لم يعد قطاع التكوين والتعليم المهنيين مجرّد مسار بديل أو ثانوي عن مسار المنظومة التربوية، ولكنّه أثبت جدارته في الميدان، وتحوّل إلى ورشة وطنية كبرى تراهن عليها الجزائر لبناء اقتصاد متنوّع قائم على الكفاءات، فالمشاريع والبرامج التي أعلن عنها للدخول المهني (دورة أكتوبر 2025)، تكشف عن رؤية متجددة تتقاطع فيها أولويات التنمية المحلية مع السياسات الوطنية للتشغيل وتنويع مصادر النمو.
وفق هذه الرّؤية، يواكب التكوين المهني التحولات الاقتصادية التي تشهدها الجزائر، بدءا من الاستثمار في الطاقات المتجددة والفلاحة الحديثة، وصولا إلى الصناعات التحويلية والرقمنة، وفي كل ولاية تقريبًا، تتجلى صورة جديدة لقطاع يخرج من القوالب التقليدية نحو آفاق أكثر مرونة وفاعلية.
ولقد شدّد الوزير والي العاصمة محمد عبد النور رابحي، بحر الأسبوع المنصرم، على ضرورة “التكفل السريع” بمشاريع إنجاز وتهيئة وصيانة المؤسسات التكوينية، فالعاصمة التي تضم شبكة واسعة من 358 مؤسسة تكوينية، تأوي أكثر من 29 ألف متكون يؤطّرهم حوالي 4500 موظف، صارت مطالبة اليوم بالانتقال من مرحلة التوسع العددي إلى تحسين الجودة والجاهزية.
وقد جاء هذا التوجيه في سياق اجتماع تنفيذي للولاية خصّص لتقييم الدخول المدرسي والمهني، أين شدّد رابحي على ضرورة سد النقائص المسجلة في النقل والإطعام، وهنا يبرز الحرص على تحسين الخدمات التكوينية، بما يعزّز ثقة المجتمع في هذا القطاع الحيوي.
تخصّصـات جديـدة توسّـع الآفــاق
أمّا بولاية الطارف، فقد حمل الدخول المهني 25 تخصّصا جديدا تستجيب لاحتياجات السوق، بدءا من الطاقات المتجددة في مجال البناء، وصولا إلى مهن عصرية مثل إدارة مراكز البيانات وتطوير التطبيقات، وهو ما يعكس إدراكا متزايدا لأهمية مواكبة التحولات التقنية والزراعية والصناعية.
مع أزيد من 3600 منصب بيداغوجي مفتوح لدورة هذا العام، بات قطاع التكوين بالطارف مرشّحا ليكون خزّانا للعمالة المؤهلة، سواء في المجالات الفلاحية والبيئية، أو في الصناعات الناشئة. ما يمكّن للتكوين المهني من التحوّل إلى أداة فاعلة في تأمين الانتقال الاقتصادي على المستوى المحلي.
الأجواء نفسها ترسمها ولاية خنشلة التي تستعد لافتتاح معهدين جديدين مطلع 2026، بطاقة استيعاب تفوق 1300 مقعد بيداغوجي، مع مرافق إيواء تتسع لـ 420 سريرا. وقد بلغ إنجاز هذه المشاريع نسبا متقدّمة (بين 88 و95 بالمائة)، ومن شأنها أن تخفّف الضغط عن المؤسسات القائمة، وتوفّر بيئة أفضل للتكوين.
إلى جانب ذلك، يجري إنجاز ملاحق ومراكز جديدة، بما يعزز من قدرة القطاع على استيعاب أكثر من 5200 متمهن، ما يعني أن أثر التكوين يمتدّ إلى خلق مناصب شغل جديدة في القطاع، سواء للإطارات البيداغوجية أو للعمال التقنيين، فضلا عن دعم القطاعات الاقتصادية التي تعتمد على اليد العاملة المؤهلة.
التّكويـن في خدمـة الصّناعـة والتقانـة
وبولاية سطيف التي تعد من أبرز الولايات الصناعية في البلاد، تمّ إدراج ثمانية تخصّصات جديدة تعكس هذا التوجه، بينها تحويل الحليب، صناعة البلاستيك، التعدين، وصناعة الورق، وواضح أن هذه الاختيارات ليست اعتباطية، وإنما تنسجم مع النسيج الصناعي المحلي الذي يحتاج إلى يد عاملة مؤهلة تدعم استمرارية الإنتاج وتطوره.
وقد تمّ فتح أزيد من 15 ألف منصب بيداغوجي عبر 54 مؤسسة تكوينية، بطاقة استيعاب تتجاوز 12 ألف مقعد، وهذا بالضبط ما يوضّح كيفية تكامل التكوين مع النشاط الصناعي، فيتحول إلى محرك للتشغيل وإلى رافد من روافد المقاولاتية، ما يسمح للشباب بإنشاء مشاريع ناشئة بدل الاكتفاء بالبحث عن مناصب شغل بالأسلوب التقليدي.
ولقد طبّقت ولاية النعامة المقاربة نفسها، حيث تمّ فتح حوالي 3 آلاف منصب تكويني ضمن 23 شعبة مهنية، مع تركيز خاص على مجالات الرقمنة والإعلام الآلي والاتصالات. كما أدرجت تخصّصات جديدة تراعي فئات خاصة، مثل صناعة التحف الرملية لفائدة ذوي الاحتياجات الخاصة، علما أنّ التخصصات كلها تجمع بين متطلبات السوق ومقتضيات الإدماج الاجتماعي، وتجعل من التكوين المهني رافعة مزدوجة: اقتصادية واجتماعية في آن واحد، ناهيك على أن الولاية تستعد لاستلام معهدين وطنيين متخصّصين، ممّا يعزّز من بنيتها التكوينية ويفتح آفاقا أوسع للطلبة والمتربصين.
وفي تيسمسيلت، تمّ إدراج تخصّصين جديدين في إنتاج المواد الدسمة وأجهزة الاتصال اللاسلكي، ضمن شبكة تضم أكثر من 10 شعب مهنية. ورغم بساطة التوسعة مقارنة بولايات أخرى، إلا أنها تكشف عن استراتيجية دقيقة: ربط التكوين بخصوصيات السوق المحلي، سواء في الصناعات الغذائية أو في قطاع الاتصالات، وتمّ توفير أكثر من 4 آلاف منصب تكويني، موزعة على أنماط متنوعة تشمل الحضوري والتمهين والتكوين عن بعد، وهو ما يعكس مرونة متزايدة في طرق التدريس، تسمح باستيعاب فئات مختلفة من الشباب والبطالين وحتى الأشخاص محدودي المستوى.
بدورها، توفّر ولاية أولاد جلال 2045 منصبا تكوينيا، منها 810 موجّهة خصيصا للمستفيدين من منحة البطالة، واستحدثت تخصّصات جديدة، مثل غرس الأشجار المثمرة، تربية النحل، السياحة، وإدارة شبكات المعلومات، ضمن مقاربة شمولية تجمع بين الفلاحة والصناعة والخدمات.
إلى جانب ذلك، نظّمت الولاية أبوابا مفتوحة للتوعية بأهمية التكوين، بما يجعل منه مدخلا حقيقيا لعالم الشغل، بدل أن يُنظر إليه كخيار ثانوي.
الرّقمنـــة والمقاولاتيـــة..أولويـــة
على المستوى الوطني، أكّدت وزيرة التكوين والتعليم المهنيين نسيمة أرحاب، خلال ندوة جمعت مديري القطاع بحر الأسبوع المنصرم، أن الرقمنة ستصبح معيارا أساسيا لقياس جودة التسيير وتحسين الخدمات، كما شدّدت على دور مراكز تطوير المقاولاتية في دعم إدماج الخريجين ومرافقتهم، وهو ما يفتح الباب أمام جيل جديد من المكوّنين القادرين على تحويل شهاداتهم إلى مشاريع استثمارية.
وتناولت الندوة التحضير للصالونات الجهوية للتشغيل المزمع تنظيمها الشهر الجاري، باعتبارها فضاءً للربط المباشر بين المتربصين وسوق العمل.
كل هذه المؤشّرات، من العاصمة إلى الطارف وخنشلة وسطيف والنعامة وتيسمسيلت وأولاد جلال، ترسم صورة قطاع تخلّص من أعباء “التكوين التقليدي”، وتمكّن – باقتدار – من التأسيس للإسهام في الجهد الوطني، فمن خلال تنويع التخصصات، تحديث البنى التحتية، تعزيز الرقمنة، وربط التكوين بسوق العمل، تضع الجزائر أسس منظومة أكثر مرونة وفعالية، قادرة على التكيف مع تحديات الاقتصاد الوطني والتحولات التكنولوجية العالمية، فالتكوين المهني لم يعد مجرد خيار بديل، وإنما صار خيارا استراتيجيا لبناء اقتصاد قوي ومجتمع متماسك، قاعدته الأساسية يد عاملة مؤهّلة وواعية بمتطلّبات العصر.


