في زوايا المخيم الضيّقة، حيث الجدران شاهدة على حكايات تعبٍ وصبر، ووجوه الناس مغموسة بتراب الوطن وملح البقاء..وُلد خالد خديش..لم تولده الحياة في أروقة الراحة، بل في المخيم، بين شوارع ضيّقة تنبض بالكرامة، وتزهر فيها الإرادة رغم القهر.
لم يكن اسمه مجرّد حبرٍ في وثيقة، بل وعدٌ صارم أن القضية لا تموت، وأن المخيم لا ينكسر. وُلد عام 1970 في مخيم بلاطة شرقي نابلس، لعائلة مهجّرة من قرية إجزم قضاء حيفا.
ترعرع في أزقة المخيم، وتشرّب من بيئته معنى الانتماء والوفاء لفلسطين. لم يكن مجرد ابنٍ للمخيم، بل كان واحدًا من أولئك الذين خُلقوا ليحملوا الوطن في قلوبهم.
في عام 1986، وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى، اعتُقل للمرة الأولى، وقضى أربعة أعوام في سجون الاحتلال حتى أُفرج عنه عام 1990. عاد حينها إلى صفوف النضال في قلب الانتفاضة، وشارك في تشكيل مجموعات “القوة الضاربة”، وكان حضوره في الميدان انعكاسًا لعلاقته الصادقة مع شعبه.
بعد مدة، اعتقل إداريًا لمدة ستة شهور، ثم أُفرج عنه ليواصل عطاءه، وإن في الظلال. بين عامي 1990 و2000، كان حراكه وطنيًا وتنظيميًا فعّالًا. شارك في تنظيم أول مؤتمر حركي يُعقد داخل فلسطين بعد عودة الثورة، وكان من بين من انتُخبوا لعضوية لجنة المنطقة التنظيمية لحركة فتح في المخيم، والتي شكلت لاحقًا رافعة أساسية للكثير من القضايا.
تدرج من نائب أمين سر إلى أمين سر، وساهم في تعزيز حضور الحركة وخدمة أهله، وتحقيق التماسك المجتمعي في وجه الانقسامات. خلال انتفاضة الأقصى، برز اسمه مجددًا، لا كمجرد مناضل، بل كصوتٍ حقيقي في الميدان، مؤمنٍ بالوحدة، رافضٍ للتراجع، وفاعل في التوجيه والتنظيم. لم يكن ضمن من صاغوا وثيقة الوحدة الوطنية، لكنه كان من أبرز المؤيدين لها، وساهم في رسائل داخلية هدفت لتعزيز الصفّ الوطني، وتحصين المجتمع، وضمان كرامة المواطن الفلسطيني.
وفي 24 أفريل 2003، وبعد مطاردة طويلة، اعتقلته قوات الاحتلال. لم يكن يحمل سلاحًا بيده، لكنه كان يحمل في قلبه ذاكرة النار، ووعي الثورة. حُكم عليه بمؤبدين و25 عامًا، خاض خلالها 22 عامًا من الأسر، إضافة إلى سنواته السابقة.
داخل السجون، كان خالد رمزًا للتنظيم والانضباط. تميز بحنكته وثباته، وقاد مواقع نضالية داخل عدة سجون، أبرزها ريمون ونفحة. كان من أعمدة العمل التنظيمي داخل فتح، ومن الأصوات التي ساندت خيار الوحدة والبناء، لا الانقسام والتفكك.
وفي 22 جانفي 2025، أُفرج عنه في صفقة “طوفان الأحرار”، لكنه لم يعد إلى مخيمه كما كان يحلم. فقد تقرر إبعاده إلى مصر، حيث استُقبل هناك بالحب والاحترام، بينما خيّمت مشاعر مختلطة في المخيم: فرحة بتحرره، وحسرة على غيابه. كثيرون تمنوا لو عاد إليهم قائدًا ورفيقًا، كما تمنوا أن يظلّ صوته قريبًا من الأزقة التي أحبته.
خالد خديش متزوج، وله أربعة أبناء: بنت وثلاثة أولاد، جميعهم مرّوا بتجربة الأسر، والتقى ببعضهم في السجن، ما عدا ابنه عبد الرحمن، الذي يُحتجز إداريًا منذ سنوات، وتم تمديد اعتقاله للمرة الرابعة منذ نوفمبر 2023.
خالد ليس مجرد أسير محرر، بل رجل حمل فلسطين في قلبه، وواجه سجّانه بالكرامة والصبر، وخرج من الزنزانة أكثر إشراقًا وصلابة. في زمنٍ تغيّرت فيه الملامح، ظلّ خالد كما هو: ظلّ المخيم، وذاكرة النار، ووجهًا نقيًّا لفلسطين الصامدة.