طباعة هذه الصفحة

الـدروع البشريـة الفلسطينية..

وجـــه آخر لجرائــم صهيونيــة لا حصر لهـا في قطـاع غــزة

بقلم: عبد الناصر فروانة
وجـــه آخر لجرائــم صهيونيــة لا حصر لهـا في قطـاع غــزة
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

دأب الاحتلال الصهيوني على استخدام المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية، وإجبارهم على تنفيذ أعمال محفوفة بمخاطر حقيقية على حياتهم، سواء خلال التظاهرات الشعبية أو المواجهات المسلحة، أو عند اقتحام المنازل والأماكن العامة، أو خلال ملاحقة من يُصنَّفون بـ “المطلوبين”. وقد تصاعد هذا السلوك مع اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 أيلول / سبتمبر 2000، وطال كثيراً من الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والفتيان والنساء وكبار السن، واتخذ منحى آخر منذ بدء حملة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

ففي سنة 2002، انتشرت صور لفلسطينيين استُخدموا دروعاً بشرية من جانب جيش الاحتلال خلال العدوان الذي اصطُلح على تسميته صهيونيا بـ “السور الواقي”. وفي سنة 2004، تداولت وسائل الإعلام المتعددة، العربية منها والعبرية والأجنبية، صورة صادمة لطفل فلسطيني يبلغ من العمر 13 عاماً، استخدمته قوة من جيش الاحتلال “الصهيوني” درعاً بشرياً، بعدما قيّدت يديه بالسلاسل، وثبّتته في مقدمة الجيب العسكري، الأمر الذي أثار حينها ضجة كبيرة بين أوساط الحقوقيين وعبر وسائل الإعلام. وتعالت أصوات نشطاء حقوق الإنسان ودعاة حقوق الطفل تنديداً بالجريمة الصهيونية، مطالبين بحماية الطفولة الفلسطينية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالأحداث تكررت، وثمة تفاصيل عديدة وصور مشابهة لفلسطينيين آخرين استُخدموا بالطريقة ذاتها، مما يؤكّد أنها ليست سلوكاً فردياً عابراً، ولا أحداثاً استثنائية. فقد استمعنا إلى ناجين من عدوان 2008 على قطاع غزة وهم يروون كيف استُخدموا دروعاً بشرية، وقرأنا شهادات صادمة وثّقتها مراكز حقوق الإنسان في غزة لأطفال رووا تجاربهم المريرة.
ولطالما سمعنا وشاهدنا فلسطينيين استُخدموا دروعاً بشرية عبر الجغرافيا الفلسطينية على مدار الأعوام الماضية، إلا أن ما حدث ويحدث منذ تشرين الأول / أكتوبر 2023، خلال حملة الإبادة في قطاع غزة، فاق كل تصور في حجمه وفظاعته. وهو امتداد لما سبق، فما كان يُعتقد ماضياً أنه سلوك فردي أو فعل استثنائي، بات اليوم واضحاً أنه سياسة ينتهجها الجيش الصهيوني بصورة دائمة وممنهجة، بل أصبح أيضاً وجهاً من أوجه تكتيكاته في قطاع غزة. لقد بلغت هذه الانتهاكات ذروتها، حين تحوّل استخدام “الدروع البشرية” إلى حدث شائع، وفقاً لشهادات مروّعة رواها المواطنون، واستناداً إلى مقاطع فيديو صادمة ومشاهد فظيعة التقطتها وحفظتها وبثتها وسائل إعلام عديدة، وتقارير وثّقتها مؤسسات دولية متعددة، علاوة على ما نشرته الصحف العبرية من تقارير وتحقيقات بهذا الشأن. إن تلك الشهادات والمشاهد تعكس تنوعاً في كيفية تنفيذ جريمة الدروع البشرية التي جرمها القانون الدولي، الأمر الذي حوّل حياة أولئك الفلسطينيين إلى جحيم، وعرّضهم للأذى والقتل أحياناً؛ فمنهم من فقد حياته فعلاً، أو أُصيب، ومن بقي على قيد الحياة ما زال يعاني من اضطرابات نفسية بعد الصدمة.

الدّروع البشرية والقانون الدولي

ينص القانون الدولي (المادة 23 من اتفاقية جنيف الثالثة) على أنه “لا يجوز في أي وقت إرسال أي أسير حرب إلى منطقة يتعرض فيها لنيران منطقة القتال، أو إبقاؤه فيها، أو استغلال وجوده لجعل بعض المواقع أو المناطق في مأمن من العمليات الحربية”، كما لا يُجيز القانون الدولي استغلال السكان المدنيين لحماية أماكن معيّنة من العمليات الحربية، بحسب ما جاء في المادة 28 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، ويُضاف إلى ذلك البروتوكول الأول لسنة 1977 في مادته 51، التي تنص على أنه: “لا يجوز أن يوجّه أطراف النزاع تحرّكات السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين بقصد محاولة درء الهجمات عن الأهداف العسكرية أو تغطية العمليات العسكرية”. كما تعدّ المحكمة الجنائية الدولية ونظام روما الأساسي استخدام مدنيين أو أشخاص آخرين متمتعين بالحماية لإضفاء الحصانة من العمليات العسكرية على مناطق ومواقع أو وحدات عسكرية معيّنة “جريمة حرب”.
إن حماية المدنيين يُعد أحد أسس القانون الدولي الإنساني، ولهذا شدّد القانون الدولي في مطالبته الأطراف المتنازعة على اتخاذ كل الاحتياطات والتدابير اللازمة لحماية المدنيين، وتحصين المواقع والمنشآت المدنية من الهجمات العسكرية، وتجنُّب الأهداف العسكرية داخل الأحياء والمناطق السكنية والمواقع المدنية أو بالقرب منها، لأنه في حالة كهذه يتحول المدنيون مباشرة إلى دروع بشرية.

أحداث فظيعة وشهادات مروّعة

في تشرين الأول / أكتوبر 2024، نقلت شبكة “CNN” الأمريكية شهادة مصوّرة لجندي صهيوني يُفصّل استخدام الجيش فلسطينيين كدروع بشرية في غزة، حين أجبر الجيش معتقلين على دخول منازل وأنفاق في غزة للتأكد من أنها غير مفخخة. ويقول الجندي الصهيوني في شهادته إنه تم إحضار صبي يبلغ من العمر (16 عاماً) وآخر يبلغ من العمر (20 عاماً) إلى وحدته، وأشار إلى أن “يديهما كانتا مقيّدتين وراء ظهريهما، وكانا معصوبي العينين”، و«سارا عبر الأنقاض تحت تهديد السلاح إلى المباني المفخخة المحتملة، وإلى الأنفاق المظلمة”. ويضيف الجندي: “طلبنا منهما دخول المبنى قبلنا، وأخبرناهما أنه إذا كانت هناك أي فخاخ، فسوف تنفجر بهما وليس بنا نحن”، بينما ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، نقلاً عن جنود صهاينة ومعتقلين فلسطينيين سابقين، أن قادة في جيش الاحتلال الصهيوني أصدروا أوامر باستخدام معتقلين فلسطينيين دروعاً بشرية أثناء عمليات الجيش في قطاع غزة، مشيرين إلى أن استخدام المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية من جانب قوات الاحتلال أمر شائع على نطاق واسع.
وقال معتقل فلسطيني سابق إنه أُجبر على دخول منازل في غزة بينما ثُبّتت كاميرا على جبهته لكشف الطريق والتأكد من خلوّها من قنابل ومسلّحين.
وأوضح معتقل سابق آخر، أنّه هو الآخر ثُبّتت كاميرا على جبينه، وأُجبر على دخول منازل في قطاع غزة مرتدياً زياً عسكرياً للتأكد من خلوّها من المتفجرات أو المسلّحين، مؤكّداً أنه تنقّل بين أكثر من وحدة عسكرية في كل مرة. وأضاف أن الجنود ضربوه وهدّدوه بالقتل إن لم ينفّذ الأوامر، مشيراً إلى أنه بقي محتجزاً لدى الجيش الصهيوني في شمال غزة لمدة أسبوعين ونصف الأسبوع خلال الصيف الماضي. كما تحدّث فلسطيني آخر تم استخدامه درعاً بشرياً لمدة أسبوعين، وأنه أُجبر على دخول منازل ومبانٍ ومستشفى ومواقع يُشتبه بوجود أنفاق فيها وتفتيشها.
وكشفت صحيفة “هآرتس” العبرية، في تحقيق يستند إلى شهادات جنود وضباط خدموا في صفوف الجيش الصهيوني، تأكيداً لاستخدام الجيش الصهيوني سياسة الدروع البشرية ضمن “عملياته العسكرية” الحالية داخل قطاع غزة. وأظهر التحقيق “نمطاً ثابتاً في سلوك الجيش “الصهيوني” الذي يتمثّل باستغلال المدنيين، الذين يتم تجنيدهم قسراً”.
ووفقاً لشهادات متعدّدة، فإنّ الجيش يقوم بتحديد المدنيين الفلسطينيين الذين يمكن أن يكونوا من كبار السن أو الأطفال، واستخدامهم في مهام خطِرة كدخول المنازل والمباني المشبوهة، أو تفتيش الأنفاق، وذلك لحماية جنوده من الكمائن أو العبوات الناسفة. وأكّد التحقيق أن ذلك يحدث بعِلم القيادات العليا في الجيش الصهيوني، بمن فيهم قادة الألوية وصولاً إلى هيئة الأركان العامة. وأشار إلى أنّ هذه الممارسات ليست جديدة، إنما هي امتداد لإجراءات مشابهة استخدمها الجيش “الصهيوني” في الماضي.
وفي تقرير آخر صدر حديثاً عن الصحيفة ذاتها، فقد وُصف استخدام جيش الاحتلال المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية بـ “السياسة الممنهجة”.
وفي آذار/مارس الماضي، أقرّ ضابط رفيع المستوى في وحدة قتالية في الجيش النظامي الصهيوني باستخدام جنود الاحتلال المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة دروعاً بشرية بصورة منتظمة منذ بدء الحرب، وقال في مقال كتبه لصحيفة “هآرتس”، وطلب عدم نشر اسمه: “إنّ الجنود يستخدمون المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية في قطاع غزة لما لا يقل عن 6 مرات يومياً”، وأوضح أنهم أجبروا الفلسطينيين على العمل دروعاً بشرية؛ لأنّ ذلك أسرع من وسائل أخرى متاحة تستغرق وقتاً كإرسال كلب أو “روبوت” أو طائرة مسيّرة، بحسب قوله. كما أشار إلى أنّ هذه الممارسة شائعة جداً، وأن أفراد القيادة الأعلى رتبة في الميدان كانوا على علم باستخدامها لأكثر من عام، ولم يحاول أحد إيقافها، بل بالعكس، فقد تمّ تعريفها بأنها “ضرورة عملياتية”. ويختتم الضابط مقاله بالقول إنه لدى “الكيان الصهيوني” كل الأسباب للقلق من المحاكم الدولية، لأن هذا الإجراء جريمة يعترف بها حتى الجيش نفسه، وهي تحدث يومياً، وأكثر شيوعاً كثيراً مما يُقال للجمهور.
«ح - ع« هو شاب فلسطيني من سكان جباليا شمالي قطاع غزة، أدلى بشهادته لوكالة الأناضول التركية، ويروي فيها كيف استخدمته قوات الاحتلال درعاً بشرياً، فقال: “أُجبرت على تنفيذ مهام خطِرة شملت ارتداء زي الجيش الصهيوني وخوذة الرأس العسكرية، وتزويدي بكاميرا ودخول منازل اعتقدوا أنها مفخخة تحت تهديد التعذيب الجسدي والنفسي، وطُلب مني فحص المنازل قبل دخول الجنود إليها”.
وأشار إلى أن الجيش الصهيوني “استخدمه درعاً بشرياً في جباليا، إذ أُجبر على مرافقة الفرق العسكرية أثناء اقتحام المنازل والمباني”، وأردف: “كان الجيش الصهيوني يضربنا في مناطق حساسة، ويهدّدنا بالقتل في حال رفضنا تنفيذ الأوامر”.
واستعرض المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في تقرير أصدره في وقت سابق شهادة فلسطيني من سكان جباليا البلد شمال قطاع غزة، كانت قوات الاحتلال قد اعتقلته خلال الحرب، واحتُجز داخل موقع عسكري، ومكث في الاعتقال 42 يوماً، وتم استخدامه كدرع بشري 15 مرة خلال تلك الفترة، تحت الضرب والتهديد بالقتل، وأُجبر على ارتداء الزي العسكري الصهيوني، ووضع خوذة على رأسه وعليها كاميرا للتصوير وسماعة لتلقي التوجيهات. ويقول إنه كان يُطلب منه أحياناً قطع بعض الأسلاك خوفاً من أن تكون موصولة بعبوات معدة للتفجير، وأنه بعد انتهاء مهمته، أطلقوا عليه رصاصة من الظهر لتخرج من صدره، وقُدّر له أن يبقى على قيد الحياة ليروي لنا قصته ويدلي بشهادته.
هذا، بينما نشرت هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين الفلسطينية تقريراً تناولت فيه شهادة أسير من غزة استخدمته قوات الاحتلال درعاً بشرياً بصورة يومية لأكثر من 40 يوماً عبر عدة أساليب، منها: وضعه على مقدمات السيارات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال، وهو مقيّد اليدين والرجلين، بالإضافة إلى إجباره على ارتداء الزي العسكري لجيش الاحتلال وتزويده بكاميرا، وفي حال رفضه، كان يتعرّض للضرب، وكانت ترافقه طائرة مسيّرة لتوجيهه خلال حركته. وعلى مدار تلك المدة، مارس جنود الاحتلال بحقه سياسة التجويع، كما حُرم من استخدام دورة المياه أو الاستحمام، واستمر ذلك على مدار مدة اعتقاله، فكان يواجه الموت كل لحظة بحسب تعبيره، إلى أن أُصيب بطلق ناري في صدره، وبقي لنحو نصف ساعة دون علاج.
وفي الختام، هذا قليل ممّا حدث ويحدث للفلسطينيين هناك، وهنا في قطاع غزة، وهكذا يحتمي جنود الاحتلال الصهيوني خلف الدروع البشرية الفلسطينية، في جريمة حرب مكتملة الأركان، يحظرها بشدة القانون الدولي الإنساني، ولطالما حذّرت من ارتكابها المؤسسات الدولية، بينما لا يزال الشعب الفلسطيني ينتظر العدالة الدولية.
- رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين