عمي الحسين بو العشب.. 64 سنة بالقصبة

رائحة رمضان اختفت عن الحي العتيق

جمال أوكيلي

التراث المادي واللامادي رحل مع أهله

عشية حلول الشهر الكريم، كانت وجهتنا الحي العتيق القصة، للاطلاع على التحضيرات أو بالأحرى الاستعدادات النهائية لاستقتبال هذا الضيف، كما اعتاد أهل المكان السير عليه منذ القدم يدشّنون ذلك بدءا من شعبان باستعمال مادة الجير لطلاء الدويرات وتنظيف الأزقة والممرات الضيقة وإخراج الأواني الفخارية والنحاسية لغسلها وتلميعها وتجفيف البعض من الخضر للاستعانة بها في الطبخ.. وغيرها من الأعمال المتوارثة في الوسط الأسري.
هذه العلامات المميزة لهذا الصرح لم نقف عندها خلال جولتنا القصيرة.. لا لشيء سوى لأن الزمن فعل فعلته كل من كان يحمل ما تبقى من تلك العادات غادر أسوار «المحروسة» إلى اتجاهات أخرى إلى عمارات من الإسمنت المسلح مساحة شققها لا تسمح بالعودة إلى ممارسة الطقوس القديمة، من فنون إعداد الوجبات وفق خصوصيات معروفة.
هذه «الهجرة الجماعية» أفرغت الموقع من سكانه الأصليين ليحلّ محلهم أناس لا علاقة لهم بالقصبة بتاتا ما عدا الإقامة فقط، ما أدى إلى تلاشي استمرارية الإبقاء على تلك النشاطات العائلية وتوقفت معها عملية توريثها للأجيال أي البنات خاصة، عندما وجد الجميع أنفسهم في مناخ غير لائق في الأحياء الجديدة.. هذا رد فعل نفسي طبيعي ومتفهم ومن جهة ثانية فإن الزمن بمفهوم الوقت أصبح يداهم الناس ما كان يصنع باليد استبدل بالآلة والأم التي كانت منشغلة بأمور البيت تُعدّ ما تعدّ من الأطباق تحوّلت إلى «مربية» تعتني بأطفال ابنتها أو ابنها من الساعة الثامنة صباحا إلى غاية الخامسة مساءً.. فأي إبداع في الأكل ينتظره البعض بعد كل هذا! وفي وقتنا الحالي.
تلك المقدمات الأولية لرمضان اختفت كلية ولم تعد حاضرة إلا في ذاكرة من عاشوا وعايشوا هذا المكان وعمي الحسين بو العشب قضى ٦٤ سنة في القصبة حرفي ماهر في فن الجلود وما زال وفيا لمهنته في دكان صغير بحي بن العربي.. وما إن فتحنا معه الموضوع حتى استحضر شريط الأحداث مقارنا ما بين الأمس واليوم متأسفا لما آلت إليه الذهنيات في الوقت الحاضر من انسلاخ كلي عن ما كان من ثراء اجتماعي في سياقات معيّنة.
يضاف إلى ذلك، التحوّل الجذري في سلوكيات الناس وعادات الاستهلاك التي لم تكن موجودة في السابق، كان رب العائلة يكتفي بالنزر القليل.. يتعامل عاديا مع هذا الشهر الفضيل متفاديا التبذير أو الشراء من أجل الشراء كما يحدث حاليا من لهفة غير معقولة عن المواد الغذائية الواسعة الاستهلاك.
والأطباق التي كانت تعدّ للإفطار معروفة لا تخرج عن نطاق الشربة زائد المثوم أو الكباب هذا ما يتم إعداده.. أما في السهرة هناك الحلويات التقليدية والشربات والشاي، هذه العينات المذكورة تستند إلى جل العائلات في القصبة، التي تحضر لهذا الموعد من قبل أي خلال شهر شعبان كل اللوازم المنزلية تكون جاهزة.. ويقتني الناس ما يحتاجونه في آخر لحظة.
وأبدى السيد بو العشب تأسّفه الشديد لحالة القصبة اليوم كل ذلك التراث المادي واللامادي ذهب مع أهله، سواء فن الطبخ أو الأساطير التاريخية أو الأواني وهذا كله بفعل عمليات الترحيل التي جرّدت المكان من رموزه الحضارية والثقافية.. وأدخلته في فراغ اللاإنتماء والبحث الدائم عن ذلك الحنين والهروب النفسي الداخلي إلى الزمن الجميل.


 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024