طباعة هذه الصفحة

فرانشيسكـا ألبانيــزي..

حــين يتحــوّل القانــون إلى أداة تحـــرّر

بقلم: عيسى قراقع
حــين يتحــوّل القانــون إلى أداة تحـــرّر
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

من داخل أروقة الأمم المتحدة، حيث اللغة عادةً ما تكون محايدة، وباردة، ومجردة، خرج صوت مختلف حمل لهجة لا تهادن، ورسالة تتجاوز التوصيف إلى التنديد والمساءلة. صوت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، بدا – في خضم صمت دولي خانق – كصرخة قانونية ذات نَفَس تحرري نادر.


خطابات ألبانيزي وتقاريرها لا تكتفي برصد الانتهاكات الصهيونية، بل تصف ما يحدث بتعابير قانونية صارمة: “إبادة جماعية”، “فصل عنصري”، “استعمار استيطاني”، “عقاب جماعي”. وهي بذلك تضع خطابها في صلب القانون الدولي الإنساني، مستندة إلى مواثيقه لاجتراح لغة لا تُجامل في توصيف الواقع. غير أن ما يجعل خطاب ألبانيزي مميزًا ليس فقط التزامه الحرفي بالقانون، بل قدرته على تجاوز الحياد التقني نحو موقف أخلاقي وإنساني. فهي لا ترى الفلسطينيين فقط كضحايا انتهاكات، بل كشعب يخوض نضالًا تحرريًا ضد استعمار طويل الأمد. من هنا، تُدرج في خطابها حقهم في “تقرير المصير” و«التحرر من الاحتلال”، وهو ما يرفع خطابها من مجرد تقرير حقوقي إلى بيان تحرري موجه للضمير العالمي.
في مشهد يندر حدوثه، تظهر ألبانيزي كمثال نادر على المقرر الأممي الذي يتماهى مع دور “المثقف المقاوم” كما نظّر له إدوارد سعيد: المثقف الذي لا يرضى بدور الموظف أو التقني، بل يربط بين معرفته وموقفه الأخلاقي. هذا ما يفسّر مهاجمة الكيان الصهيوني لها، واتّهامها مرارًا بـ«التحيز” أو حتى “معاداة السامية”، فقط لأنها تجرأت على قول ما تتجاهله عواصم القرار: أن هناك استعمارًا في فلسطين، وأن ما يحدث ليس “نزاعًا”، بل نظام اضطهاد بنيوي ممنهج.
تدرك فرانشيسكا أن القانون الدولي بالأساس هو صناعة استعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، ولهذا لا يمكن للمستعمرين أن يضعوا قوانين تفلت من قبضتهم، وإنما قوانين تنظف أيديهم مما ارتكبوه من جرائم بحق الشعوب المستعمرة، يسيطرون على إيقاعاته وتوازناته في كل الأزمنة، ولهذا نجدهم يفرغون محتواه من المعنى، كما يفرغون أرض غزّة من سكانها تطهيرا ومحوا وإبادة
خطاب ألبانيزي يعيد طرح سؤال قديم جديد: هل يمكن للقانون الدولي أن يكون أداة مقاومة بيد الشعوب، أم أنه يُستخدم تاريخيًا كغطاء لشرعنة ميزان قوى ظالم؟ في الحالة الفلسطينية، بدا طويلًا أن القانون يُستخدم لإدارة الصراع لا لإنهائه. لكن ألبانيزي تكسر هذا النمط، وتُعيد تذكير العالم بأن القانون، حين يُستخدم بشجاعة، يمكن أن يصبح صوتًا للمقهورين لا سيفًا بيد الأقوياء.
صحيح أن خطاب ألبانيزي ليس ملزمًا قانونيًا، ولا يُغيّر موازين القوى الدولية، لكنه يشكّل رافعة رمزية وأخلاقية قوية. فهو يوفّر للناشطين، والمثقفين، ووسائل الإعلام، والمجتمع المدني، أرضية قانونية متينة للحديث عن العدالة والمساءلة، ويعزز مكانة القضية الفلسطينية في الوجدان الإنساني العالمي.
فرانشيسكا تحدثت عن اقتصاد الإبادة، واستثمار الدول بالموت الجماعي في غزّة، وعن تمويل الشركات للأسلحة والقنابل والصواربخ التي حولت غزّة إلى جحيم لا يطاق، ليتحول القانون الدولي إلى شاهد صامت، وما يسمى الشرعية الدولية إلى ملهاة الضعفاء.
 ما نحتاجه ليس فقط إصلاح القانون الدولي من الداخل، بل تفكيك بنيته الخطابية التي تخفي عنفها داخل شعارات محايدة، فالتحرر لا يتحقق داخل منظومة تصوغها القوى المهيمنة، بل من خطاب قانوني جديد، يعيد تعريف الحقوق والعدالة، إنه خطاب لا يطلب الاعتراف من المنظومة بل يفضحها، ولا يتوسل الحق بل ينتزعه.
ألبانيزي أرادت أن تعطي القانون الدولي معنى، وأن يؤدي وظيفة تحررية، ولا يبقى خيالا سياسيا وحاملا لغة ازدواجية رمادية، يهدف إلى المحافظة على امتيازات الدول الأقوى وتفوقها، فكان خطابها يعيد الاعتبار لمفهوم الحرية كقيمة استراتيجية، وهو أشمل وأعمق من مفهوم الدولة، أنه النضال الوطني الفلسطيني من أجل الحرية وحق تقرير المصير.
النظام القانوني السائد يخلط بين الدولة والحرية، ومن ثم يصور القضية الفلسطينية على أنها نزاع قومي بين شعبين على أرض واحدة، وليس تطلع الشعب الفلسطيني إلى الحق في الانتماء والوجود والكينونة، فمن دون ممارسة إنهاء الاستعمار، فإن أي حل يؤدي إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وإقصائهم، وكما قال الشهيد الأسير المفكر وليد دقة: الحرية بصفتها قيمة غير خاضعة لحسابات موازين القوى، ومن طبيعتها أنها غير قابلة للمساومة، فأما حرية وأما عبودية، فلا يوجد نصف حرية أو ربع حرية.
في زمن يسوده صمت المؤسسات وتواطؤ الدول، يبرز صوت فرانشيسكا ألبانيزي كاستثناء لافت..خطابها يُذكّر بوظيفة القانون الأصلية: أن يكون في صف العدالة لا القوة، وأن يدافع عن الكرامة لا المصالح. وفي دفاعها الشجاع عن الشعب الفلسطيني، لا تقدّم ألبانيزي مجرد تقرير أممي، بل ترسم ملامح خطاب تحرري جديد داخل الأمم المتحدة، خطاب يرى في القانون الدولي فرصة لتحرير الشعوب، لا تقييدها.
فرانشيسكا في خطابها حاولت أن تحمي القانون الذي لم يعد محايدا، وإنما أداة بيد السلطة الاستعمارية، لإضفاء شرعية على العنف البنيوي، والتمييز العنصري، وارتكاب الجرائم، وكما قال فرانس فانون: القانون الاستعماري لا يعترف بالحق إلا إذا كان في خدمة المستعمر، أما القانون الحقيقي فهو الذي يولد من رحم النضال، ويكرس سيادة الإنسان على مصيره.
نتيجة مواقفها تعرضت ألبانيزي للتهديد والمقاطعة، وشنت أمريكا والكيان الصهيوني حملة مغرضة لإقصائها، وهذا ما حدث مع مقررين سابقين في الأمم المتحدة مثل ريتشارد فولك، لأنهم لم يخشوا من تسمية الأسماء بأسمائها: إبادة، جرائم حرب، تطهبر عرقي، وتحميل الأسرة الدولية مسؤولية الصمت والتخاذل.
إن فرانشيسكا ألبانيزي في خطابها القانوني واجهت العار بالصراحة والجرأة، وهي تقول: إن الإبادة في غزّة لا يمكن قراءتها باعتبارها عملية عسكرية، بل هي حلقة في مشروع إبادة ممنهجة، تدار في سياق استعماري طويل الأمد، وتحت غطاء الإفلات من العقاب، والتواطؤ الدولي، وصمت المنظومات العالمية.
حين يتاح قتل شعب كامل، ضمن بنية قانونية قائمة، وصمت سياسي دولي متواطئ، فإن سؤال فرانشيسكا لا يعود عن من ينتهك القانون؟ بل ما قيمة قانون لا يوقف الإبادة؟
فرانشيسكا
ليست من غزّة
 لكن غزّة كانت تنام في قلبها
كأنها ابنة ضائعة
أو وطن مؤجل
يا امرأة وضعت تقريرها في فم العالم
كأنها تضع المرآة أمام وجه فقد ملامحه
وصرخت؛
انظروا، هذه ليست حربا
هذا موت متعمد
مدعوم، موثق
ممول بالأقمار الصناعية وشركات الأسلحة
فرانشيسكا
أنت لست من ترابنا
لكنك أقرب إلينا من دمنا
لأنك لم تتركي الحقيقة تموت على الطاولة