طباعة هذه الصفحة

عندما كـان الصّحفـي ناصـر اللحام مجرّد رقـم

بقلم: عيسى قراقع
عندما كـان الصّحفـي  ناصـر اللحام مجرّد رقـم
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

دخلت على مكتبه في وكالة معا، لفت انتباهي وجود صورة لشاب جميل وصغير في العمر على طاولة المكتب معلقة على صدره لوحة تحمل رقم 7014355، وهي صورة التقطت خلال وجوده في السجون الصهيونية في سنوات الثمانينات. نظرات حزينة مندهشة تندفع بين عينيه، تحول ناصر اللحام هذا الشاب المنتفض المندفع الجريء الى رقم ساكن وجامد في تلك السجون الظالمة، ربما أدرك أنه بين ليلة وأخرى تحول من انسان إلى مجرد رقم، صار الرقم هو اسمه وكوشانه وهويته ومساحة حياته السابقة والقادمة. اختصروا عمره وحيويته في سبعة ارقام. السجانون ينادون عليه برقمه وعليه ان يحفظه جيدا، ينهض على نظام العدد اليومي صبح مساء، أن لا يتأخّر، أن لا يخربش، وإلاّ فإن هراوة ستضربه على رأسه أو يعاقب في الزنازين الانفرادية أو يتعرض للشتائم والإهانات. كل سجين أصبح له رقما مكوّنا من عدة خانات ضمن نظام متسلسل يساوي في النهاية أكثر من مليون أسير وأسيرة اعتقلوا في سجون الاحتلال منذ عام 1967، وعلى ناصر اللحام أن يحفظه باللغة العبرية بشكل سليم، وإن لم يفعل ذلك سيحرم من السجائر ووجبة الماء الساخن والقهوة والشاي.

 صرت رقما لا ملامح لي، لا وجه ولا قلب ولا لسان، أصبحت مجرّد رقم، شيء بلا قيمة، نزعوا عنّي الصفة الإنسانية، لست من بني آدم، صرت مجرّد رقم في ملف أو في حياة محشورة متزاحمة الأرقام، الرقم معلق على صدري على طريقة النازيين في تعاملهم مع المعتقلين في سجونهم، هذا الرقم يقودني إلى الجنون أو القهر أو الموت تعذيبا أو مرضا، وفي كل الأحوال أنا مجرد رقم يتغير ويستبدل ويسحق، يبهت أو يلمع، رقم ليس له في دنيا المستعمرين أي حساب.
عندما نظرت إلى صورة ناصر اللحام المرقّمة، عادت بي الذاكرة إلى الوراء، آلاف الأسرى الذين جرّدوا من إنسانيتهم وروحهم وصاروا قطيعا وأرقاما وإرهابيين، ومجرمين يتعرّضون للطمس والهدر والقمع وتشويه صورتهم وسلبهم كل حقوقهم الإنسانية والمعيشية، ليس لهم هوية ولا مكان إلا بين مجموعة أرقام تحرّكها ماكنة القمع الصهيونية ونظام السيطرة في السجون.
صورة ناصر اللحام توجعنا، تقشعر لها الأبدان، كيف يتحمّل أن ينظر إلى صورته طوال هذا الوقت؟ هذا الرقم هو اسمك خلال الزيارة أو لقاء المحامي أو الصليب الأحمر، هذا الرقم هو جسدك خلال عمليات القمع، لا أب لك ولا أم ولا أصدقاء ولا عائلة، أنت رقم متجمّد لا تتحرك في المكان والزمان، أنت رقم لا تتوجّع ولا تتألم ليس لك ماض ولا حاضر ولا مستقبل. أنت يا ناصر رقم، عليك أن تقول للسجان يا سيدي، ليس لك قرار، أنت رقم عليك أن تنام الساعة العاشرة ليلا بعد إطفاء الكهرباء، ليس لك وقت وأحلام، أنت رقم لا تقرأ كتابا فليس لك عقل ودماغ، أنت رقم لا تحمل قلما لتكتب فليس لك يد، يدك يد السجان، أنت مجرّد رقم لا تشكو ولا تغضب ولا تشعر، فليس لك قلب وأحاسيس وشوق وحبيبة وراء الجدران.
الرّقم هو سياسة العنف والإرهاب الصهيونية المستمرة بحق أسرانا في سجون الاحتلال فهم أرقام، يقتلون في أقبية التعذيب، لا يحاسب أحدا لأنهم ليسوا أكثر من أرقام، لا يقدّم لهم العلاج والدواء، الأرقام لا تمرض ولا تحتاج إلى رعاية صحية، لا يقدّم لهم الغذاء الكافي، الأرقام لا تشبع ولا تجوع ولا تعطش، يكفي أربع حبات من الفاصولياء ونصف بيضة وبضع غرامات من اللحمة المجمدة، وثلاثة كسرات من الخبز ورائحة قهوة في كأس ماء. الرقم هو هذه الهندسة الاستعمارية للبشر بطحنهم وعيا وفكرا وإدراكا، الأرقام ليس لها حقوق وهي مجرد طلاسم غامضة في مفاهيم حقوق الإنسان، عقرب الاحتلال بكل أجهزته ومستوياته العسكرية والأمنية والسياسية هو الذي يحرك هذه الأرقام، غرفتك مرقّمة، الزنزانة مرقّمة، مدة حبسك مرقمة، هم لا يعرفوك إلا رقما أو هدفا، لا يقرأون أي معنى لهذه الأرقام، أنت مخفي متواري تحت هذه الأرقام.
يقاس عمر دولة الاحتلال الصهيوني وبقائها بالأرقام، بعدد الحروب التي تخوضها وعدد القتلى الفلسطينيين، أرض أكثر وسكان أقل، تطهير عرقي، مسح الناس جوا وبحرا وبرّا، تنظيف فلسطين من سكانها من أجل دولة تلمودية يهودية نقية.
أنت يا ناصر مجرّد رقم، كان يأتيك الهواء من فتحة ضيقة لتتنفّس، شعاع الشمس في ساحة الفورة له مدّة محدّدة، حبات البطاطا والرز تأتيك محدودة لا تزيد ولا تنقص، سطور رسالتك على ورق الصليب الأحمر معدودة، كلماتك على شبك الزيارة مع أمك معدودة، أنفاسك واشتياقاتك وسلاماتك معدودة، ابتساماتك معدودة، حركات أصابعك معدودة، لقد انتهى مفعولك بمجرد إن دخلت سجون الاحتلال، هنا الحديد والأبواب والسلاسل والأرقام.
أنت يا ناصر في المحكمة العسكرية مجرد رقم، مدة الحكم بحقك هي مجرد رقم، لا يفهم القضاة أن تحت الرقم إنسان يغضب أو يشعر بالظلم، تجديد اعتقالك الإداري هي أرقام لا تحسب بالشهور والسنوات، ليس هناك من يفهم ماذا يوجد وراء هذه الأرقام، لا يرون بشرا وتعذيبا واضطهادا وعمرا يضيع بين سنوات هذه الأرقام. ما هذا الرقم الذي يسمى مؤبد، لا يوجد حتى في علم الرياضيات والفلك، مؤبد مؤبدين خمس مؤبدات وأكثر، هل هو اسم للجحيم في السجون؟ هل هو الانتظار حتى تتبدّل الأرقام أو يمحوها الصدأ عن الجسد والقضبان، لم يقرأوا ما كتب الأسير ناصر أبو سرور عن هذا المؤبد عندما قال:

هنا في المؤبّد ترتدي الجدران ظلّها متى تشاء وتخلع من تشاء عن ظله
تنام زنزانتي قبلي
كأنّي الذي يحرس ويشيخ حارسي الجندي لا أكبر تتوقّف الأيام عن عدها وأتوقّف
مؤبّد يعطيك كل الوقت ويأخذ وقتك كله.
أنت يا ناصر مجرد رقم، أنت ميت كالشّهداء الذين يحتجزونهم ويستبدلون أسماءهم بأرقام هناك في الثلاجات الباردة أو ما يسمى مقابر الأرقام، وأنت ميت إن مررت بحاجز عسكري ونرفزت في وجه الجندي، حياتك مجرد رقم واحد يسمى رصاصة، وأنت ميت إن لم تحفظ الخريطة الجغرافية وتفهم أن حركتك مرقمة بين المعازل والكنتونات، لا تتجاوز الجدار أو المستوطنة، عليك أن تنتبه أنك رقم والمسافات مغلفة ولست أكثر من رقم يدور في دائرة.
كل شيء صار أرقاما، اقرأوا تقارير مؤسسات حقوق الإنسان عن هذه الأرقام التي تحصي عدد البيوت المهدومة، عدد الشهداء، عدد الأسرى، عدد المستوطنين والمستوطنات، عدد الاقتحامات والمداهمات كأنه لا يوجد ما يختفي وراء هذه الأرقام، وأنّ هناك شعب ودم ولحم وعظم وقهر وحقوق قومية وسياسية، ووطن ينزف وضحايا يبحثون عن إنسانيتهم وسط المجازر والجرائم الصهيونية المستمرة. هذا الرقم الذي اسمه ناصر اللحام تمرد على الرقم، خلعه من اسمه وقلبه ومن على صدره، انتفض الإنسان الأسير، انتزع حقوقه الإنسانية ومكانته وقيمته واستعاد ملامحه في صراع الإرادات والبطولات والمعجزات خلف قضبان السجون، انتزع الرقم وبنى سلطته الثورية بديلا عن سلطة السجان، تحرك الرقم الذي يسمى ناصر اللحام، لم يتوقعوا أنّ هذا الرقم صار صحفيا وأستاذا يطل على دولة الاحتلال من على شاشات الفضائيات، لم يتوقّعوا إن هذا الرقم انتزع الثقافة والكتاب والقلم وأسس مدرسة وجامعة حتى داخل السجون، تحرك الرقم، ظهر الوجه الإنساني للشعب الفلسطيني وكشف الوجه البشع لدولة الاحتلال، ظهر الوجه الأخلاقي الحضاري للشعب الفلسطيني، وكشف وجه الخطيئة والعنصرية والتطرف لوجه الاحتلال، تحرك الرقم، انتفاضات وهبات وصلوات وصمود وأعلام وكوفيات، أعراس وأغان وأفراح وزيت وزيتون وحياة.
أعيد اعتقال الصحفي ناصر اللحام يوم 7 تموز 2025، ليتحوّل من محلل ومذيع للأخبار إلى شاهد على الإبادة الدموية في غزة، وإلى شاهد وضحية على الإبادة المتوارية بحق الأسرى خلف القضبان بعد أن صار هدفا عسكريا لسلطات الاحتلال.
وهناك، وبدون قلم وميكرفون وشاشة، يكتب تقريره بدمه وعذاباته، وهناك حيث ينقطع الصوت وتمارس كل أشكال التعذيب والانتقام، مازال ناصر يحكي على خط النار بلا درع إلا الحقيقة، فعندما انطفأت الكاميرا صار ناصر رواية مشتعلة.
استشهد خلال حرب الإبادة البشعة على غزة أكثر من 230 صحفيا، واعتقل المئات، وهذا لم يحدث حتى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، هؤلاء الشّهداء ليسوا أرقاما، إنّهم لغات ونبضات وأصوات وعقول وعيون، رأت الجحيم الصهيوني فنقلته إلى كل أرجاء الكون، لينكسر الصمت والخوف، ويتوقّف نزيف الموت قبل أن يدفن الشاهد والمشهد، وتحترق الصورة والنص.
نظرت إلى صورة ناصر المرقّمة، وتذكّرت أنّه قال لي يوما أن أسوأ ما في الحياة الجنون والسجن، فكيف الآن وقد اجتمع كل مجانين تل أبيب الشاذين مع ناصر في السجن؟ وقد أصبح السجن ساحة للإعدام، ولإشباع غرائز وشهوات الجلادين ونزعاتهم المجنونة.

ناصر يا صاحب العينين المتعبتين كالمخيم
أنت الآن في الزنزانة
لكن صوتك يمر في الحارات
وفي شاشات الجوال
خبر عاجل
ناصر يتكلّم
غزّة بخير رغم الألم