مع اقتراب عيد الأضحى، تستعيد مدينة قسنطينة روحها القديمة، وتتحول أحياؤها العتيقة إلى مسرح نابض بالحياة، حيث تختلط رائحة التوابل بصوت المساومة في أسواق المواشي، وتتزين الأزقة بضحكات الأطفال الذين ينتظرون يوم العيد بشغف لا يوصف.
منذ الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، تبدأ التحضيرات على قدم وساق، في قلب “السويقة” و«رحبة الصوف” أين لا تهدأ الحركة، وتزداد المحلات ازدحامًا بمواطنين يبحثون عن أجود أنواع السكاكين، والفحم، والتوابل، وحتى الزينة التي تُعلَّق على الأضاحي، وفي ضواحي المدينة، تتضاعف الحركة في نقاط بيع المواشي، ويحرص المواطن القسنطيني على اختيار أضحية تليق بالمقام، ولو تطلب الأمر مساهمة جماعية.
ومن العادات المنتشرة لدى الكثير من العائلات أن يتقاسم الإخوة أو الأقارب ثمن الأضحية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، هذا التآزر العائلي يضفي على المناسبة طابعًا تضامنيًا، ويمنحها عمقًا إنسانيًا، حيث لا يُحرم أحد من فرحة الذبح مهما كان مستواه المعيشي، أما لحظة إحضار الكبش إلى البيت، فهي مناسبة قائمة بذاتها، يُحتفى بها بين الجيران، وتوثَّق بالصوت والصورة.
وعلى رأس الأضاحي التي تثير الإعجاب في شوارع المدينة، يبرز كبش “الروماني” بهيبته ووفرة لحمه وصوفه، حيث يحرص كثيرون على اقتنائه فمع وصوله إلى الحي غالبًا ما يتحول إلى مشهد احتفالي مصحوب بزغاريد النساء ونظرات الإعجاب من الجيران والأطفال، خاصة إذا كان الكبش مزينًا بشريط ملون أو خرزة زرقاء لطرد “العين”.
صبيحة العيد، تتوجه العائلات إلى المساجد الكبرى في المدينة لأداء صلاة العيد في أجواء مهيبة، ثم يعودون إلى المنازل حيث تبدأ طقوس الذبح التي تحرص العائلات على تأديتها وفق الضوابط الشرعية، ولا يتأخر توزيع الأضحية على الجيران والأقارب والفقراء، في تجسيد فعلي لقيم الرحمة والتكافل التي ترسخت في الوجدان القسنطيني.
وتحمل موائد العيد أطباقًا تقليدية بامتياز، تبدأ بـ«البوزلوف أو الدوارة” الذي يحضر من رأس الكبش ويقدَّم على الفطور، ثم يأتي في المقدمة “ الشواء” وكلها أكلات لا يمكن تصور عيد الأضحى بدونها، أما الحلويات فتحضر بقوة، حيث تُعدّ العائلات “المقروط” و«البقلاوة” و«الغريبية” لتقديمها للضيوف الذين يتوافدون على البيوت لتبادل التهاني.
رغم بهجة العيد، لا يغيب الحس الإنساني عن القسنطينيين، إذ تسارع الجمعيات الخيرية إلى تنظيم حملات لجمع التبرعات وتوفير الأضاحي للعائلات المعوزة، لتعمّ الفرحة كل بيت. ويؤكد الكثير من المواطنين أن العيد لا يكتمل إلا عندما يشعر الجميع بالفرحة، صغيرًا كان أو كبيرًا.
وإن كانت المدينة قد تغيرت في ملامحها بفعل الزمن، فإن روح العيد فيها لا تزال كما كانت، محافظة على نكهة الماضي وأصالته. في قسنطينة، عيد الأضحى ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو محطة وجدانية عميقة، تعيد ربط الناس بجذورهم وتمنحهم فسحة من الأمل والتراحم في زمن المتغيرات السريعة.