طباعة هذه الصفحة

رجــال الثّورة ومناهج الوعي التّحـرّري العابر للأجيــال

بقلم: د . سراج منير
رجــال الثّورة ومناهج الوعي التّحـرّري العابر للأجيــال
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

في خطوة تربوية عميقة الدلالات، بادرت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية إلى إدراج أسئلة متخصّصة حول الثورة الجزائرية المجيدة في امتحانات الثانوية العامة للعام 2025 لمادة التاريخ. وقد تجاوزت هذه الخطوة بعدها الرمزي لتشكّل ممارسة تعليمية تحررية، تزرع في وعي الطلبة الفلسطينيين حقيقة أن الشعوب التي تقاوم لا تموت، وأن الذاكرة الثورية ليست نصًّا يُحفظ، بل وعيًا يُبنى وقدوةً تُستلهم.

 إنّ إدراج هذه الموضوعات في صميم المنهاج الدراسي الفلسطيني يجسّد فهمًا عميقًا لدور التعليم في تشكيل الهوية الوطنية وترسيخ ثقافة الحرية. وهو ما ذهب إليه المفكر التربوي باولو فريري في كتابه “تعليم المقهورين” حين أكد: “تحرر الإنسان يبدأ حين يصبح وعيه بالتاريخ أداةً لفهم الواقع وإرادةً لتغييره”. وليس من قبيل المصادفة أن تختار فلسطين، وهي التي تناضل منذ أكثر من قرن دفاعًا عن وجودها وهويتها، أن تعلّم أبناءها تجربة الثورة الجزائرية التي قهرت أطول استعمار أوروبي في التاريخ الحديث. فتجربتا الجزائر وفلسطين التقتا في مساحات واسعة من الألم والأمل، من التضحيات ومن الإيمان بعدالة القضية.

رجـال الثّورة..مشاعـل الطّريـق وقدوات التّعليـم

يكتسب تدريس سيرة قادة التحرر أهمية تربوية قصوى، إذ تؤكد نظرية التعلم الاجتماعي لألبرت باندورا أن: “النماذج البشرية الملموسة تصنع الدافعية وتزيد فاعلية التعلم أكثر من أي محفزات نظرية”.
ولعل قادة الثورة الجزائرية جسّدوا هذا المعنى أصدق تجسيد:
-   مصالي الحاج: الذي نشر الوعي القومي في العشرينيات والثلاثينيات، ممهّدًا الطريق لاستقلال الجزائر.
-   مصطفى بن بولعيد: صاحب القرار التاريخي بإشعال شرارة الكفاح المسلح.
-   العربي بن مهيدي: الذي قال عبارته المدوية “ارموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”.
-   حسيبة بن بوعلي: رمز المرأة المناضلة التي فجّرت معركة الجزائر.
وفي فلسطين، نهضت قامات لا تقل صلابة وإلهامًا:
-  ياسر عرفات (أبو عمار): قائد الثورة الفلسطينية المعاصرة، الذي وحّد الشعب الفلسطيني ورفع راية الكفاح السياسي والمسلح.
- خليل الوزير (أبو جهاد): مهندس الانتفاضة ومفجّر روح المقاومة المنظمة.
- جورج حبش: الذي جعل من الكفاح عقيدة لا تقبل المساومة.
- أبو علي مصطفى: الذي دفع حياته ثمنًا لإيمانه بأنّ النضال لا يعرف التراجع.
- أحمد ياسين: قائد روحي ومؤسس مشروع مقاومة جديد رغم الإعاقة والظروف.
إنّ تدريس سير هؤلاء القادة لا يهدف فقط إلى تمجيد الماضي، بل إلى صنع مستقبل تُبنى فيه العزيمة على ركائز الوعي والفخر الوطني. وكما يقرر الأكاديمي المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابه “الذاكرة التاريخية والهوية الوطنية”: “الأمة التي لا تزرع في أبنائها ذاكرة نضالها، تتركهم نهبًا لروايات الخصوم”.

الأهميـة التربويـــة العميقـة وعـدم الموسميـــة:

لقد جسّدت أسئلة امتحان التاريخ الأربعة هذا التوجه التربوي المستدام:
-  1 - سؤال عن أهداف الثورة الجزائرية كما صاغها بيانها الأول، في تذكير صريح بأن وضوح الرؤية هو مفتاح كل حركة تحررية.
-  2 - سؤال عن الأساليب العسكرية التي اتبعها الثوار الجزائريون، وهو موازٍ لما طوره الفدائيون الفلسطينيون من تكتيكات المقاومة.
--3 - سؤال عن تاريخ الاستقلال الجزائري، رسالة ضمنية بأن الحرية قد تتأخر، لكنها لا تضيع.
- 4 - سؤال عن دور الوعي القومي في إشعال الثورة، وهو الوعي نفسه الذي حمل الفلسطينيين إلى الميادين رغم الاحتلال والشتات.
إنّ الاقتصار على تعليم هذه الصفحات المشرقة في مناسبات موسمية يُفرّغها من قوتها التكوينية. وتؤكد نظرية التعلم التحويلي لجاك مزيورو أن: “المعرفة التي لا تتحوّل إلى إعادة نظر في الذات والفعل تظل معرفةً خاملة”.
لذلك، ينبغي أن تصبح هذه النماذج والمضامين جزءًا دائمًا من المقررات، من المرحلة الأساسية حتى الثانوية، بحيث يتعرف الناشئة على رموز الجزائر وفلسطين كمدرسة حياة لا كأحداث عابرة.
توازي التجربتين في وعي الأجيال:
إن دراسة الثورتين الجزائرية والفلسطينية معًا تتيح للطلبة فهم معاني:
-  وحدة المصير العربي.
- إصرار الشعوب على التحرر مهما بلغت كلفة النضال.
- بناء الهوية الوطنية في مواجهة محاولات الطمس والاقتلاع.

رسالـــــة تربويـــــة متجـــــدّدة

 إنّ هذه الخطوة التعليمية الفلسطينية ليست مجرد تكريم لثورة الجزائر ولا تقديرًا فقط لدورها الداعم، بل هي فعل تحرري يزرع في نفوس الناشئة الإيمان بأن القادة الأبطال - من العربي بن مهيدي إلى ياسر عرفات - هم قدوات نقتدي بهم ونستلهم من تجاربهم كيف تصنع الحرية بالإرادة والإصرار.
خاتمـــــــــــة
اليوم، فيما يكتب طلبة الثانوية إجاباتهم عن الثورة الجزائرية، فإنهم في الحقيقة يكتبون فصلاً من ذاكرتهم الوطنية، ويعلنون أن فلسطين، أرض الصمود، ستظل تعرف كيف تستلهم العبر من رفاق الدرب.
«وحين نروي سيرة ياسر عرفات إلى جوار مصطفى بن بولعيد، فإننا لا نحكي قصة الماضي، بل نرسم معالم المستقبل”.