أحد البدائل الإستراتيجية المتنامية الأهمية لدعم الاقتصاد الوطني
تولي الجزائر أهمية متزايدة لتكييف أهداف القطاع السياحي مع تحقيق التنمية المستدامة، مع التركيز بشكل خاص على البعد البيئي وحمايته. يأتي هذا التوجّه في إطار استراتيجي أوسع يهدف إلى النهوض بالقطاع السياحي ليكون رافعة اقتصادية حقيقية و«مصدر دخل هامًّا مستقبلاً”، حيث يُنظر إلى السياحة على المستوى الوطني كأحد البدائل الإستراتيجية المتنامية الأهمية لدعم الاقتصاد الوطني وتخفيف الاعتماد على عائدات المحروقات. هذا السياق الوطني يرفع من مستوى أهمية الخطط التنموية الإقليمية، مثل تلك المطبقة في ولاية معسكر، ويزيد من ضرورة ضمان ديمومة الموارد الأساسية التي تعتمد عليها هذه الخطط.
تبرز حمامات بوحنيفية بولاية معسكر كمحور استشفائي وتنموي رئيسي، لكنها تواجه تحديًا وجوديًا يتعلق بنضوب موردها الأساسي، أي المياه المعدنية الحرارية. هذا التحدي يفرض على السلطات العمومية استجابة إستراتيجية سريعة، لا تقتصر على إنقاذ المحطة، بل تتجه نحو التنويع الجذري، مستفيدة من أصولها الثقافية والبيئية لتأمين مستقبل مستدام للقطاع.
ولا يختلف اثنان على أن الخصائص المائية والمكانة الوطنية لمدينة بوحنيفية تمثل نقاط القوة التي تتمتع بها، إذ تُعد حمامات بوحنيفية محطة علاجية واستشفائية متفردة. ويعود هذا التفرد إلى الخصائص الهيدروكيميائية والحرارية لمياهها، التي تتميز بتركيبتها المعدنية الغنية، حيث تصل حرارة المياه إلى 70 درجة مئوية، وهي مياه غنية بشكل خاص بغاز الكربون.
وتكتسب هذه المياه خاصية علاجية فريدة بسبب التركيز المعدني العالي الذي يبلغ 1262 غ/ل من المعادن. هذا التكوين الكيميائي والحراري المتميز يؤهل المحطة لمعالجة مجموعة واسعة من الأمراض تشمل أمراض الجهاز التناسلي والجهاز الهضمي، بالإضافة إلى الأمراض العصبية.
إن هذه الخصائص الكيميائية والحرارية للمياه ليست مجرد بيانات علمية، بل تضع بوحنيفية في فئة السياحة العلاجية المتخصّصة (Medical Tourism) بدلاً من الرفاهية العامة. وعليه، يتطلب الحفاظ على هذا التفوق التنافسي أن تركز إستراتيجية التسويق على الجانب الطبي الحصري لهذه التركيبة لمعالجة الأمراض المذكورة، ما يمكّن أن يرفع من قيمة الخدمة ومستويات الأسعار، ويزيد من جاذبية الاستثمار الخاص والأجنبي المتخصص.
الصــدع الجيولوجـي..
يقول البروفيسور منصور زعقان، المختص في الجيولوجيا، إن الاقتصاد المحلي لبوحنيفية يعتمد بشكل أساسي على المورد المائي. هذا الاعتماد يفرض اقتصاديات المخاطر، إذ إن استمرار نقص المياه أو تدهور جودتها نتيجة التهديد البيئي سيجعل جميع الاستثمارات المخططة في البنية التحتية والتوسع (ZET) عديمة الجدوى. موضحًا أنه يجب أن تُعتبر أي خطة توسع مشروطة بخطة متكاملة لـ«إدارة المخاطر المائية” لضمان ديمومة عوائد الاستثمار.
واعتبر البروفيسور زعقان أن استدامة المورد المائي هي الأولوية القصوى، حيث يمثل “نقص مياه بوحنيفية” تهديدًا وجوديًا لديمومة الحمامات وقدرتها على الاستمرار في أنشطتها العلاجية.
وعلى هامش يوم دراسي حول “حماية الموارد الحموية لولاية معسكر”، قال البروفيسور الحبيب عزاز، المختص في الهيدرولوجيا، إن التحليل العلمي لظاهرة نقص المياه يؤكد على تعقيد الوضع، فقد أظهرت “المقاربة النظائرية” أن الأصل المطري (المتأتي من الأمطار) للمياه الحرارية في بوحنيفية وسعيدة ينفي إمكانية اتصال هذه المياه بأصل بركاني، بل إنها تنبع من إعادة تغذية محلية يُرجَّح أن مصدرها جبال بني شقران.
وتشير الدراسات الجيولوجية في بحث علمي للبروفيسور عزاز إلى أن هذه المياه تتجمع في خزان طبيعي عميق من صخور الدولوميت والحجر الجيري، يقع على عمق يصل إلى 2000 متر وبسماكة تزيد عن 1500 متر. إن هذا الاعتماد الكلي على التغذية المطرية المحلية هو ما يفسر التقلبات في تدفق المياه، ويجعل المنظومة السياحية بأكملها رهينة لظاهرة طبيعية لا يمكن التحكّم فيها.
واقترح محدثنا أن تكون الإدارة المستدامة للمياه مدفوعة بالبيانات (Data-Driven Policy)، عبر إنشاء هيئة لمراقبة الموارد الجوفية، تكون مهمتها الرئيسية القياس والإصدار العلني للتقارير السنوية، كما يجب أن تتبنى الولاية أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بضمان توافر المياه وإدارتها المستدامة للجميع.
الجـذور التاريخية والأثـــــر
تجاوزت سمعة محطة بوحنيفية حدود الوطن نظرًا لجودة مياهها الحموية العالية. هذا الاعتراف الإقليمي والدولي المبكّر يشير إلى الجذور التاريخية العميقة التي تتمتع بها المحطة كمحور صحي واستشفائي. فتاريخيًا، تطورت المحطة من مجرد منبع تقليدي إلى محطة عصرية، محافظة على مكانتها كمركز جذب رئيسي للزوار الباحثين عن العلاج، ويؤكد هذا الوجود التاريخي الطويل على دورها الدائم كمحور حيوي للإقليم.
وتُعد حمامات بوحنيفية مصدرًا لرفع اقتصاد المدينة والولاية معًا، فهي ليست مجرد مرفق صحي، بل محرك اقتصادي يوفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، ويجذب الخدمات والسكان إلى المنطقة.
ويتجسد هذا الدور في التدفقات المالية المباشرة من خلال خدمات العلاج والإقامة، وغير المباشرة مثل الخدمات اللوجستية والعمالة. وتؤكد البيانات على وجود فرصة كبيرة لتحقيق “زيادة في تحصيل العملة الصعبة”، خاصة إذا تمّ استهداف السياحة العلاجية الدولية التي تتطلب خدمات ذات جودة عالية.
أرقام تنبئ بالازدهار وتحديات قائمة
تعكس الإحصائيات السياحية الأخيرة لولاية معسكر مؤشرات نمو قوية تشير إلى تزايد الاعتماد على القطاع السياحي كرافد اقتصادي، حيث تتوفر الولاية على حظيرة فندقية تضم 46 مؤسسة فندقية، 34 منها تتواجد بمدينة بوحنيفية، وقد سُجّل توافد 73,359 زائرًا مقيمًا خلال سنة 2024 من أصل 88,659 زائرًا أقاموا في فنادق الولاية.
وسجلت مصالح مديرية السياحة إجمالي عدد الوافدين إلى الولاية في عام 2024 بزيادة قدرها 3.99% عن سنة 2023، مع الإشارة إلى نمو نوعي في بعض المناطق التي عرفت تدفقًا لافتًا مثل “سيق” و«المحمدية” بنسب تتجاوز 67%، مما يدل على بداية فعالة لتنويع الوجهات الجاذبة خارج بوحنيفية ـ حسب تقديرات مديرية السياحة.
وعلى الرغم من أن بوحنيفية تستأثر بالعدد الأكبر من السياح (أكثر من 73 ألف سائح سنويًا)، إلا أن نسبة نموها السنوية كانت متواضعة جدًا، إذ لم تتجاوز 0.60%. وهذا يؤكد أنها بلغت ذروة قدرتها الاستيعابية الحالية، وهو ما يدفع إلى أهمية مشاريع التوسع السياحي، التي تتطلب رفع تحديات القدرة الاستيعابية والبنية التحتية لتحقيق زيادة في القدرة التنافسية عبر محاور رئيسية، منها رفع كفاءة البنية الخدماتية والأساسية، وتحقيق تنافسية الأسعار والرسوم المرتبطة بالنشاط السياحي.
رؤيـــــة طموحـــــة
ولتلبية هذا المطلب، تمّ برمجة مناطق توسع سياحي (ZET) واسعة بمدينة بوحنيفية على مساحة 4208 هكتارات، بالإضافة إلى منطقة الحمامات في نفس المنطقة بمساحة تُقدّر بـ 30.12 هكتار. وعلى الرغم من تأخر تنفيذ إنجاز مناطق التوسع السياحي ببوحنيفية، إلا أن مجرد برمجتها بهذه الشساعة يعكس رؤية حكومية طموحة لتطوير البنية التحتية للإقامة والخدمات المساندة.
ومع ذلك، يكمن التحدي الاقتصادي في جودة التنفيذ وتأمين التمويل وضمان توافق البنية التحتية والخدمات الجديدة مع المعايير الدولية للسياحة العلاجية، مما يمكّن الولاية من تحقيق التنافسية المطلوبة. فالإدارة الفعالة لمناطق التوسع السياحي هي مفتاح زيادة القدرة الاستيعابية وتأمين عوائد الاستثمار.
تنويـــــــع المصــــــادر
يهدف التنويع السياحي إلى الانتقال من الاعتماد الأحادي على السياحة الحموية العلاجية إلى نموذج سياحي مرن ومتعدّد الأوجه، يشمل المحاور الثقافية والبيئية، بما يعزز القدرة التنافسية من خلال وسائل وأنشطة الترويج والتسويق للوجهات البديلة، مثل السياحة الثقافية والتراثية والسياحة البيئية وسياحة المغامرات.
وتُعد زاوية سيدي محي الدين، التي أُسست عام 1200هـ على يد الولي الصالح عبد القادر الجيلاني، ركيزة محورية للسياحة الثقافية والتراثية نظرًا لارتباطها الوثيق بتاريخ الأمير عبد القادر المولود بها، ودورها في صون الانتماء الإسلامي للمنطقة ضد موجات التبشير المسيحي. فهي تمثل قيمة تراثية عالية، فموقعها في بلدية القيطنة المطلة على الأراضي الفيضية لوادي الحمام، وتصنيفها ضمن التراث الوطني منذ عام 1968م، يؤهلانها لتطوير مسارات السياحة التاريخية والدينية وربطها ببرامج التعليم الثقافي. فاستخدام هذا العمق التاريخي والثقافي كرافعة سياحية يمكن أن يغني تجربة السائح الذي يأتي للعلاج في بوحنيفية، ويزيد بالتالي من الإنفاق الإجمالي في الولاية.
السياحــة البيئية والمحميـــــات الطبيعيــة..
تُعد المنطقة الرطبة للمقطع، الواقعة في بلدية مقطع دوز، محركًا قويًا للسياحة البيئية، حيث تتربّع هذه المحمية الطبيعية ذات المناظر الفتانة على مساحة 1900 هكتار. وتمثل سرير وادي هبرة، وتنفرد المنطقة بتنوع بيولوجي جدٍّ مهم، إذ تستضيف أصنافًا عديدة من اللافقاريات والأسماك والنباتات الملحية المتنوعة، بالإضافة إلى طيور الصيد مثل الحجل والسمان والإوز الرمادي.
يمكن استثمار المحمية في تطوير سياحة الاستكشاف والتخييم وتنظيم المعسكرات الكشفية والرحلات التعليمية الموجهة، لتكون فضاءً بيئياً مفتوحاً للتربية الإيكولوجية والترويج للسياحة المسؤولة. وتسهم هذه الأنشطة، إذا ما خُطط لها باحترافية واستدامة، في خلق قيمة اقتصادية مضافة عبر توفير مصادر دخل للسكان المحليين، وتشجيع المبادرات المجتمعية المرتبطة بالخدمات البيئية والحرف التقليدية، مع ضمان الحفاظ على التنوع البيولوجي وحماية الأنظمة البيئية الحساسة من أي تأثيرات سلبية أو استغلال مفرط.
التكامـل التنمـوي
لا ينبغي أن تعمل بوحنيفية والتراث البيئي والثقافي بمعزل عن بعضهما، بل يجب تطوير فكرة “مسار جولة معسكر الكبرى” كمنتج سياحي متكامل يربط الحمامات العلاجية (الصحة والرفاهية) بالعمق التاريخي لزاوية الأمير عبد القادر، وبالمغامرة البيئية في المقطع، في شكل مسار سياحي يرفع متوسط الإقامة والإنفاق لكل سائح بشكل ملموس.
ويستدعي تطوير هذه المواقع الثقافية (القيطنة) والبيئية (المقطع) تحسين البنية التحتية، إذ يتطلّب إنعاش السياحة البيئية شق طرق وإقامة بعض المؤسسات الخدمية الضرورية. كما يُعد الاستثمار المشترك في الطرق والخدمات الأساسية لهذه المواقع عاملًا من عوامل التنمية الريفية أولًا، وداعمًا للسياحة لاحقًا، ما يساهم بفعالية في حماية التراثين الطبيعي والثقافي.
ولتحقيق التنمية السياحية المستدامة في ولاية معسكر، يجب تنفيذ خارطة طريق ترتكز على الإصلاح المؤسسي، وتعزيز التنافسية، وإدارة المخاطر البيئية. حيث تظهر متطلبات الانتقال إلى نموذج سياحي مرن أن النجاح المستقبلي لولاية معسكر لا يقتصر على إعادة تأهيل حمامات بوحنيفية فقط، بل يعتمد على تحويل التهديدات البيئية إلى فرص للحوكمة المؤسسية.
فولاية معسكر، بما تمتلكه من مؤهلات طبيعية وثقافية وروحية متميزة، تمثل نموذجًا واعدًا للمزج الذكي بين السياحة العلاجية المتخصصة والسياحة الثقافية والبيئية الريفية، إذ تجمع بين ثراء المورد المائي الحميّ، وعمق الإرث التاريخي والديني، وسحر التنوع البيئي الخلاب.
ويمكن أن تشكل هذه المقومات مجتمعة رافعة استراتيجية لبناء نموذج وطني رائد في تحويل الموارد المائية الاستشفائية المهدَّدة بيئيًا إلى وجهة سياحية متكاملة ومستدامة، قادرة على خلق الثروة وتوليد فرص العمل، بما يرسّخ مكانة الجزائر كقطب سياحي مزدهر، ويُسهم في تحقيق رؤيتها الاستشرافية الرامية إلى جعل السياحة أحد المصادر الأساسية للدخل الوطني إلى جانب المحروقات أو بديلاً عنها.





