طباعة هذه الصفحة

سنوات من حكم الرئيس الراحل

بومدين.. السياسة فن الممكن

فنيدس بن بلة

كيف هو مشروع الدولة الوطنية لدى الرئيس الراحل هواري بومدين؟ أي نظرة استشرافية يحملها لجزائر أرادها أن تكون دوما واقفة تواجه الصعوبات وتنتصر باستقلالية قرار وسيادة لا تقبل المساس والتنازل تحت أي طارئ وتهديد؟.

إنها أسئلة أثيرت في منبر «ضيف الشعب» في نقاش مفتوح على فكر بوخروبة محمد، مرجعيته، ثوابته وأطروحاته لجزائر الماضي، الحاضر والمستقبل.أثيرت هذه المسائل في أربعينية وفاة الرئيس الراحل حيث ذكر بها الوزير الأسبق محمد كشود المجاهد بالولاية الثانية التاريخية متوقفا عند محطات بارزة من جزائر بومدين التي ما انفك يرافع في خطبه وتعليماته على بناء دولة المؤسسات التي لاتزول بزوال الأفراد والرجال.
وبحسب كشود فإن حنكة الرئيس الراحل ودهاءه وامتلاكه لرؤية سبقت زمانه، مكنته من التألق في إدارة شؤون الرعية وتسيير المؤسسات وجلب السند والتأييد الجماهيري لمشروع رأى فيه الجزائريون حلمهم وتطلعاتهم. يكفي رصد مسار الراحل لإظهار الكاريزما التي تمتع بها وانفرد على الآخرين فارضا نفسه قائدا عسكريا وسياسيا مبكرا. من قالمة موطن رأسه، قسنطينة التي درس فيها التعليم التكميلي، القاهرة وافد على جامعها الأزهر لينهل من العلوم ما يحتاجه، إلى العودة إلى الوطن على متن الباخرة «دينا» الشهيرة، لفت الشاب بوخروبة أنظار عامة الناس والطبقة المثقفة والقادة السياسيين الذين رأوا فيه صفة المناضل الثائر الذي يحول المستحيل إلى ممكن.  
ليس غريبا أن يوصي القائد العربي بن مهيدي الذي كان أول مستقبليها بعد نجاح مهمة إيصال الأسلحة إلى الثورة أن «يحافظوا على هواري بومدين ويعتبروه نائبه ويعودوا إليه في كل كبيرة وصغيرة». وظل هواري بومدين العسكري يتألق باستمرار ويترقى في  الرتب بالولاية الخامسة التاريخية.
وزادت هيبته ورفع شأنه بعد توليه قيادة الأركان بالغرب الجزائري قبل الوصول إلى منصب القائد العام لأركان جيش التحرير بعد اجتماع العقداء العشرة حيث أظهر مقدرة ودهاء خارقا في إدارة الشؤون العسكرية وتنظيم الجيش.
ونتذكر تأكيده القطعي على إقامة جيش نظامي له زيه وتنظيماته وقواعده وقدراته الفائقة على مواجهة المستعمر الفرنسي في وضح النهار دون الاعتماد على حرب العصابات لإبراز أن للجزائر مؤسساتها وقواتها المسلحة المشكلة لنواة الدولة المستقلة التي لن تكون أبدا فرنسية عكس الدعاية الاستعمارية التي تزعم عدم وجود أمة جزائرية في التاريخ القديم والحديث.
سياسيا نجح بومدين القائد في أن تكون له كلمته وتقوى في الميدان اعتمادا على رفقاء الدرب أمثال عبد العزيز بوتفليقة المعروف باسم عبد القادر المالي أثناء الثورة رئيس الجمهورية حاليا، ڤايد صالح رئيس الأركان حاليا وآخرين.
ويحسب لبومدين السياسي تشبعه بالفكر الاشتراكي وتأثره بأبي ذر الغفاري، هوشي مينه منظر الثورة الفيتنامية والصيني شوان لاي بصفتهم رواد هذا المذهب حيث بنى شخصيته المؤثرة في جزائر الثورة والاستقلال. هذه الشخصية الكاريزما التي يتصف بها جعلته ينظر إلى بناء جزائر ذات الوزن الكبيرة المؤثرة في مجرى العلاقات الدولية تتخذ من نوفمبر مرجعية في مساندة القضايا العادلة وتقرير المصير.
اتخذ بومدين من العالم العربي، أفريقيا والعالم الثالث محاور ثلاثية الأبعاد والمنطلقات للدفع بتحرر الشعوب والثورة على النظام  العالمي القديم الذي شيد خارج الدول النامية وبطريقة تخدم حلفاء الحرب العالمية الثانية الذين يرون أنهم وحدهم أحق بتوجيه المعمورة حسب ما تستدعيه مصلحتهم وما يطالب به نفوذهم.
دخل بومدين في صراع مع هذه القوى الرافضة للخروج عن مركزية التدابير المتخذة في سان فرانسيسكو، يالطا وبوتسدام المروجة لعالم يشطب من الوجود الوحدات السياسية المنتمية للجنوب الرافض لاي تنازل وتقاسم الوظيفة معه من خلال عدم الانحياز، الاتحاد الافريقي ومجموعة ٧٧ متخذا من سلاح البترول ورقة ضغط وتهديد أسمعت صوت الجنوب وأوصلت عدالة مطلبه إلى المنبر الأممي.
لم يتوقف الرئيس الراحل عن هذا النضال طيلة حياته حتى رحل تاركا كلمته التي أدلى بها في آخر خطاب له للجزائريين مرسخا في الأذهان. ويتذكر الجزائريون بتأثر تلك الكلمة الختامية لمسيرة نضال  كانت بمثابة وداع للرئيس الزعيم:» اللهم فاشهد إننا بلغنا بل أنني بلغت» تاركا الرسالة والوصية لرؤساء آخرين سار كل واحد على طريقته محددا الأوليات حسب الظرف لكن لهدف واحد ووحيد: «الإبقاء على جزائر واقفة قوية مثلما نادى بها أبناء نوفمبر وأوصى بها الشهداء».