شكل إضراب الطلبة المسلمين الجزائريين، في 19 ماي 1956، محطة حاسمة في النضال الثوري، حيث فكر قادة الثورة العباقرة في تجنيد الحركة الطلابية لخدمة الثورة، وإعداد إطارات إلى ما بعد الاستقلال، وبالفعل كانت هذه النخبة المثقفة خزانا لبناء مختلف مؤسسات الدولة الجزائرية غداة استرجاع السيادة الوطنية، ونحن اليوم نستذكر هذه المحطة التاريخية ليستلهم الجيل الحالي الدروس والعبر من تضحيات أولئك الأشاوس، ليستكملوا مسيرتهم بالعلم والتكنولوجيا ويبقى جسر التواصل مع جيل نوفمبر.
تذهب كثير من المصادر التاريخية إلى أن النضال الطلابي هو الذي أنجب تيارات الحركة الوطنية الجزائرية المنظمة، منذ الإعلان الرسمي على نجم شمال إفريقيا في مارس 1926 بباريس، ويشير الباحث مريوش، في مؤلفه “ الحركة الطلابية الجزائرية ودورها في القضية الوطنية وثورة التحرير 1954”، إلى أن هناك عوامل ساعدت على ميلاد الحركة الطلابية في الجزائر، أولها تأسيس جامعة الجزائر وتضييق الخناق على تعليم الطلبة الجزائريين في المدارس الرسمية الفرنسية، وغلق المؤسسات التعليمية والدينية وإجبارية التعليم باللغة الفرنسية، بدلا من العربية التي أهملت تماما من التعليم والإدارة.
أما العامل الثاني - يقول مريوش - فهو هجرة الطلبة الجزائريين إلى الخارج، حيث عرفت العشرية الأولى من القرن العشرين هجرة العديد من العائلات الجزائرية إلى الخارج، وتذكر مصادر فرنسية أن أكثر من 20 ألف مهاجرا تركوا الجزائر مع مطلع القرن، بسبب صدور قانون التجنيد الإجباري في 1912، وما ترتب عنه من تداعيات.
وقد شملت الهجرة الطلبة والمثقفين الذين أصبحوا يبحثون عن مناطق آمنة بعد عملية الطرد الداخلية، ونتج عن ذلك بروز قلة من الطلبة يدرسون في الجامعات والمعاهد الأجنبية وخاصة الفرنسية منها، وقد تأثر هؤلاء الطلبة بما عايشوه في الخارج، خاصة وسط الجامعات التي كانت بمثابة خلايا للأفكار والمناقشات والجدل السياسي، فأخذ الطلبة الجزائريون بأفكار التحرر وحرية التعبير.
وقدرت المصادر الفرنسية عدد الطلبة الذين هاجروا للدراسة بالجامعة الإسلامية سنة 1954 بـ900 طالب توجهوا إلى الزيتونة، و30 طالبا التحقوا بالأندلس بإسبانيا. حيث ساهمت الجالية المهاجرة بما فيها الطلبة، في إحياء حركة النهضة الجزائرية وإرساء ثورة فكرية جديدة عمقت الحس الوطني.
العامل الثالث – يقول الباحث - هو الاحتفال الفرنسي بمئوية احتلال الجزائر في 1930، وكان استفزازا لمشاعر الجزائريين، أحيا في قلوبهم ذكرى نزول المحتل بسيدي فرج في 1830، من خلال الشعارات المعادية للحضارة العربية والإسلامية، النافية للوجود الجزائري على خاصة أرضه، وقد تركت أثرها العميق في نفسية الجزائريين من علماء وفقهاء ومثقفين ونخب.
ويأتي العامل الرابع، وهو الشعور بالميز العنصري الذي توطن في قلوب الجزائريين، بالمقارنة مع طلبة المستوطنين الأوروبيين، فقد كانوا يستفيدون من كل الامتيازات المادية والمعنوية على حساب الطلبة الجزائريين الذين كانوا يخضعون لنظام خاص من حيث المعاملة والاستفادة من الحقوق كالتكوين والنجاح والتوظيف.
تجــنــّد الطلبة للنضال الـثوري
كانت تونس محطة هامة للنضال الطلابي بحكم موقعها الجغرافي المجاور للجزائر، وقد وصفها الطالب جودي بوالطمين، من الطلبة الذين درسوا بالعراق قائلا: “وكانت تونس المحطة الرئيسية لهؤلاء الطلبة الذين قدموا من مختلف أنحاء الدنيا راغبين بصدق وإخلاص تقديم خدمة لثورتهم المظفرة وراغبين عن طيب خاطر إمداد ثورتهم بثقافتهم وبالتالي بأرواحهم”.
ويشير الباحث مريوش إلى تفطن الثورة بضرورة توظيف وإدماج الطلبة المتواجدين في تونس في استيراتيجيتها، وسعت إلى تقريبهم من التنظيم الطلابي الموحد وإدماجهم مع الإتحاد العام للطلبة، وأرسلت قادة إلى تونس بقيادة الضابط أوعمران، بغرض هيكلة وترتيب النسيج الطلابي في تونس، حيث تشكلت لجنة من الطلبة بإشراف جبهة التحرير الوطني بغرض التعبئة والتحضير لأطر جديدة في العمل وفق مبادئ وأهداف الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، الذي تأسس في 1955 بفرنسا.
وبالفعل، أبلى الطلبة البلاء الحسن، وقدموا إسهامات كبيرة في مجالات الاتصال والدعاية والإعلام.
شهادة بـلقـبي..
يقول المجاهد صالح بلقبي في كتابه “عهد لا عهد مثله أو الرسالة التائهة”، إن الصدف أرادت أن تدوي أول طلقات نارية لثورة نوفمبر مع افتتاح السنة الجامعية 1954-1955، وكان التنافس بانتخابات أعضاء مكتب المنظمة الطلابية الخاصة بالجزائريين على أشدّه، وكانت تسمى بالنسبة لجامعة الجزائر، جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، حيث أدى أفرادها المخلصين أدورا هامة في الكفاح المسلح واستشهد بعضهم.
بلقبي، وهو واحد من الطلبة الجزائريين إبان ثورة التحرير، يقول: في 27 فيفري 1955، صوت بالإجماع مكتب الجزائر لهذه المؤسسة على لائحة وزعت في شكل منشور على جميع الطلبة الجزائريين داخل القطر وخارجه، يدعوهم فيها إلى إنشاء منظمة طلابية وطنية باسم الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين UGEMA، وتلبية لهذا النداء نظمت بباريس ندوة تحضيرية عام 1955، من أجل عقد مؤتمر تأسيسي لهذا الإتحاد.
مـعركة المـيـم
يشير بلقبي إلى نقاش واسع في هذه الندوة حول إدماج كلمة “المسلمين” في عنوان الإتحاد، وقال: لو تنازل الطلبة الجزائريون عن انتمائهم الإسلامي في العنوان، لفتحوا باب الانخراط أمام أبناء الجالية الأوروبية المقيمة بالجزائر، وأعطوهم فرصة التحكم المطلق في سياسة الإتحاد الجديد، لأنهم يشكلون الأغلبية الساحقة في مستوى التعليم العالي، فمن بين 5 آلاف طالب مسجل بجامعة الجزائر، لم يكن عدد الطلبة الجزائريين يتجاوز 400 طالب.
وانعقد المؤتمر التأسيسي بقاعة “لاميتياليتي” La Mutualité، بباريس في 8 جويلية 1955، بحضور ممثلين عن منظمات إفريقية وفرنسية، وهكذا أعلن رسميا عن تأسيس الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، ومكاتب فرعية في كل الجامعات التي يدرس بها جزائريون بأعداد معينة.
وحددت هياكل للإتحاد منها لجنة مديرة مكونة من 17 عضوا وتمثل السلطة العليا بعد المؤتمر، ومكتب تنفيذي مكون من خمسة أعضاء ولجنة مالية تهتم بطريقة صرف أموال المنظمة.
واختيرت باريس مقرا مركزيا مؤقتا للاتحاد ولاجتماعات المؤتمر، تفاديا لأحكام حالة الطوارئ السائدة آنذاك عبر التراب الوطني، وتبين من خلال المؤتمر التأسيسي واللوائح الصادرة عنه أن الانشغالات النقابية للطالب الجزائري، لم تصبح سوى تغطية تتستر وراءها أنشطة سياسية ومطالب تعكس برامج الثورة في جميع المجالات، يقول بلقبي.
الـيـوم المــشــهـود..
يروي المجاهد بلقبي أنه تقرر في مطلع السنة الجامعية 1955-1956 إنشاء المكاتب الأولى للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، في كل الجامعات الفرنسية ومؤسسات التعليم العالي عبر العالم التي يتابع فيها عدد كاف من الجزائريين دروسهم العليا، لكن للأسف، ما إن كادت قائمة المرشحين لمكتب فرع الجزائر تشكل، حتى ألقت الشرطة الاستعمارية القبض على أربعة من الناشطين: عمارة رشيد، محمد لونيس، أحمد تاوتي، ومصطفى صابر.
«لم يكن لهم حظ المساهمة في نشاط المكتب إلا من وراء جدران السجن، وأطلق سراحهم في شهر فيفري، فاستأنفوا نشاطهم السري ولم يحضروا جلسات الفرع إلا مرة واحدة، ثم التحقوا بصفوف جيش التحرير واستشهدوا، رحمهم الله”..يقول بلقبي..
كان مكتب العاصمة يتشكل من الرئيس محمد الصديق بن يحيي، ونواب الرئيس وهم عمارة رشيد، أحمد تاوتي، محمد لونيس، ومصطفى صابر، عضو اللجنة المديرة المكلف بالنشاط الثقافي صالح بلقبي، الأمينة العامة حفصة بيسكر، أمينة المال زليخة بقدور، وعبد الحليم بن حسين، في العلاقات الدولية.
وكان طلبة جامعة الجزائر ممثلين في اللجنة المديرة بباريس، من طرف الشهيد علاوة بن بعطوش وصالح بلقبي، في حين تخلى محمد الصديق بن يحيي، عن رئاسة مكتب الجزائر، مباشرة بعد انتهاء المؤتمر العادي الأول للطلبة الذي انعقد بباريس من 24 إلى 30 مارس 1956 لتمثيل الجزائر رفقة لخضر الإبراهيمي، في مؤتمر باندونغ للطلبة.
وتحضيرا لإضراب الطلبة، قامت قيادة الثورة بتدريب عشرات الطلبة والتلاميذ على فنون التطبيب، قبل توزيعهم على الوحدات القتالية والمناطق ومختلف هياكل الثورة، وجرت مشاورات حول هذا الإضراب بين ممثلين لقيادة الثورة وفي مقدمتهم عبان رمضان، وبعض الطلبة، منهم عمارة رشيد، غداة خروجه من السجن، وبن يحيي، وترك لمكتب العاصمة حرية تحديد التاريخ المناسب له والمتماشي مع الأسباب الملائمة للتحفيز الأنجع للطلبة، حسب شهادة بلقبي.
ويشير المجاهد إلى أنه كان لزاما تنظيم الإضراب قبل دخول الجامعيين في امتحانات آخر السنة، حيث دعا الفرع جميع الطلبة إلى جمعية عامة انعقدت للمرة الأولى بنادي الدكتور سعدان، بمقر حزب البيان سابقا، وطرحت مسألة المقاطعة الشاملة واللامتناهية لكل الدروس، وتقبلت الأغلبية الفكرة، وتبنت ما يترتب عليها من نتائج، بينما عارضت الأقلية المشروع بشدة، أبرزت أن واجب الطالب المقدس إزاء الثورة ومستقبل الأمة، يتمثل – كما رأت الأقلية - في المثابرة على التعلم قصد توفير الإطارات للدولة الجزائرية المستقلة.
وفي الاجتماع الثاني الذي حضره تلاميذ الثانويات، أعلن رسميا عن الإضراب وأصدر الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، نداء في 19ماي 1956، الداعي إلى انقطاع الطلبة عن الدراسة والالتحاق جماعيا بالكفاح المسلح.
هنا، يشير بلقبي إلى أن الصيغة النهائية للنداء انفرد بها الأمين خان، وتسلمها بلقبي منه قبل طبعها، ولم يطلع عليها أحد إلا ضمن المنشور الذي وزع على الجميع، علما أن صدور النداء كان باللغة الفرنسية لغياب الراقنات بالحروف العربية في ذلك الوقت.
استجاب معظم الطلبة وتلاميذ الثانويات للنداء، والتحقوا بصفوف الثورة المسلحة بعد فترات تدريب على فنون القتال وحرب العصابات، وطرق تقديم الإسعافات الطبية الأولية للجرحى والمجاهدين أو المواطنين.
أما الطلبة الذين فضلوا البقاء في الأحياء الجامعية، فقد تعرضوا لضغوط الإدارة الاستعمارية ومناضلي لجنة العمل الجامعي، بهدف تجنيدهم ضمن الجيش الفرنسي والمساهمة في الحرب النفسية الهادفة إلى كسب ثقة المواطنين، وتأليبهم ضد الثورة، يقول بلقبي في شهادته.
ويضيف: “هذا ما جعلني، بصفتي عضوا في اللجنة المديرة للاتحاد، والممثل الوحيد لفرع الجزائر الموجود بالعاصمة آنذاك، وبأمر من القيادة الثورية، أتوجه إلى هؤلاء الطلبة المتخلفين بنداء ثان وزع في صيغة منشور، أحذرهم فيه من مغبة الوقوع في شباك العدو، وأذكرهم من جديد بواجبهم إزاء الوطن والشعب”.وهذا جزء من النداء: “أيها الطلبة الجزائريون..ومن الواضح أن أية شهادة دراسية إضافية نحصل عليها لن تجعل من أجسامنا جثثا أجمل من غيرها، فما هي إذن فائدة هذه الشهادات، التي تمنح لنا باستمرار بينما يخوض شعبنا كفاحا بطوليا، وبينما يعتدى على كرامة أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا، وبينما يسقط أطفالنا وشيوخنا تحت رش البنادق، ووابل القنابل وتحت النابلم، ونحن “إطارات الغد”، يقترح علينا أن نؤطر ماذا؟ وأن نؤطر من؟ ربما الأنقاض وتلك الأكوام من الجثث، التي خلفتها حوادث قسنطينة، تبسة، وسكيكدة وتلمسان، وأماكن أخرى دخلت ملحمة وطن”.
ويضيف النداء: “إن وقوفنا موقف المتفرج أمام الحرب الدائرة تحت أعيننا، يجعلنا متواطئين مع من يوجهون التهم الدنيئة إلى جيشنا الوطني الباسل، وإن الطمأنينة المزيفة التي نعيش فيها لم تعد ترضي ضمائرنا، لأن واجبنا يدعونا إلى مهام أخرى، أكثر استعجالا وإلزاما وحسما ومجدا، إن واجبنا يدعونا إلى تناول نصيبنا من الآلام اليومية جنبا إلى جنب مع من يكافحون ويموتون أحرارا في مواجهة العدو”.
واختتم النداء قائلا: “سنلتزم كلنا بتنفيذ أمر الإضراب الفوري، واللامحدود عن الدروس والامتحانات، علينا إخلاء مقاعد الجامعة والالتحاق بالجبال، وعلينا الانضمام الجماعي إلى صفوف جيش التحرير الوطني، وجهازه السياسي: جبهة التحرير الوطني.
أيها الطلبة والمثقفون الجزائريون، أمام العالم الذي ينظر إلينا، والأمة تنادينا وإزاء مصير وطننا المجيد، أيصح أن نكون من المرتدين؟”.
ومن العمليات التي نفذها الطلبة في هذا الإطار، التردد على مراكز الشرطة والمحاكم بالعاصمة وبعض الإدارات للبحث عن المناضلين المفقودين، والاحتجاج على تعذيبهم وطول احتجازهم، إضافة إلى جمع الأموال للثورة باسم المنظومة الطلابية، والاتصال بالحكومة الفرنسية باسم الثورة، وتوفير الملاجئ لبعض المسؤولين المبحوث عنهم، بإيجار بيوت آمنة باسم بعض الطلبة أو أسماء مستعارة، إضافة إلى التغلغل في الأوساط الأوروبية المتعاطفة مع القضية الوطنية، قصد الاستفادة من عناصرها في مجالات عدة، التصدي ولو بالقوة للأوساط المتطرفة من الأوروبيين، وغيرها من العمليات المساندة للثورة.