تساعد المهرجانات، بشكل كبير، في تعزيز الصّناعات الثقافية، فهي منصّات للحفاظ على التراث الثقافي والترويج له، وتشجيع السياحة، وخلق فرص العمل وتنشيط الاقتصاد. كما توفّر مساحات فريدة للتبادل الثقافي والتواصل بين المبدعين، وتحفّز الاقتصاد الإبداعي، وتعزّز صورة المكان وجاذبيته للزوار والمستثمرين. مع ذلك، تواجه المهرجانات تحديات عديدة، من ارتفاع تكاليف الإنتاج، ومشاكل التمويل، إلى إمكانية سوء التخطيط المالي، ونقص الكوادر المؤهلة، بل وحتى التأثيرات المناخية.
تعتبر منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو”، أن المهرجانات فعاليات ثقافية محورية تُثري النسيجين الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمعات في جميع أنحاء العالم. فهي منصات ديناميكية للتعبير الفني، والحوار بين الثقافات، والنشاط الاقتصادي، وتجسّد مبادئ اتفاقية اليونسكو لعام 2005 بشأن حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، التي تُبرز دور التعبيرات الثقافية في تعزيز التنمية المستدامة، والإبداع، والمشاركة الشاملة.
وتُعد المهرجانات بمثابة بنية تحتية أساسية داخل الأنظمة الثقافية، تضيف المنظمة الأممية، إذ تدعم تداول السلع والخدمات الثقافية، وتُعزّز تنقّل الفنانين والمهنيين الثقافيين، وتقوّي الاقتصادات الإبداعية المحلية. كما أنّها تُسهّل الوصول إلى الثقافة، لا سيما عندما تُصمم للوصول إلى المجتمعات المهمّشة أو غير الممثّلة تمثيلا كافيا.
تأثيرات في شتى المجالات
للمهرجانات الثّقافية تأثير اقتصادي واجتماعي كبير على الصناعات الثقافية، من خلال توفير فرص العمل، وتحفيز الاستهلاك المحلي والسياحة، وخلق أعمال وفرص مهنية جديدة. كما أنّها تُعدّ دافعًا للتنمية، وتعزّز جاذبية المناطق، وتشجّع التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات، وتُشكّل منصّةً لنشر الأعمال الثقافية.
ومن بين هذه التأثيرات نذكر الأثر الاقتصادي، الذي قد يتجلّى في خلق فرص العمل، إذ تُوفّر المهرجانات فرص عمل موسمية أو دائمة في قطاعات مُختلفة، مثل الخدمات اللوجستية والأمن والاستقبال والخدمات. كما يتجلّى تأثيرها في التحفيز الاقتصادي المحلي، إذ يُنفق روّاد المهرجانات على الفنادق والمطاعم والنقل وبيع المنتجات المحلية، ما يُفيد الشّركات والحرفيين. وتسرّع المهرجانات ديناميكية الأعمال الثقافية، حيث تُعزّز ظهور شركات صغيرة مُتخصصة في الفعاليات والترويج الثقافي والحرف اليدوية. وتحسّن المهرجانات “صورة المكان” إذ يمكنها أن تُغيّر نظرة الناس بشكل إيجابي، كما تسهم في تفعيل السياحة من خلال جذب السياح المحليين والأجانب، وتزيد من معدلات “الإشغال”، ويُسهم ذلك في تعزيز سمعة الوجهة وحيوية قطاع السياحة الثقافية، ويمكن لهذا النجاح أيضًا جذب استثمارات جديدة إلى المنطقة.
وهنالك أيضا الأثر الاجتماعي والثقافي، على غرار تعزيز التنوع الثقافي، حيث تُعدّ المهرجانات أماكن للقاء والتبادل بين الثقافات المُختلفة، وتُعزّز الحوار بين الثقافات والاعتراف المُتبادل، وتُوفر أيضا مساحةً للمبدعين للتواصل وتبادل الأفكار والتعاون. ويوجد أيضا الإنعاش الإقليمي، حيث تُسهم المهرجانات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمدن والمناطق الريفية من خلال إنعاش المساحات الحضرية وتنشيط المجتمعات المحلية. ويمكن للمهرجانات أن تشارك في تطوير الجاذبية الإقليمية، بأن تُعزّز الهوية الثقافية للمنطقة وتُعزز حضورها وسمعتها، مما يجذب الزوار والفعاليات المستقبلية، وقد تُساعد مهرجانات على تعزيز شعور قوي بالفخر والانتماء للمجتمع، ولا ننسى مهمة التعليم ونقل الثقافة، فالمهرجانات تُتيح فرصا للتعلم.
ويمكن للمهرجانات أن تكون أداة فعّالة للحفاظ على التراث الثقافي والترويج له، من خلال الاحتفال بالعادات والتقاليد وعرضها على جمهور أوسع.
تحديات بالجملة
على الرغم من أهميتها وفوائدها العديدة، تواجه المهرجانات معيقات وتحديات مختلفة، خاصة مع غلبة النموذج الاقتصادي والتجاري على الخدمة الثقافية.
من بين هذه التحديات، نشير إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، وعلى سبيل المثال، فقد ارتفعت تكلفة الفنانين والموظّفين بشكل كبير، وأحيانا بمئات النسب المئوية، وهو ما يُمثّل نفقات رئيسية للمهرجانات. كما ارتفعت أيضًا نفقات الطاقة والخدمات اللوجستية والمعدات التقنية (التكنولوجيا) بشكل كبير، ممّا زاد من إجمالي تكاليف الإنتاج. وفيما يتعلق بالبنية التحتية والتأمين، فإنّ المهرجانات تتطلّب استثمارات كبيرة في المسارح والأماكن وإجراءات السلامة، مع تزايد المخاطر المرتبطة بالطقس، ممّا يتطلب، بدوره، تأمينا شاملا وإعدادا أفضل للموقع.
ونشير أيضا إلى مشاكل التمويل والإدارة المالية، حيث تعاني العديد من المؤسسات الثقافية من “ضعف اقتصادي”، وتعتمد حصريا على الدعم الحكومي، ما يجعل من هذا الأخير المصدر الوحيد لضمان سلامتها المالية. أما الاعتماد على مبيعات التذاكر، فغالبا ما تلجأ إليه المهرجانات بشكل كبير، والذي قد يكون غير ثابت بسبب تشبع السوق، أو تغير عادات إنفاق الزوار، أو ارتفاع تكلفة الدخول. ولا ننسى مسألة محدودية الموارد والخبرة، إذ غالبًا ما تعمل المهرجانات، وخاصةً الصغيرة منها، بوقت وموظفين وأموال محدودة، وقد يفتقر المنظمون إلى الخبرة في مهام الإدارة المالية المعقدة، مثل وضع الميزانيات والقوائم المالية.
أما التحديات السوقية والاقتصادية، فتتعلق بتشبّع السوق، التي يمكن أن يؤدّي إليها تكاثر المهرجانات، ما يصعّب على الفعاليات الفردية جذب عدد كافٍ من الزوار وتحقيق إيرادات. وهناك أيضا عدم الاستقرار الاقتصادي، فالمهرجانات عرضة لتقلبات اقتصادية أوسع، وهو ما قد يؤثّر على إنفاق الزوار وعلى الجدوى المالية العامة.
كما تجدر الإشارة إلى معضلة الموازنة بين الوصول والتكلفة، إذ قد تؤدي الحاجة إلى تغطية التكاليف إلى ارتفاع أسعار التذاكر، ممّا يُنشئ حواجز اجتماعية تجعل الفعاليات الثقافية “امتيازًا حصريًا بدلًا من حقٍّ عام”.
ممّا سبق، يتضح جليّا تعدّد الصعوبات المالية التي تواجه المهرجانات الثقافية، نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج، مثل أجور الفنانين والطاقة، والاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية والتأمين، وعدم ثبات مصادر التمويل (بما في ذلك نقص التمويل الحكومي في عدة حالات)، والاعتماد على مبيعات التذاكر التي قد يحد منها تشبع السوق أو ارتفاع الأسعار. كما يُسهم سوء التخطيط المالي، ونقص الكوادر المؤهّلة، وإدارة الآثار البيئية الكبيرة للفعاليات الكبرى، في ضعفها المالي.
ولمواجهة هذه التحديات المالية، قد يتطلّب إضفاء تعديلات في حجم المهرجانات أو نموذج أعمالها. ولتحقيق أقصى استفادة من المهرجانات وضمان استدامتها، يُعدّ التخطيط الدقيق والإدارة المستدامة أمرا أساسيا، ويتطلّبان تعاونا بين المنظمين والسلطات المحلية.
نماذج من قلب إفريقيا
كشف تقرير جديد أصدرته اليونسكو شهر أوت الماضي، أنّ عشرة مهرجانات فنية وثقافية في جنوب القارة الإفريقية حقّقت، في عام 2024، أكثر من 11.7 مليون دولار من النشاط الاقتصادي، وأسهمت في خلق نحو 3000 فرصة عمل، ممّا يبرز دورها المهم، وإن كان غير معترف به بشكل كافٍ، في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد أُطلق التقرير بعنوان: “الإبداع من أجل المستقبل: توظيف مهرجانات الفنون والثقافة في إفريقيا الجنوبية لتحقيق التنمية المستدامة”، خلال مهرجان MTN Bushfire في إسواتيني، بشراكة مع اللجنة الوطنية لليونسكو هناك، وقدّم تحليلا للأثر الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي للمهرجانات بتسع دول: بوتسوانا، إسواتيني، ليسوتو، مالاوي، موزمبيق، ناميبيا، جنوب أفريقيا، زامبيا، وزيمبابوي.
ووفقًا للتقرير، تُعد المهرجانات محركات قوية للنمو الاقتصادي وتعزيز السياحة وتوفير فرص العمل، وخاصة للشباب. وقد أظهرت البيانات أنّ كل دولار يُستثمر في إنتاج المهرجانات يولد ما يعادل 2.51 دولار إضافية في الاقتصاد المحلي، بينما شكّل الزوار من خارج المناطق المحلية نسبة 61 % من إجمالي الحضور، ممّا يعزّز من دور المهرجانات كمحرّك للسياحة. كما أنّ 54 % من المناصب الإدارية تشغلها نساء، و65 % من القوى العاملة تقل أعمارهم عن 31 سنة، ممّا يبرز مساهمة المهرجانات في تمكين الشباب وتعزيز المساواة بين الجنسين.
ثقافيًا، تلعب المهرجانات دورًا محوريًا في الترويج للتراث المحلي والمواهب الناشئة، حيث إنّ 45 % من الفنانين المشاركين هم من المحليّين، و37 % يمثّلون مواهب صاعدة.
ومع ذلك، تبقى الاستدامة البيئية تحديًا كبيرًا، إذ يُظهر التقرير أن معظم المهرجانات اعتمدت بعض الممارسات البيئية، لكن واحد فقط منها لديه استراتيجية شاملة ومستدامة، ممّا يشير إلى الحاجة الماسة لتخطيط فعّال يراعي المناخ. وعلى الرغم من هذا التأثير الإيجابي الواسع، ما تزال المهرجانات مهمّشة في السياسات الوطنية وخطط التنمية، وهو ما حثّ عليه التقرير ومشاركون في الجلسات الحوارية، داعين إلى إدماج هذه الفعاليات الثقافية في السياسات، وتوفير بيانات دقيقة، وتعزيز التعاون الإقليمي لضمان استدامتها وتأثيرها الإيجابي على المجتمعات.
