فقدت الساحة الأكاديمية والثقافية الجزائرية، بحر الأسبوع الماضي، واحدا من أبرز أعلام البحث في الثقافة الصوفية، الدكتور صاري علي حكمت الذي رحل بعد مسار حافل بالبحث والتأليف والتدريس. ترك الراحل بصمات واضحة في ميدان الأدب المقارن والدراسات الصوفية، وكان مرجعاً لا غنى عنه للباحثين في قضايا الفكر الروحي وتراث الزوايا.
عرفت الساحة الثقافية الدكتور صاري علي حكمت، كرجل هادئ، يحمل في قلبه كثيرا من المحبة، وفي فكره الكثير من العمق، ليغدو اسمه مقترناً بمشاريع فكرية وأدبية متفرّدة.
مـن الطـــب إلى الأدب المقــــارن
وُلد الدكتور صاري علي حكمت وفي ذهنه حلم خدمة الإنسان، فتخرّج في البداية في تخصص الطب، غير أنّ شغفه بالأدب والفكر سرعان ما قاده إلى التوجّه نحو الدراسات الأدبية المقارنة. التحق بجامعة أبو بكر بلقايد بتلمسان أستاذاً محاضراً، كما درّس بقسم اللغة الفرنسية في جامعة وهران 2 محمد بن أحمد، ليُكوّن أجيالاً من الطلبة ويغرس فيهم حب البحث والفكر النقدي. هذا الانتقال من الطب إلى الأدب لم يكن مجرّد تحوّل أكاديمي، بل كان انعكاساً لرحلة داخلية عميقة، جمعت بين شفاء الجسد عبر الطب وشفاء الروح عبر الفكر.
مؤلفــات برؤيـة صوفيـــة
قدّم الراحل للمكتبة الجزائرية والعربية رصيداً ثرياً من المؤلفات، انشغل في معظمها بتسليط الضوء على أعلام التصوف وتجليات الروح في الأدب. ومن أبرز أعماله: “أنطولوجيا الأمير عبد القادر صوفي الكتابة” (2011)، “أنطولوجيا ديوان سيدي بومدين، شاعر الحب الأبدي” (2014)، “أنطولوجيا رباعيات جلال الدين الرومي”، “ديوان الشيخ بن يلس، الذي ارتبط بفتوى الهجرة نحو سوريا سنة 1911”.
كما ألّف كتاب 1001 ليلة، الميلاد في الإسلام وروح الزوايا، الذي قدّم له الأسقف هنري تيسيي، في تجسيد رمزي للحوار بين الأديان والثقافات. ولم يتوقف عند حدود النصوص التراثية، بل انفتح على أدب الرحلة من خلال كتاباته عن مدن روحية زارها، منها 1001 ليلة في قنية الذي دوّن فيه تأثره العميق برقصة الدراويش في تركيا.
نـــــادي الثقافـة الصـفي.. مشــروع فكــري
لم يكن الدكتور صاري علي حكمت مجرد مؤلف أو أستاذ جامعي، بل كان أيضاً فاعلًا ثقافياً بامتياز. فقد أسس وترأس نادي الثقافة الصوفية، الذي انطلق بمناسبة تظاهرة “تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية”. وقد تحوّل النادي إلى فضاء للحوار، وجسر يربط بين التراث الصوفي والواقع المعاصر، حيث جمع بين الباحثين والمهتمين بالثقافة الروحية في الجزائر وخارجها. انتماؤه إلى الجمعية الوطنية للزوايا ومؤسسة الأمير عبد القادر جعله أكثر قرباً من منابع الروح الجزائرية، التي رأى فيها جذور الهوية وملاذ الإنسان في مواجهة التحولات.
بعيداً عن مؤلفاته وأنشطته، كان صاري علي حكمت إنساناً عرفه زملاؤه وطلبته بتواضعه ورقته، وبشغفه الذي لا ينطفئ بالمعرفة. لم يكن التصوف عنده مجرد موضوع بحثي، بل أسلوب حياة، يتجلى في رؤيته للعالم وتعاطيه مع الآخر. وقد ظلّ طيلة مسيرته وفياً لقيم الحوار والتسامح، مؤمناً بأن الروح الإنسانية أوسع من الحدود الضيقة للزمان والمكان.
إرث لا يغيــب..
برحيل الدكتور صاري علي حكمت، تفقد الجامعة الجزائرية والأوساط الثقافية أحد أعمدتها البارزين، لكن أثره سيظلّ حاضراً في كتبه، وفي ذاكرة طلبته، وفي المساحات الفكرية التي أسسها. لقد رحل الجسد، لكن الصوت الذي دعا إلى الحب والتسامح عبر الأدب الصوفي، سيبقى شاهداً على مسيرة مثقف موسوعي جمع بين الطب والأدب، بين البحث الأكاديمي والتجربة الروحية. رحم الله الفقيد الذي جعل من إرثه الفكري منارة للأجيال القادمة.



