يوميات رمضانيـة في القصبة

حنين يقاوم «غربة» التكنولوجيا و«وحشة» مواقع التّواصل

من عبق الماضي وسحره تستمد الجوهرة النادرة التي ارتبط اسمها بالوطن القارة، القصبة كتاب مفتوح على التاريخ، كتبت حروفه أنامل حرفيّين وضعوا مع كل تفصيل من عمارتها وأزقتها وعيونها التي لا تجف قصة حياة أمة، وعبر أزقتها الضيقة يتحدّث الشهر المبارك من خلال عادات وتقاليد عن سكانها، الذين حافظوا على خصوصية «سيدي رمضان»، وجعلوه بابا مفتوحا على الماضي.
ينتاب سكان حي القصبة العتيق بالعاصمة، الذي يتميز بعادات وتقاليد خاصة خلال شهر رمضان الفضيل في عصرنا هذا الحنين الى أجواء متميزة واستثنائية يلتزم البعض منهم بالحفاظ على تفاصيلها، حيث تعتبر «خالتي فاطمة» المولودة بهذا الحي جزءا من هذه الذاكرة الجماعية لهذه المدينة المصنفة ضمن التراث العالمي لمنظمة «اليونسكو»، عاشت مآسي حرب التحرير وفرحة الاستقلال.
سطح المنزل فضاء للنّسوة
 إلى يومنا هذا، تحمل «خالتي فاطمة» في طيات ذاكرتها ماض حافل بالعادات والتقاليد، صنعت وما زالت تصنع هوية سكان الحي العتيق على غرار تلك المتعلقة بشهر رمضان، الذي يعتبر مناسبة «يرتقب حلولها على أحرّ من جمر، حيث كان يمكن إدراك قدوم هذا الشهر المبارك عدة أسابيع من قبل من خلال مختلف التحضيرات والاستعدادات، بدءا من الترحيب بهذه المناسبة في محيط نظيف مثل دهن المباني وتبييضها من الداخل، وكذا الدويرات (المنازل التقليدية) للمدينة العتيقة، حسب قولها.
وتتم هذه المهمّة بشكل جماعي في جو بهيج مثلما هو الشأن بالنسبة لتحضير المكونات والتوابل المشكلة للأطباق الخاصة بهذا الشهر الفضيل، بما في ذلك تجفيف الطماطم وتقشير الثوم وتحضير الكسكس، فغالبًا ما يكون سطح المنزل بمثابة فضاء تلتقي فيه النسوة للقيام بهذه المهام.
وتروي هذه الجدّة كيف كانت تستعمل الحمير في الأزقة الضيقة بحيها لنقل كميات الجير والفحم المستعملين لتحضير طبق «الشوربة» الأساسي، وأطباق مميّزة أخرى خاصة بهذا الشهر، وتعمل «خالتي فاطمة» على تكريس بعض عادات الماضي مثل إعداد الكعك الذي يزين أمسيات رمضان مثل «المقروط» و«الصامصة» بالعسل، وكذلك «حلوة الطابع» التي تُقدّم في غالب الأحيان يومي العيد.
أمّا كريمة فهي من جيل مختلف نشأت في جو يتميز بالعادات والتقاليد، حتى وإن تراجعت بعض منها بمرور الزمن سيما مع ظهور التكنولوجيات الجديدة مثل الهوائيات المقعّرة والهاتف المحمول، على حد قولها، في هذا الصدد قالت كريمة «أتذكّر أنّه تحسّبا لهذا الشّهر الكريم كانت تغمرني فرحة شديدة عندما أقوم بدهن الدويرة التي كنا نسكن بها بمادة البرنيق، الذي حل محل الجير في الماضي».
وعلى الرغم من صغر سنها، تحاول كريمة قدر الإمكان الحفاظ على بعض «العادات الجيدة» على مائدة الإفطار، بما في ذلك سلطة الفلفل الحار المشوي و«اللحم الحلو» وخبز العجين المخمر.
تضاف إلى ذلك، السّهرات النّسائية على الأسطح حول موائد الكعك والشاي، تتخلّلها «البوقالات» والقصص المتنوعة والمدائح الدينية، والحديث عن التراث العاصمي والقرع على «الدربوكة» التي تضفي جوا من الفرح عند الفتيات الصغار. أما عندما يصوم الطفل لأول مرة فإنّ هذا «الحدث» يتميز بتحضير «الشربات» من عصير الليمون لكسر الصوم عند وقت «الإفطار» فوق سطح المنزل.
سهرات مطوّلة
 صرّح لونيس آيت عودية، رئيس جمعية «أصدقاء منحدر لوني أرزقي»، أنّ «سكان القصبة» ينتابهم اليوم الحنين بشكل كبير إلى الأمسيات الطويلة في المقاهي أين كانوا يمضون وقتهم في لعب الدومينو وسط حلويات «قلب اللوز» والشاي بالنعناع، وهم يستمعون بنغمات أغنية الشعبي التي تؤدّيها فرق مشهورة.
كما أضاف يقول «أستذكر سهرات الحاج امحمد العنقى وحاج مريزق في مقهى «مالاكوف»، الذي يعتبر بمثابة تراث حقيقي للقصبة، ومن الضروري بما كان تحويله الى متحف».
ويساهم هذا الشغوف بالثقافة والتاريخ من خلال مقالات صحفية «في الحفاظ على الذاكرة الجماعية» لهذا الحي، داعيا إلى «تشبّع الجيل الجديد بعادات الأجداد والآباء التي ينقلها الشهر الفضيل».
غير أنّ ما يميّز طفولته هو أنّ كل عائلة من القصبة كانت تخصّص «مائدة» للمحتاجين وعابري السبيل عند مدخل كل بيت لتقدم لهم وجبة «الإفطار»، حسب قوله، مشيدا بالحرفي حميد بلوط، ابن حي القصبة وصانع «قلب اللوز» المشهور الذي يحمل اسمه، والذي لا مثيل له على مستوى العاصمة.
وإذا لا يزال سكان القصبة يحافظون على شيم الكرم والتضامن حسب الوضع الاجتماعي لكل فرد منهم، فقد أكّد البعض أن هذه الأعمال النبيلة كانت «أكثر انتشارا في الماضي، وتعكس العفوية التي كانت تميز تلك الفترة ممّا يضفي على شهر رمضان الكريم الإحساس العميق بالإيمان والروحانية التي تصنع جوهره».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024