لي بصوت متهدّج وعبر مكالمة صوتية من خلال أحد تطبيقات السوشيال ميديا، يجب ألاّ تتوقفي عن الكتابة عنا، لا تتوقفي لأن التوقف خيانة وخذلان، اكتبي عن معاناتنا، قرأت ما كتبتيه سابقا ويجب أن تستمري حتى لو كان المستمعون قلة أو حتى لو كان القارئ واحدا.

 قالت لي وصوت نشيجها لا يعلو على صوت طائرة الاستطلاع، لكنه يعلو على صوت ضربات قلبي، تخيلي أن يخرج زوجك أو ابنك مع ساعات الليل الأولى وتبقي في حالة خوف وانتظار وبلا وسيلة اتصال، لا تعرفين إن كان سيعود أم لا، لا تعرفين إن كان سيحضر بعض الطحين والقليل من الطعام أم لا، ولا تعرفين إن كان سيعود وسيجد الخيمة في مكانها أم أن قصفا مجنونا يكون قد ابتلعها فأصبحت في جوف الأرض أو تناثرت فوقها خيوط ودماء وأشلاء؟تخيّلي أن يذهب رجال الخيمة نحو الموت بأرجلهم، ويتركوا هواتفهم فتفقدي طريقة الاتصال معهم، فهم لا يحملون الهواتف النقالة خوفا من فقدانها وهم يركضون ويصارعون الموت، أو أن تتعرض للسرقة أيضا، وهكذا تجدين نفسك مع الأطفال الجائعين في الخيمة والهاتف الصامت الذي فقد مهمته وكل ما عليك سوى الانتظار.
قالت لي هذه العبارة، وتذكّرت ما أخبرتني به جارتي قبل أسابيع حين خرج شقيق زوجها بحثا عن طحين، وترك هاتفه معلقا في كيس قماشي على أحد أعمدة الخيمة، وكيف أمضت مع أمه الليل وهما تنتظران المجهول حتى إذا ما لاح الصباح لم تطق صبرا، فتركت الأم العجوز التي نال منها التعب والحزن لتغفو قليلا فوق خيشة مهترئة، ووقفت أمام الخيمة فإذا بجارتها في الخيمة الأخرى تلوح نحوها بمعنى أن تعالي أريد أن أخبرك أمرا مهما.
تقول جارتي وقتها، إنّها شعرت أنّ أمرا قد حدث للغائب الذي وعدها أنه لن يعود بدون طحين، فجرت قدميها المرتعدتين باتجاه باب خيمة الجارة التي همست في أذنها قائلة، اتصل بي ابني من مستشفى ناصر وأخبرني أن شقيق زوجك قد قتل برصاصة في قلبه. عرفت أنّه لن يعود كما وعدها وقد رجته كثيرا ألا يفعل، ونظرت صوب زوجها الذي أقعدته إصابة سابقة في زاوية من الخيمة، وحيث يتضور الصغار الأربعة حوله ولم تعرف ماذا تقول له، هل تقول له، إن أخاه قد قتل وهو يحاول أن يطعم الصغار، وأنه قد مات جائعا فهو لم يتذوق الطعام منذ ثلاثة أيام، أم تتركه لكي ينتظر ساعات قادمة وهو ينظر نحو هاتف شقيقه المعلق بعمود الخيمة؟
قالت لي، إنّ الانتظار الذي تعيشه الأمهات قاتل، تخيلي أن الشباب والرجال وحتى الصبية الصغار يخرجون مع ساعات الليل الأولى ويقضون ليلتهم في العراء وهم يحملون بعض الحقائب البالية، والتي من المفترض أن تكون حقائب مدرسية أو يحملون بعض أكياس الخيش الممزقة وهم على أمل أن يحصلوا على بعض الطحين، ولو حالفهم الحظ فسيحصلون على بعض علب المعلبات أو الزيت أو السكر، ولكن الموت يكون متربّصا بهم وأغلبهم يعودون هاربين وقد نجوا بأعجوبة فيما يعود العشرات كل يوم وهم قتلى بلا حياة وقد لفهم رفاقهم بأكياس فرغت من الطحين بعد أن تدفق منها الطحين على الأرض المضرجة بالدم، وبعد أن تصارع أحياء كثر على الطحين وفرقتهم القذائف أو طلقات الرصاص التي تطلقها الطائرات المُسيرة الصغيرة، والتي تلعب بأرواحهم وتضحك ساخرة من جوعهم وضعفهم وبؤسهم.
أطلقت رجاءها لي بألا أتوقف عن الكتابة وقالت لي ساخرة، هل تذكرين كيف كنا نشاهد الأفلام العربية القديمة، وحيث يخرج الرجال للحرب ويبقى المسنون والنساء والأطفال في الديار؟ هكذا نبقى نحن في المخيم بالقرب من البحر ونحن ننتظر ثم تتعالى الصرخات مع ساعات الفجر الأولى، ونحصي عدد موتى الطحين كل فجر، وأجذب زوجي من ياقة قميصه المهترئة وأرجوه ألا يخرج في المرة القادمة لكنه لا يفعل، ويذهب على أمل أن يعود ببعض الطحين وأبقى في حالة انتظار قاتلة واحتمالات تذيب روحي وتنسيني الجوع الذي دبّ في أحشائي وأحشاء أطفالي.