اللسان العربي في عصر العولمة والتكنولوجيا.. رهانات البقاء والانبعاث
تعزيز المحتوى العربي على أنترنيت.. درء فجوة العصر الرقمي
توحيد المصطلحات وتفعيل سياسات لغوية واضحة.. ضرورة حيوية
عِزُّ لُغَةِ أَقْوَامٍ فِيْ عِزَّتِهِمْ، وقُوَّةُ لُغَةِ أَقْوَامٍ فِيْ قُوَّتِهِمْ، وَاِنْتِشَارُ لُغَةِ أَقْوَامٍ فِيْ قُوَّةِ اِقْتِصَادِهِمْ… وَإنَّ شَرَفَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ أَوْجَدَتْ لِنَفْسِهَا مُؤَسَّسَاتٍ رَسْمِيَّةً تَعْمَلُ جَاهِدَةً عَلَى تَطْوِيرِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَتَوْسِيعِ قَامُوسِ مُفْرَدَاتِهَا، وَحَوْسَبَتِهَا وَلِمَ لَا؟
أوَّلُ ظهورٍ لِلْهيئَةِ المُسمّاةِ بـ:(المجْمَعِ اللُّغويِّ) فيْ العصْرِ الحديثِ حسَبَ ما يُصرِّحُ بِه أهْلُ الاِخْتصاصِ، كانَ عامَ 1635م، حينَ اِسْتصْدرَ الأديبُ والسِّياسيُّ الفرنْسيُّ ريشليو أمْرًا ملَكيًّا بإنْشاءِ ما يُعْرَفُ بِـ ـ»الأكاديميَّةِ الفرنْسيَّةِ» الّتيْ أُسْنِدَتْ إليْها مَهمَّةُ إعْدادِ مُعْجمٍ شامِلٍ، وسَنِّ القواعِدِ الجامعةِ لِعلْمِ البلاغةِ، والعَروضِ، والنّحْوِ، والإمْلاءِ. وبعْدَ رُبْعِ قرْنٍ منَ الزّمنِ، أُنْشئَتْ بِإنْجلترا الجَمعيَّةُ العلْميَّةُ الملَكيَّةُ، لِتلِيَها الأكاديميّتانِ الألْمانيّةُ والرُّوسيّةُ اللّتانِ اِصْطبَغتا بِالطّابعِ العلْميِّ الدّقيقِ.. هذا، وقدْ تأثّرَ العالَمُ العربيُّ بِبُروزِ هذهِ الأكاديميّاتِ وبِوجْهٍ خاصٍّ: الأكاديميّةُ الفرنْسيّةُ؛ فأنْشأَ الأُدباءُ العربُ، والمفكِّرونَ، واللُّغويّونَ المجْمَعَ العلْميَّ المِصْرِيَّ الّذيْ رأى النُّورَ عامَ 1798م، أيّامَ الحملَةِ النَّابُلْيُونِيَّةِ على مِصْرَ، وقدْ بلَغَ أعْضاؤهُ ثمانيةً وأرْبعينَ (48) عُضْوًا، ونُشرَتْ أعْمالُه فيْ أرْبعِ (4) مجلاّتٍ؛ لِتظْهرَ بعْدَ هاتِه النّشْأَةِ العربيّةِ، مجامِعُ لُغويَّةٌ عربيَّةٌ أُخرى، وَمنْها:
مَجْمعُ اللّغةِ العربيّةِ بِمدينةِ دِمشْقَ الّذيْ أُنْشِىءَ عامَ 1919م.
المجْمعُ العلْمِيُّ العِراقِيُّ الّذيْ أنشئ عامَ 1947م.
مجْمَع اللُّغةِ العرَبيّةِ بالأُرْدُن الّذيْ أنشئ عامَ 1976م.
المجْمعُ الجزائريُّ لِلُّغةِ العربيّةِ الّذيْ أنشئ عامَ 1986م.
مجْمَعُ اللُّغةِ العربيّةِ السُّودانِيُّ الّذيْ أنشئ عامَ 1993م.
مجْمَعُ اللُّغةِ العربيّةِ اللِّيبيُّ الّذيْ أنشئ عامَ 1998م.
اِتِّحادُ المجامِعِ اللُّغويَّةِ بِالقاهرَةِ الّذيْ أنشئ عامَ 1956م، وهيَ مُؤسَّسَةٌ لِلتَّنسيقِ بيْنَ المجامعِ اللُّغويّةِ العربيّةِ.
وتسْعى كلُّ المجامعِ اللُّغويَّةِ العربيّةِ لِخدْمةِ لُغةِ الضّادِ فيْ ظلِّ الدَّورِ الوظيفيِّ الهادِفِ إلى رقْمنَةِ اللُّغةِ العربيّةِ، ومنْ هذا المنْظورِ، نُحاوِلُ فيْ فَضَاءِ هَذَا المَقَالِ أنْ نُبيِّنَ أهمَّ القضايا الشّائكةِ الّتيْ تَطْبَعُ وضْعَ اللُّغةِ العربيّةِ فيْ مُواجهةِ الرَّقْمنَةِ، وتحدِّيّاتِ المُسْتقْبَلِ التّكْنولوجيِّ.
إنّ لِلُّغةِ العربيّةِ نِظامًا خاصًّا فيْ طريقةِ التّأْليفِ، وخصائصَ تُميِّزُها على مُسْتوى اللَّفظِ والدّلالَةِ ما يجْعلُها تصْمُدُ بِقوَّةٍ أمامَ تحدِّيّاتِ العَوْلَمَةِ منْ جهَةٍ، كما يُؤهِّلُها لأِنْ تفْتَحَ أحْضانَها – مِنْ جهَةٍ أُخْرى – على الفضاءِ التّكْنولوجيِّ ومُسْتجدَّاتِهِ.. هذا الفضاءِ العلْميّ الّذيْ يتمكَّنُ بِليونَةٍ اِسْتيعابَ قواعدِها منْ غيْرِ المَساسِ بِأُصولِها؛ لأِنّ اللُّغةَ العربيّةَ طيِّعةٌ ومَرِنةٌ، وبإمْكانِ المجامِعِ اللُّغويّةِ العمَلُ بِكلِّ تفانٍ وإخْلاصٍ على اِنْتِشارِها بِسُرعةٍ فائقَةٍ فيْ فضاءاتِ الرَّقْمنَةِ. ولْيكُنْ إذنْ، مُنطلَقنا منَ الإشْكالِ التّاليْ حوْلَ القضيَّةِ محلَّ الدِّراسَةِ: ما طبيعةُ الدَّوْرِ الوظيفيِّ لِلْمجامعِ اللُّغويّةِ فيْ ظلِّ رقْمنَةِ اللُّغةِ العربيَّةِ (حَوْسبتِها)؟
ولَعلَّ ما يُتَرْجِمُ مُفْرَدَاتِ المَقالِ ويَحْدونا الأملُ العريضُ فيْ أنْ نَحْمِلَ بِوساطَتِهِ قيمَةً مُضافَةً، هوَ تلْكَ النِّقاطُ الّتي رَسَمْنا بِها مَعالِمَ ورَقَةِ الطّريقِ، والمُتمَثِّلَةُ فيْ:
* التّحدِّياتُ الّتيْ تُواجِهُ اللُّغةَ العربيَّةَ فيْ المجالِ الرَّقْميِّ.
* طبيعةُ المُحْتوى العربيِّ في الفضاءِ الرَّقْمِيِّ.
-خصائصُ اللُّغةِ العربيَّةِ، وصعوباتُ التَّرْجمَةِ والنَّقْلِ إليْها منَ اللُّغاتِ الأُخْرى.
– تحدِّياتُ التّرْجمَةِ بِاللُّغةِ العربيَّةِ والنّشْرِ بِها، والتَّأَكُّدِ منْ سلامتِها.
– الكشْفُ عنْ سُبُلِ تَنْمِيَةِ وُجودِ اللُّغةِ العربيَّةِ على الإنْتَرْنَتْ، وتَطْويرِ أَهمِّ المُبادراتِ في هذا الشَّأْنِ (جهودُ المجامِعِ اللُّغويَّةِ في تَطْويرِ اللُّغةِ العربيَّةِ ورَقْمنَتِها).
حدُّ المجْمَعِ لُغةً، هو: موْضِعُ الاِجْتِماعِ. أمّا حدُّهُ اِصْطِلاحًا، فهوَ: «مُؤسَّسةٌ لُغويّةٌ علْميّةٌ تقومُ بِخدْمةِ اللُّغةِ، وبِها جماعةٌ مِنَ العلماءِ فيْ مُختلِفِ الاِخْتِصَاصاتِ لِلنّظرِ فيْ ترْقيَةِ اللُّغةِ، والعلومِ والآدابِ، ومُختلِفِ الفُنونِ، ويُركِّزونَ اِهْتِمامَهُمْ وبُحُوثَهُمْ فيْ الجانِبِ اللُّغوِيِّ والعلْميِّ، وما يجبُ أنْ تكونَ عليْهِ اللُّغةُ بِناءً على التُّراثِ العربيِّ والعالَميِّ، وتزْويدها بِالمُصْطلحاتِ العلْميَّةِ الحديثَةِ لِقضايا العصْرِ».
ويُطلَقُ على مجْمَعِ اللُّغةِ العربيّةِ مُصْطلَحُ: المجْمعُ اللُّغويُّ أوِ المجْلِسُ العلْميُّ ذو الصِّبْغةِ العالَميَّةِ أوِ الهيْأَةُ (الهيْئَةُ) الاِسْتِشاريَّةُ لِخدْمةِ اللِّسانِ العربيِّ، وتَنُصُّ المادَّةُ الثّانيَةُ منْ مجْموعِ الموادِّ الّتي تُسيِّرُ لِجانَ هذا المجْلِسِ العلْمِيِّ، على أنَّ الأهدافَ المُسطَّرَةَ منْ إنْشاءِ هذِه الهيْئَةِ، هيَ:
بذْلُ الجهودِ منْ أجْلِ إغْناءِ اللُّغةِ العربيّةِ، وجعْلِها تُواكِبُ مُتطلَّباتِ العصْرِ، أيْ: الحِفاظُ على سلامةِ اللُّغةِ العربيّةِ، وجعْلُها في تقدُّمِها وتطَوُّرِها ملائمةً لحاجاتِ الحياةِ في العصْرِ الحاضِرِ، ومُسايرَةً لِركْبِ الحضارَةِ والتَّقدُّمِ التِّكْنولوجيِّ.
وتتحقَّقُ هذِه السّلامةُ لِلُّغةِ في ظِلِّ ما يُحدَّدُ في المعاجِمِ والمجلاّتِ الصّادرَةِ عنْ هذِهالهيأة، وما ينْبغي اِسْتعْمالُهُ مِنَ الألْفاظِ والتّراكيبِ أوْ تجنُّبُهُ، فضْلاً عنْ تكْثيفِ اِسْتعْمالِ اللُّغةِ العربيّةِ في الميادينِ المُسْتحْدَثَةِ، وإعْطاءِ الألْفاظِ العربيّةِ المُهْملَةِ مكانَها في المُعْجَمِ اللُّغوِيِّ مثْلَما جاءَ على لِسانِ عليٍّ عبْدِ الواحِدِ وافي في كتابِهِ (فِقْهُ اللُّغةِ): «لا يُعْوِزُ اللُّغةَ العربيّةَ في العصْرِ الحديثِ إلاّ أنْ نُخَصِّصَ ألْفاظًا مِنْ مُفْرداتِها لِلدّلالَةِ على مُسْتحْدَثاتِ العلومِ والفُنونِ، ولَنْ يُرْهِقَنا هذا منْ أمْرِنا عُسْرًا؛ لأِنَّ في بُطونِ مُعْجَماتِ هذِه اللُّغةِ مِئاتُ الأُلوفِ مِنَ الكلماتِ المَهْجورَةِ والمُسْتعْملَةِ مِمّا يَصْلُحُ أنْ يوضَعَ لِهذِه المُسمَّياتِ الحديثَةِ، ولنا بِهذا الصّدَدِ أُسْوَةٌ (إسْوَةٌ) حسَنةٌ فيما فعَلَه العربُ أنْفُسُهُم في صدْرِ الإسْلامِ والعصْرِ العبّاسِيِّ، وهذِه هيَ إحْدى الغاياتِ الجليلَةِ الّتي يَعْمَلُ على تحْقيقِها مَجْمَعُ اللُّغةِ العربيّةِ». حمايَةُ اللُّغةِ العربيّةِ والتّصدِّيْ لِما تتعرَّضُ لهُ مِنْ تحْريفٍ وتشْويهٍ.
تَيْسيرُ اللُّغةِ العربيّةِ وتقْريبُها مِنْ دارسِها والباحثِ بِها نحْوًا وصرْفًا وكِتابَةً، تمْهيدًا لإنْتِشارِها والإقْبالِ عليْها، وضمانًا لِتقْويمِ اللِّسانِ والفهْمِ لدى النّاشئَةِ، وكلِّ مَنْ يتعاملونَ بِها.
إعْدادُ مُعْجَمٍ تاريخِيٍّ لِلُّغةِ العربيّةِ مِنْ قِبَلِ العُلماءِ المُنْتمينَ إلى المَجْمَعِ بِصِفتِهِمْ أعْضاءً بارزينَ مَعْروفينَ بِاطِّلاعِهِمِ الواسِعِ، وتَمَكُّنِهِمْ منْ ناصيَةِ اللُّغةِ العربيَّةِ.
نَشْرُ بُحُوثٍ دقيقَةٍ تَعْكِسُ تاريخَ بعْضِ الكلماتِ، وتَغَيُّرَ مَدْلولاتِها.
القِيامُ بِدراسَةٍ علْميَّةٍ وافيَةٍ ودقيقَةٍ وموْضوعيَّةٍ لِلَّهجاتِ العربيَّةِ الحديثَةِ في البلادِ العربيَّةِ. المهامِ السّاميَةِ الّتي تَضْطلِعُ بِها المجامِعُ اللُّغويَّةُ، يُمْكنُ حَصْرُها على النّحْوِ التَّالِيْ:
– بَحْثُ قضايا اللُّغةِ بِغرَضِ تَطْويرِها، وجعْلِها لُغةً تُواكِبُ العصْرَ الحديثَ.
– إبْرازُ مكانةِ اللُّغةِ العربيّةِ، وأسْرارِها فيْ ظلِّ القُرْآنِ الكريمِ.
– التّرْجمةُ والتّعريبُ بِوصْفِهما رافِديْنِ منْ روافِدِ اللُّغةِ العربيّةِ فيْ زيادةِ ثرْوتِها اللُّغويّةِ، وتنْميَةِ طاقاتِها التّعْبيريّةِ.
– إعْدادُ المعاجِمِ اللُّغويَّةِ (المعاجِم المُتخَصِّصَة).
– وضْعُ المُصْطلَحاتِ العلْميَّةِ واللُّغويَّةِ.
– إحْياءُ التُّراثِ العربيِّ.
– القيامُ بِالتّحْقيقِ فيْ التُّراثِ العربِيِّ بِغرَضِ إحْيائهِ، وبيانِ نِقاطِ الظِّلِّ فيهِ، والإشادَةِ بِمكانَتِه وبِجهودِ مَنْ أنْجزوهُ مِنْ عُلماءِ اللُّغةِ والفُقهاء والأُدباءِ والشُّعراءِ.
– تَنْظيمُ أنْشِطَةٍ ثقافيَّةٍ ذاتِ الصِّلَةِ المتينَةِ بِاللُّغةِ العربيَّةِ ولَهجاتِها.
– تعْليمُ اللُّغةِ العربيّةِ لِلنّاطقينَ بِغيْرِها.
وإذا رَأَيْنا تَرْكيبَةَ هذِه المجامِعِ اللُّغويَّةِ الّتي هيَ: مَجْمَعُ اللُّغةِ العربيَّةِ بِالقاهرَةِ وبِدِمَشْقَ وبَغْدادَ، وبِالجزائر.. وغيْرِها، وَجدْناها تَرْتكِزُ في عَمَلِها على لِجانٍ كثيرَةٍ أيْنَ تَحْمِلُ كُلُّ لَجْنَةٍ على عاتِقِها دَوْرًا مُمَيَّزًا في رِحابِ اِخْتِصاصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ ميادينِ المَعرِفَةِ المُتبايِنَةِ، كَأَنْ نَذْكُرَ مثَلاً:
@ لَجْنَةَ المُعْجَمِ الوسيطِ.
@ لَجْنَةَ الأدبِ.
@ لَجْنةَ اللَّهجاتِ والبُحُوثِ اللُّغويَّةِ.
@ لَجْنةَ أُصولِ اللُّغةِ، وغيْرَها مِنَ اللِّجانِ..
وإنَّ الحديثَ عنْ هذِه اللِّجانِ، يَقودُنا بِالضَّرورَةِ إلى الوُقوفِ وِقْفَةَ المُتأمِّلِ الفاحِصِ فيْ لَجْنةِ: المُعالَجةِ الإلِكْترونيَّةِ، والّتي هيَ واحدَةٌ منْ لِجانِ المَجْمَعِ اللَّغويِّ الّتي تجاوزَتْ حُدودَ العِشْرينَ لَجْنَةً.
فالحديثُ عنِ المُعالَجَةِ الإلِكْترونيَّةِ لِلُّغةِ العربيّةِ، هوَ حديثٌ عنْ إثْراءِ مُحْتواها على الشّابِكةِ العنْكبوتيَّةِ «الإنْتَرْنَتْ»، وهو الحديثُ كذلِك عنْ عمليَّةِ تَرْجمَةِ المُصْطلَحاتِ الجديدَةِ واليَوميَّةِ إلى اللُّغةِ العربيّةِ بِحُكْمِ ضَرورَةِ تَجْسيدِ الهُوِيَّةِ وتأْصيلِها، والاِعْتِزازِ بِالاِنْتِماءِ العرَبِيِّ، وهوَ -لَعَمْرُنا- مَسْعًى نبيلٌ، إلاَّ أنَّ الواقِعَ المعيشَ، يُخْبِرُنا عنْ قِلَّةِ الدِّراساتِ المُنْجزَةِ بِشَأْنِ قَضِيَّةِ الرَّقْمنَةِ، هذا العَجْزُ في الدِّراساتِ تُقابِلُه العزيمةُ الفولاذيَّةُ لِلْمجامِعِ اللُّغويَّةِ وتحدِّياتُها في تجاوُزِهِ لِلاِجْتِهادِ في مجالِ التّرْجمَةِ بِاللُّغةِ العربيّةِ الفُصْحى، والنّشْرِ بِها، والتَّأَكُدِّ مِنْ سلامتِها.
لمْ تقُمِ المجامِعُ اللُّغويّةُ ولمْ تُنْشَأْ إلَّا لِتحْقيقِ غرَضٍ أسْمى يليقُ بِمكانةِ اللُّغةِ العربيّةِ الّتيْ خصّها القُرآنُ الكريمُ بِالذِّكْرِ، ألا وهو: البحْثُ عنِ المُشكلاتِ والمُعَوِّقَاتِ الّتيْ تجْعلُ اللُّغةَ العربيّةَ عقيمَةً وبعيدَةً بُعْدَ السّماءِ عنِ الأرْضِ عنِ الرَّقْمنَةِ، وما يُؤكِّدُ هذا الواقِعَ المريرَ، هو تلْك الدِّراساتُ الكثيرَةُ الّتيْ شهِدتِ البُعْدَ اللُّغوِيَّ فيْ عصْرِنا الحاليْ؛ فكثيرٌ منْ هذِه الدِّراساتِ تسْتنِدُ فيْ تأْكيدِ هذِه الحقيقَةِ عنْ واقِعِ اللُّغةِ العربيّةِ بِتلْكَ المنْشوراتِ الّتيْ تمْلأُ جُدْرانَ مواقِعِ التّواصُلِ الاِجْتماعيِّ بِكلِّ أنْواعِها والّتيْ تُنْشَرُ وتُوثَّقُ بِلغاتٍ أجْنبيَّةٍ، فجاءَتْ عبارةً عنْ رُموزٍ أجْنبيَّةٍ وُظِّفتْ بِلُغةٍ عربيَّةٍ بِغرَضِ النُّطْقِ وحسْبُ، وليْسَ بِغرَضِ الاِسْتعْمالِ، وعليْهِ، فدَورُ المجامِعِ اللُّغويَّةِ، هو ضبْطُ اللُّغةِ وِفْقَ الاِسْتعْمالِ بِغرَضِ التّطوُّرِ والرُّقِيِّ، ووضْعُ مُصْطلحاتٍ جديدةٍ تعْمَلُ المجامِعُ اللُّغويَّةُ على إخْضاعِها بِما يَتوافَقُ والمقاييسَ الّتيْ تضْبِطُ اللُّغةَ العربيَّةَ معَ توافُرِ شَرْطيْ: الفصاحةِ والسّلامةِ.
يَنحَصِرُ الدّوْرُ الوظيفيُّ لِلْمجامِعِ اللُّغويّةِ فيْ تحْسينِ صورَةِ اللُّغةِ العربيّةِ وواقِعها فيْ المجالِ الرَّقْميِّ، وذلِك بدْءًا بِإحْصاءِ المنْشوراتِ المكْتوبَةِ بِاللُّغةِ العربيّةِ، أيْ: النّظرُ بِعُمقٍ فيْ المُحْتوى العربيِّ على الشّابكَةِ العَنكبوتيَّةِ، والبحْثُ فيْ أسْبابِ قِلّةِ اِنْتِشارِ اللُّغةِ العربيّةِ فيْ فضاءِ الرَّقْمنَةِ إذا ما قورِنتْ بِلُغاتٍ أُخْرى ذاتِ الاِنْتِشارِ الواسِعِ. ومِنْ هُنا يَبْرُزُ الدّوْرُ الرِّيادِيُّ لِلْمجامِعِ اللُّغويّةِ فيْ حصْرِ سُبُلِ تنْميَةِ المُحْتوى العربيِّ، وتشْجيعِ المُبادراتِ الّتيْ تَصُبُّ فيْ هذا الاِتِّجاهِ حتّى يتسَنّى لِلُّغةِ العربيّةِ أنْ تجِدَ لها موْقِعا مُشَرِّفًا فيْ عصْرِ التِّقَانَةِ والتّطوُّرِ العلْميِّ والتّكْنولوجِيِّ، وتتَمكَّنَ مِنَ الاِنْفِتاحِ فيْ ظلِّ آفاقٍ رحبَةٍ على ثقافاتِ الأُممِ الأُخْرى عنْ طريقِ التّرْجمةِ والتّرْجمةِ الآليَّةِ لِلُّغةِ العربيّةِ، والتّعْريبِ، وتطْويرِ البَرْمجيّاتِ، وإعْدادِ المعاجِمِ المُتخَصِّصَةِ، والتّأْليفِ فيْ قواعِد اللُّغةِ بغرَضِ تسْهيلِ اِكْتِسابِها، والاِجْتِهادِ فيْ إخْضاعِها لِلتّحْليلِ الحاسوبيِّ؛ لأِنّ اللُّغةَ العربيّةَ مِنْ هذا المُنطلَقِ، هيَ مِحوَرُ المنْظومةِ الفِكريَّةِ والثّقافيَّةِ، ويَتعاظمُ دوْرُها وشأْنُها فيْ عصْرِ التِّقنيّاتِ الحديثَةِ لا سيّما «الإنْتَرْنَتْ»، ولِهذا وجَبَ على المجامِعِ اللُّغويّةِ أنْ توليها العِنايَةَ الفائقَةَ لِتطْويرِها، وجعْلِها تحْتلُّ موطئَ قَدمٍ فيْ العالَمِ المُعاصِرِ الّذيْ باتَتِ العوْلَمةُ تتحكَّمُ فيهِ، وذلِك بِغرَضِ بِناءِ حضارَةِ الإسْلامِ المُرْتقَبَةِ الّتيْ تُتَرْجِمُ العصْرَ الذَّهبِيَّ الّذيْ عاشتْهُ فيْ القُرونِ الخواليْ، وأيْنَ يَجِدُ القارئ العربيُّ ضالَّتَهُ منْ هُويَّةٍ واِنْتِماءٍ.
لقدْ قَلبَتْ وسائلُ الاِتِّصالِ الحديثَةُ والمواقِعُ الإلِكْترونيَّةُ الّذيْ أنْجبَها التّطوُّرُ التّكْنولوجيُّ فيْ عصْرِ الرَّقْمنَةِ موازينَ اِسْتخْدامِ اللُّغةِ العربيّةِ، وَبِالخُصُوصِ لَمَّا شاعَ اِسْتعْمالُ مِنصّاتِ التّواصُلِ الاِجْتِماعيِّ، وتبادُلُ المُحادثاتِ فيْ «اليوتوب» و»التّويتَر» و»الأنسْتغْرام».. وعزوفُ الكثيرِ مِنَ الشّبابِ العربيِّ عنِ اِسْتِخدامِ اللُّغةِ العربيّةِ فيْ هذهِ المِنصّاتِ.. والوضْعَ هذا، باتَتِ اللُّغةُ العربيّةُ فيْ خطَرٍ حقيقِيٍّ مُحْدِقٍ بِها إنْ لمْ تُسْرِعِ الجهاتُ الوصيَّةُ وعلى رأْسِها المجامِعُ اللُّغويّةُ العربيّةُ إلى اِحْتواءِ الأزْمةِ ومُعايَنةِ أسْبابِها، واِقْتِراحِ الحُلولِ لها.
لا وُجودَ لأِزْمةٍ تعيشُها اللُّغةُ العربيّةُ، وإنّما الخطرُ الّذيْ يَتهدَّدُها يَكْمُنُ أساسًا فيْ مُسْتعْمليها الّذينَ لا يُجيدونَ اللُّغةَ العربيّةَ الفُصْحى، ويُسيئونَ اِسْتعْمالَها الاِسْتعْمالَ الصّحيحَ وِفْقَ القواعِدِ الّتيْ تضْبِطُها.
إنّ شعوبَ المعْمورَةِ، وفيْ ظلِّ ما تولَّدَ عنِ التّطوُّرِ التّكْنولوجيِّ، تسْعى جاهِدةً لِتَحْجِزَ لها ولِلُغَتِها مكانًا ضِمْنَ منْظومةِ العالَمِ الرَّقْمِيِّ عنْ طريقِ مَدِّ جُسورِ التّواصُلِ بيْنَ أفْرادِ المُجْتمَعِ العالَميِّ بِوساطةِ الشّابِكةِ العَنْكبوتيَّةِ وما تُتيحُهُ مِنْ شبكاتِ التّواصُلِ الإلِكْترونِيِّ المُخْتلِفَةِ.
ولِحصْرِ الجهودِ المبْذولَةِ منْ قِبلِ المجامِعِ اللُّغويّةِ فيْ سبيلِ ترْقيَةِ اللُّغةِ العربيّةِ، والعملِ على اِنْتِشارِها على نطاقٍ واسعٍ، نُحاوِلُ فيْ محطّةٍ وجيزَةٍ بيانَ جهودِ المَجْمَعَ الجَزَائِرِيَّ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ.
لقدْ بذَلَ المجْمعُ الجزائريُّ جُهْدًا كبيرًا لِترْقيَةِ اللُّغةِ العربيّةِ، ونشْرِها على نِطاقٍ واسِعٍ لِتَمَسَّ كلَّ مجالاتِ الحياةِ، وذلِك منْذُ تاريخِ نشْأَتِه بِموجبِ القانونِ رقْم 86/10 المؤرّخ فيْ 19/غشت/1986م(17). ومِنْ أهمِّ الأعْمالِ الّتيْ يُنْجِزُها لهذا الغرَضِ، نذْكرُ:
– إحْياءَ اِسْتعْمالِ المُصْطلحاتِ الموْجودةِ فيْ التّراثِ العربيِّ والإسْلاميِّ.
– اِسْتخْدامَ المُصْطلحاتِ الجديدةِ الّتيْ أقَرّها اِتِّحادُ المجامِعِ العربيّةِ.
– نحْتَ مُصْطلحاتٍ جديدةٍ بِاِسْتخْدامِ القِياسِ أوِ الاِشْتِقاقِ.
– ترْجمةَ أوْ تعْريبَ المُصْطلحاتِ الشّائعةِ فيْ العالَمِ المُعاصِرِ، ونشْرَها فيْ أجهِزةِ الدّولَةِ، مثْل: المُؤسّساتِ التّرْبويّةِ والتّكْوينيّةِ والإداراتِ.
– وضْعَ قاموسٍ حديثٍ يَضُمُ كلَّ المُصْطلحاتِ العلْميّةِ والتِّقنيّةِ المُتداوَلَةِ فيْ مُخْتلِفِ المجالاتِ.
– ربْطَ صِلاتِ التّعاوُنِ والتّنسيقِ معَ المجامِعِ والهيْئاتِ اللُّغويّةِ فيْ البُلدانِ العربيّةِ، وفيْ العالَمِ الإسْلاميِّ، وفيْ البُلْدانِ الأُخْرى.
– نشْرَ الدِّراساتِ والبُحوثِ المُتعلِّقةِ بِاللُّغةِ العربيّةِ وآدابِها وفُنونِها وتُراثِها.
– تشْجيعَ التّأْليفِ والتّرْجمةِ، والنّشْرِ بِاللُّغةِ العربيّةِ فيْ مُختلِفِ الميادينِ.
– إصْدارَ مجلّةٍ دَوْرِيّةٍ تُعْنى بِنشْرِ كلِّ الإنْتاجِ لِلْمجْمعِ مِنْ: مُصْطلحاتٍ وبُحوثٍ ودراساتٍ.
– عقْدَ المُؤْتمراتِ والنّدواتِ العلْميّةِ، والمُشارَكةَ فيْ اللِّقاءاتِ والنّدواتِ الدّوليّةِ.
– قِيامَ أعْضاءِ المجْمعِ بِبُحوثٍ مُتنوِّعةٍ فيْ العلومِ العربيّةِ، وبِالخُصوصِ فيْ علْمِ المعانيْ والمُصْطلحاتِ وعلومِ اللِّسانِ.
– إصْدارَ مجلّةٍ لُغويّةٍ تعْملُ على التّعريفِ بِكلِّ الأعْمالِ الصّادرَةِ عنِ الهيئةِ العُلْيا لِمشْروعِ الذَّخيرَةِ العربيّةِ، وجعْلِ التُّراثِ العربيِّ الإسْلاميِّ فيْ مُتناوَلِ الباحثينَ والمُثقَّفينَ بِاِسْتخْدامِ «الإنْترْنت».
– اِسْتِخدامَ الحواسيبِ، والمخابِرِ الصّوْتيّةِ لِلْقيامِ بِالتّحْليلاتِ العلْميّةِ فيْ إطارِ تكْنولوجيا اللُّغةِ وهنْدسَتِها.
واجهتِ المجامِعُ اللُّغويّةُ عنْدَ مُحاولَةِ رقْمنَةِ اللُّغةِ العربيّةِ مُعَوِّقَاتٍ كثيرَةً جعلتِ المجْهوداتِ المبْذولَةَ فيْ سبيلِ تحْقيقِ هذا المسْعَى النّبيلِ ضعيفةَ المَرْدودِ، ولا تكادُ ترْقى إلى طُموحِ الشُّعوبٍ العربيّةِ بِالنّظرِ إلى ما حقَّقَتْهُ اللُّغاتُ الأجْنبيّةُ منْ حُضورٍ دائمٍ، واِنْتِشارٍ واسعٍ على الشّابكَةِ العَنكَبوتيّةِ وما تُتيحُهُ مِنْ أنْواعٍ شتّى منْ مِنَصّاتِ التّواصُلِ الاِجْتماعِيِّ. ومِنْ أهمِّ العراقيلِ الّتيْ واجهَتْها المجامِعُ اللُّغويّةُ، نذْكُرُ:
– اِنْتِشارَ الأُمِّيَّةِ فيْ الوطنِ العرَبيِّ، فهيَ تقارِبُ الثّلاثينَ بِالمائة (30%)، فضْلاً عنِ اِنْتشارِ الأُمِّيّةِ المعْلوماتيّةِ.
– ضَعفَ وتيرَةِ التّأْليفِ، وبِالخُصوصِ حرَكة النّشْرِ وقلَّة شبكاتِ التّوزيعِ.
– الغيابَ شِبْهَ الكلِّيِّ لِدَورِ الجامعاتِ ومراكزِ البحْثِ فيْ رقْمنَةِ المَخْطوطاتِ.
– هشاشَةَ البِنيَةِ التّحْتيّةِ لِشبكاتِ «الإنْترْنتْ»، وضعْفَ المُسْتوياتِ الاِقْتصاديَّةِ لِعامّةِ الشُّعوبِ فيْ الأوْطانِ العربيّةِ والإسْلاميّةِ، الأمْر الّذيْ يحولُ دونَ حُضورِها فيْ العالَمِ الرّقْميِّ، والاِسْتِفادةِ مِمّا تُولِّدُهُ هذِه التِّكْنولوجيّا الحديثَةُ فيْ مجالِ المعْلوماتيّةِ.
– شُيوعَ الأخْطاءِ، فَمُعظَمُ مُحرِّكاتِ البحْثِ تَعْتمِدُ أساسًا على خَوارزْميّاتٍ ثابتَةٍ تتعلَّقُ بِشيُوعِ الاِسْتعْمالِ بغَضِّ النّظرِ عنِ السّلامةِ اللُّغويّةِ. فقضيَّةُ التّدْقيقِ اللُّغوِيِّ إذنْ، تُطْرَحُ بِحدَّةٍ وبِشكْلٍ كبيرٍ، فَكلّما كانَ اللَّفْظُ مُسْتعمَلاً أكْثَر، تعاملَتْ معَه مُحرِّكاتُ البحْثِ على أنّهُ هوَ الصّحيحُ.
– اِنْتِشارَ ما يُعرَفُ بـ:»Franco-arabe» أوْ ما يُسمِّيهِ المشارِقَةُ «العَربيزيْ»، وهو كتابةُ اللُّغةِ العربيّةِ بِالحُروفِ الأجْنبيّةِ.
– غيابَ المَوْسوعاتِ العربيّةِ المَوْثوقَةِ والمصادِرِ المَفْتوحةِ، أيْ ما يُعْرَفُ بـ:»Online Courses Massive Open»، وهيَ عبارَةٌ إنْجليزِيّةٌ تُخْتصَرُ فيْ: «MOOCs»، وتَعْنيْ: مجْموعةَ المواقِعِ المُتخصِّصَةِ فيْ كلِّ فرْعٍ مِنَ العلومِ المُرْتكزَةِ أساسًا على بَثِّ المَعْلومةِ المُوثَّقَةِ. إنّ مجْموعَ هذِه العراقيلِ أثّرتْ بِشكْلٍ أوْ آخرَ فيْ حجْمِ المُحتوى العربيِّ الرّقْمِيِّ المُنْتَشِرِ فيْ الشّابِكةِ العَنكَبوتيّةِ ومُخْتلِفِ الوسائطِ الإلِكْترونيّةِ، هذا الحجْم الّذيْ لا يَرْقى ومكانةَ اللُّغةِ العربيّةِ وإشْعاعَها الثّقافِيَّ العظيمَ بِصِفَتِهَا لُغةَ العلومِ والمعارِفِ، وقدْ كانَ هذا شأْنها فيْ الزّمنِ الغابِرِ؛ إذْ قدَّرتْهُ أكْبرُ مُحرِّكاتِ البحْثِ العالَميّةِ ولْيكُنْ «غوغل» مثلاً أوْ «ياهو» بِأَكْثرَ قليلاً مِنْ واحِدٍ بِالمائةِ (1%) مِنْ مُجْمَلِ المُحْتوى الرّقْميِّ العالَمِيِّ.
إنّ لِلْمجامِعِ اللُّغويّةِ الدّوْرَ البارِزَ فيْ خِدمةِ اللُّغةِ العربيّةِ ورقْمنَتِها؛ وعليْهِ، فهيَ فيْ حاجةٍ ماسّةٍ إلى تكْوينِ أعْضاءِ لِجانِها وبِالخُصوصِ لَجْنَةِ المُعالجَةِ الإلِكْترونيّةِ ولَجْنةِ صِناعةِ المعاجِمِ، وتدْريبِهِمْ وِفْقَ بُحوثٍ علْميّةٍ مَدْروسَةٍ بِشكْلٍ جيِّدٍ ومُمَنْهَجٍ فيْ كيْفيّةِ تَصْميمِ المعاجِمِ وصِناعتِها لِتوْليدِ المُصْطلحاتِ وتوْحيدِها، فضْلاً عنْ حوْسبَةِ اللُّغةِ العربيّةِ. فَتنْميةُ المُحْتوى العربيِّ الرّقْمِيِّ يتَطلّبُ أدواتٍ مَعْلوماتيّةً ضرورِيّةً وأساسيَّةً لِحوْسبَةِ اللُّغةِ العربيّةِ، وتحْليلِها بِشكْلٍ عمَلِيٍّ دقيقٍ، وإنّ على رأْسِ هذِه الأدواتِ لأِهَمِّيّتِها: مُحرِّكاتِ البحْثِ والمعاجِمَ.
وإذا نظرْنا إلى اللُّغةِ العربيّةِ فيْ إطارِ المعاجِمِ الموْضوعةِ لها، فإنّ نظْرتَنا حتْمًا سَتُواجَهُ بِمُشْكلٍ مُعْجمِيٍّ كبيرٍ بِالرُّغْمِ مِنْ كلِّ المجْهوداتِ المَبْذولَةِ على يَدِ المجامِعِ اللُّغويّةِ المُنْتشِرَةِ هنا وهُناكَ فيْ بعْضِ الأقطارِ العربيّةِ، ويتَمثَّلُ المُشْكِلُ المُعْجمِيُّ أنَّ أغلب معاجم اللُّغةِ العربيّةِ هيَ مُعْجماتٌ تاريخيّةٌ اِرْتبَطَ وُجودُها بِتاريخٍ مُعيّنٍ أوْ حِقْبَةٍ مِنَ الزّمنِ مُعيَّنةٍ، وغالِبًا ما تَنْتهيْ عنْدَ عصْرِ الاِسْتشْهادِ؛ لأِنّ واضِعِيّ هذِه المُعْجماتِ اِنْطلَقوا منْ فِكرَةِ أوْ خلْفيّةِ الحِفاظِ على لُغةِ القُرْآنِ الكريمِ، هذِه الخَلْفيّةِ النّبيلَةِ الّتيْ تَشبَّعوا بِها وآمَنوا بِسُمُوِّ هدَفِها.. ولكنْ، معَ ذلِك أثَّرتْ هذِه الخَلفيّةُ فيْ اللُّغةِ العربيّةِ كثيرًا، فقدْ قَصَرتِ اللُّغةَ على تلِك العُصورِ، فماتَتِ اللُّغةُ بِموْتِ تلْك العُصورِ، معَ أنّ الإنْسانَ فيْ حاجةٍ أكيدةٍ إلى كلماتٍ وتعابيرَ جديدةٍ لِلتّعْبيرِ عنْ مُسْتجدّاتِ العصْرِ وما أنْتجتْهُ التِّكْنولوجيّا الحديثَةُ مِنْ مُخْترَعاتٍ جديدةٍ تَحْمِلُ مُصْطلحاتٍ جديدةً. فالمعاجِمُ العربيّةُ ضخْمةٌ جِدًّا، لكنّها اليوْمَ لمْ تُجْدِ الإنْسانَ العربِيَّ نفْعًا فيْ دراستِهِ لِلْعلومِ الحديثَةِ ولا حتّى فيْ مُتابعَةِ الإعْلامِ أوْ حتّى فيْ مُتابعَةِ اللُّغةِ المُوازِيةِ المُتحدَّثَةِ فيْ الشّارِعِ وفيْ مِنصّاتِ التّواصُلِ الاِجْتِماعِيِّ، وهذا لأِنّنا لمْ نُسايِرِ الرّكْبَ الحضارِيَّ والتّطوُّراتِ وما يُصاحِبُها مِنْ مُصْطلحاتٍ وتعابيرَ جديدةٍ، فالفَجوَةُ إذنْ، كبيرَةٌ وعميقَةٌ بيْننا وبيْنَ العالَمِ المُتقَدِّمِ فيْ العلومِ الحديثَةِ. ولمّا كانتِ المعاجِمُ مُسْتَوْدَعَ اللُّغةِ وديوانَ حياتِها، وجَبَ أنْ تسْتجيبَ لِعصْرِ الرّقْمنَةِ بِمُواكبَةِ الجديدِ وتفصيحِهِ لِيكونَ فيْ مُتناوَلِ الشُّعوبِ العربيّةِ لِهذا العصْرِ. وأوّلُ عمَلٍ قامتْ بِهِ المجامِعُ اللُّغويّةُ فيْ ظلِّ تِقنيّاتِ الحداثَةِ الإلِكْترونيّةِ، هو إعادَةُ ترْتيبِ المُعْجمِ العربيِّ بحسَبَ مُعْطياتِ الحاسوبِ، فأَوَّلُ ما تَصدَّى لهُ اللُّغويُّونَ والمُشْتغِلونَ بِحَوْسبَةِ اللُّغةِ لِتكونَ العربيّةُ حيّةً ومُتصالحَةً معَ كلِّ جديدٍ، أنْ يَسَّروا أمْرَ الوُصولِ إلى مُفْرداتِ اللُّغةِ لِضمانِ حرَكيّةِ اللُّغةِ وبقائها.
ومِنْ أعْمالِ المجامِعِ اللُّغويّةِ، هوَ إحْياءُ فِكرَةِ المُعْجَمِ التّاريخِيِّ لِلُّغةِ العربيّةِ الّذيْ يُعَدُّ أكْبرَ بوّابَةٍ إلِكْترونيَّةٍ تُؤرِّخُ لِلْعربيّةِ، وأهمَّ مُدوَّنَةٍ حاسوبيّةٍ رقْميّةٍ تُساعِدُ على إيجادِ كلمةٍ أوْ لفْظةٍ بِسُرعةٍ فائقَةٍ وبِسُهولَةٍ، وتُمكِّنُ مُسْتعْمِلَها منْ تَتَبُّعِ اللَّفْظِ العربيِّ فيْ أوّلِ اِسْتعْمالٍ لهُ وسِياقِ وُرودِه، والدّلالَةِ الّتيْ كانَ يَحْمِلُها، والتّغيُّراتِ الّتيْ طَرأَتْ عليْهِ مِنْ ناحيَةِ الشّكْلِ والصّوْتِ والتّهْجيّةِ، والبِنيَةِ الصّرْفيّةِ، وتَحوُّلِ دلالَتِه مِنْ معْنًى إلى آخرَ.
ومِنْ أعْمالِ المجامِعِ اللُّغويّةِ الأُخرى، هو إعْدادُ المُعْجمِ التّداوُلِيِّ، أيْ ذلِك المُعْجمُ الّذيْ يسْتقْرئُ ويَلْحَظُ مدى اِنْتِشارِ الكلماتِ واِسْتعْمالِها فيْ الوقْتِ الرّاهِنِ أوِ الأزْمِنةِ الماضيَةِ، ولِهذا نرى فيْ كتُبِ النّحْوِ التّعْليميّةِ كلمةَ (طَفِقَ) مثلاً، يكادُ يَخْلو نَصٌّ كامِلٌ أوْ مُؤلَّفٌ كامِلٌ مِنِ اِسْتخْدامِها. وعليْهِ، فالنّقائصُ كثيرَةٌ فيْ معاجِمِنا وتَحْتاجُ إلى إعادةِ النّظرِ فيْ صِناعتِها وفيْ الإبْداعِ عنْدَ صِناعتِها؛ لأِنّ الكثيرَ مِنْ هذِه النّقائصِ والصُّعوباتِ يُمْكِنُ تَذْليلُها فيْ عالَمِ الرّقْمنَةِ والحوْسبَةِ، هذا العالَمِ الحديثِ الّذيْ اِخْتصَرَ الأزْمنَةَ والجهودَ.
إنّ أوّلَ تحَدٍّ تُواجِهُه اللُّغةُ العربيّةُ على الشّابكَةِ العالَميّةِ، هو التّحَدِّيْ المُتعلِّقُ بِنشْرِ اللُّغةِ العربيّةِ والنِّتاجِ اللُّغوِيِّ فيْ عصْرٍ باتَتْ فيهِ عمليّةُ السِّباقِ الثّقافِيِّ والمَعْرِفِيِّ أمْرًا ذا بالٍ ومُثيرًا على مدارِ السّاعةِ الواحدَةِ؛ لأِنّ ذلِكَ «سيُحقِّقُ لِثقافتِنا ولُغتِنا نقْلَةً نوْعيّةً هائلَةً، مِنْ حيْثُ وضْعُهُما فيْ موْقِعِ الثّقافاتِ العالَميّةِ السّائدةِ الآنَ، ويَفْتَحُ أمامَهُما فُرَصَ التَّلاقيْ والتّفاعُلِ معَ حامِليّ تلْك الثّقافاتِ مِنْ جانِبٍ، ومِنْ جانِبٍ آخرَ يُعيدُ ربْطَ الملايين مِنَ المُهاجِرينَ والمُغْترِبينَ العربِ والمُسْلمينَ فيْ العالَمِ بِثقافَتِهِمْ العربيّةِ والإسْلاميّةِ، ويُنمِّيْ مِنْ خلالِهِمْ حركَةً ثقافيّةً وفِكرِيَّةً عربيّةً فيْ مواطِنِهِمْ الجديدةِ، ويُؤَسِّسُ لِتلْكَ الثّقافَةِ وُجودًا جديدًا فيْ تلْكَ الأصْقاعِ مِنَ العالَمِ البعيدِ عنْ ثقافَتِنا الحاليَةِ، ويَكْسِرُ حاجِزَ الجهْلِ المُطْبَقِ الّذيْ تَعيشُهُ شُعوبُ وأُمَمُ الأرْضِ حوْلَ ثقافَتِنا العربيّةِ قَدِيمِها وحديثِها، ورُبّما يُعيدُ لِهذِه الثّقافَةِ وحامليها الاِعْتِبارَ لدى أُمَمِ الأرْضِ المُعاصرَةِ «.
إنّ مسؤوليّةَ المجامِعِ اللُّغويّةِ فيْ ترْقيَةِ اللُّغةِ العربيّةِ جسيمةٌ، وعلى الأعْضاءِ المُنتمينَ لها أنْ يُثْبِتوا وبِجدارَةٍ أنّ اللُّغةَ العربيّةَ قادرَةٌ على مُواكبَةِ هذا التّدفُّقِ المعْرِفِيِّ الهائلِ واللاّمَحْدود، وأنْ يُثْبِتوا خطأ تَوقُّعاتِ المُفكِّرِ البريطانِيِّ مول جونسون حينَ رأى أنّ العالَمَ العربِيَّ سَيدْخُلُ القَرْنَ الواحِدَ والعِشْرينَ وهُمْ أقلُّ أهمِّيَّةً مِمّا كانوا عليْهِ فيْ السّابِقِ. فعلى المجامِعِ اللُّغويّةِ أنْ تَعْمَلَ على رقْمنَةِ اللُّغةِ العربيّةِ فيْ ظلِّ لُغةٍ تَجْمعُ كلَّ الشُّعوبِ العربيّةِ، وتُقدِّمَها لِلْعالَمِ بِطريقَةٍ صحيحةٍ، فإنَّ «نُظُمَ المعْلوماتِ، هيَ حِصانُ طرْوادَةَ الّذيْ يُمْكِنُ أنْ يُشْعِلَ جذْوَةَ التّغْييرِ فيْ قلْبِ المُؤَسَّسَةِ العربيّةِ، شريطةَ إدْخالِها بِأُسْلوبٍ مَنْهجِيٍّ فعّالٍ، بلْ ويُمكِنُ مِنْ خِلالِها إزالةُ الآثارِ السّلْبيَّةِ لِكثيرٍ مِنْ تراكُماتِ الماضيْ، حيْثُ تَحُثُّ نُظُمُ المَعْلوماتِ على أنْ نُفكِّرَ فيْ المشاكِلِ بِنظْرَةٍ جديدةٍ ومِنْ مَنْظورٍ مُخْتلِفٍ».
اللُّغةُ كائنٌ مُتطوِّرٌ مثْلُهُ مِثْل أيِّ كائنٍ على وجْهِ الأرْضِ، ولِكلِّ لُغةٍ قواعِدُ ونَحْوٌ. والنّحوُ يَتغيَّرُ بِتغيُّرِ اللُّغةِ عبْرَ تغيُّرِ الأزْمانِ. وبِما أنّ اللُّغةَ ظاهرَةٌ اِجْتماعيّةٌ، فإنَّ القواعِدَ الّتيْ ضبَطَتِ الكلماتِ فيْ وضْعٍ مُعيَّنٍ، إنّما بُنِيَتْ أساسًا على ما سُمِع عنِ العرَبِ ولمْ تُبْنَ على قِياسٍ عقْلِيٍّ.
وعليْهِ، باتَ لِزامًا عليْنا نحْنُ -الباحثينَ والدّارسينَ- أنْ نَطرَحَ اِنْشِغالاً وجيهًا يَهُمُّ واقِعَ اللُّغةِ العربيّةِ حينَ تراجعَتْ مكانتُها فيْ المُجْتمعاتِ العربيّةِ، ولمْ يَقَعْ هذا التّراجُعُ إلاّ بِسبَبِ قُصورِ أهْلِها، فنَعيبُ الزّمانَ والعَيْبُ فينا، نَعيبُ اللُّغةَ العربيّةَ قائلينَ: ليْسَتْ لُغةَ العلْمِ والتّكنولوجيا… والعيْبُ كامِنٌ فينا!
فلا رقْمنَةَ، ولا اِنْتِشارَ كاسِح لِلُّغةِ العربيّةِ فيْ مِنصّاتِ التّواصُلِ الاِجْتماعيِّ بِشتّى أنْواعِها، ولا فيْ حَوْسبتِها إلاّ بِالرُّجوعِ إلى الأصْلِ الّذيْ يُعَدُّ فضيلَةً، أيْ الرُّجوعُ إلى:
– إثْباتِ الهُويّةِ والاِنْتماءِ.
– تقْويَةِ الاِقْتصادِ وتنْويعِه.
– إحْياءِ الثّقافةِ العربيّةِ بِكلِّ تجلِّياتِها وتَنوُّعِها.
هذا، وفيْ الخِتامِ أمْكنَ لنا مِنْ بابِ الاِجْتِهادِ المُتواضِعِ، أنْ نَعْرِضَ بعْضَ الاِقْتِراحاتِ الّتيْ نراها مُناسبَةً لِردِّ الاِعْتِبارِ لِلُغةِ «الضّادِ» وتكْثيفِ اِنْتِشارِها على الشّابِكةِ العَنْكبوتيَّةِ فيْ إطارِ الرَّقْمنَةِ، والمُتمثِّلَةِ فيْ النِّقاطِ التّاليَةِ:
– وضْعُ معاجِمَ لُغويّةٍ حديثةٍ رقْميّةٍ.
– توْطيدُ العلاقاتِ وتفْعيلُها بيْنَ المجامِعِ اللُّغويّةِ وجميعِ الدُّولِ العربيّةِ (توْحيد الرُّؤى وتجْسيد الأهدافِ المُشْترَكَةِ).
– توْحيدُ المُصْطلَحاتِ العلْميّةِ واللُّغويّةِ والأدبيّةِ، وضبْطُ مفاهيمِها.
– تشْجيع التّرْجمَةِ والتّعريبِ والتّأْليفِ فيْ مُختلِفِ الميادينِ، وعلى رأْسِها: الميْدانُ العلْميُّ بِغرَضِ المُمارسَةِ اللُّغويّةِ.
– ترْجمَة الرّوائعِ الأدبيَّةِ والفنِّيَّةِ والعلْميَّةِ العالَميَّةِ.
– بعْث التُّراثِ اللُّغوِيِّ العرَبيِّ فيْ شكْلِ مشاريعَ بحْثيَّةٍ أو أكاديميَّةٍ لِلْحِفاظِ على الإرْثِ الحضارِيِّ التّليدِ الّذيْ أنْجبَنا مِنْ جهةٍ، ومُواكبَةِ مظاهرِ الحداثَةِ والتِّكْنولوجيا مِنْ جهةٍ أُخْرى وَالّتيْ وَلَّدَها اِجْتِهادُ الأُممِ فيْ ظلِّ العَوْلمَةِ.
– تشْجيع كلِّ المُبادراتِ لاِنْتِشارِ اللُّغةِ العربيّةِ فيْ مِنصّاتِ التّواصُلِ الاِجْتِماعيِّ، واِسْتعْمالِها اِسْتعْمالاً صحيحًا، وبِالطّريقةِ السّليمةِ، وتطْويرِها بِالاِعْتِمادِ على الرّقْمنَةِ.
– أنْ نرْفَعَ التّحدِّيْ بِإيجادِ سياساتٍ لُغويَّةٍ بِغرَضِ تعْزيزِ المُحْتوى الرَّقْميِّ لِهذِه اللُّغةِ، وأولى السّياساتِ: إحْصاءُ المُحْتوى العربيِّ على الشّابكَةِ العنْكبوتيَّةِ، أيْ الإنْتاج المبْثوثُ على «الإنْترْنَتْ»، وإجْراءُ مُقارنَةٍ بيْنَه وبيْنَ الإنْتاجِ غيْرِ العربيِّ لِمعْرِفةِ أسْبابِ تقَهْقُرِ اللُّغةِ العربيّةِ.
– برْمجَة تخْطيطٍ لُغوِيٍّ واضِحٍ مِنْ قِبَلِ الهيئاتِ المُشرِفَةِ فيْ كلِّ مُسْتوياتِها على تنْميَةِ اللُّغةِ العربيّةِ وترْقِيَتِها.






