جوهـرة علـى تاج سيرتـا

قصـر الحـاج أحمـد بـاي يتحـوّل لوجهـة سياحيـة

^ قسنطينــة: مفيــدة طريفــي

من بين أهم المعالم التاريخية والأثرية التي ما تزال تروي تاريخ سيرتا العتيقة،  قصر أحمد باي، هذا الصرح الأعجوبة الذي كان آخر معقل يسقط خلال مرحلة المقاومات الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي والذي بقي شاهدا على عظمة مدينة يزيد عمرها عن ألفي سنة، وتحفة معمارية حقيقية من كسب الرهان، حيث أعيد فتحه بعد سنوات وسنوات من الترميم، ويعتبره سكان المدينة متحفا وصورا واضحة للتواجد العثماني بالمدينة، كما يعتبر القصر جزء لا يتجزأ من تاريخ مدينة قسنطينة، وشاهد على ماضيها وجوهرة في تاج الملكة سيرتا المدينة المعبّأة بالفن وعبق التاريخ.

تعود فكرة إنشاء هذا القصر إلى آخر بايات المدينة الحاج أحمد بن محمد الشريف (1784-1848) والمعروف لدى العامة باسم أحمد باي وأبوه خليفة عثماني سابق وأمه جزائرية هي رقية بن قانة، التي تنحدر من عائلة ميسورة من نواحي بسكرة، وقد شرع في بناء هذا القصر في 1825، ليستكمل بعد عشر سنوات في 1835 سنتين قبل سقوط قسنطينة بيد المحتل الفرنسي، يتربع هذا الصرح على 5609 متر مربع واستدعى آنذاك أحمد باي مهندسا إيطاليا من جنوة، يدعى «شيافينو» وفنانين اثنين مشهورين هما الحاج الجابري والخطابي كلفهم بتصميم وبناء القصر.

لوحـات مرمريـــة تحكي..

يتكوّن هذا القصر من ثلاثة أجنحة وطابق تتخلله حديقتين إحداهما لأشجار البرتقال والأخرى للنخيل، وتنفتح هذه الأجنحة على أروقة تحدها أقواس تحملها أعمدة من الرخام على درجة عالية من الجمال جيء بها من مناطق متوسطية شتى يبلغ عددها 266 عمودا. كما يتضمّن هذا الصرح الملكي فناءين اثنين ونافورتين من الرخام وباحة رحبة، كما أن أسقف القصر مبلطة بالرخام وجدرانه مزخرفة. وأبوابه الـ540 ونوافذه مصنوعة عادة من خشب الأرز المنقوش بمهارة والمنحوت والمزخرف بمختلف الأشكال والألوان.
وتؤرخ اللوحات المرمرية المزينة لجدران القصر لوقائع تاريخية ومعارك خاضها الباي ولمختلف الرحلات التي قام بها، كما تسمح هذه التحفة المعمارية بقراءة وافية لمختلف الأحداث التاريخية التي ميزت مدينة الجسور المعلقة في تلك الحقبة من عهد أحمد باي الذي شهدت فيه قسنطينة أوج ازدهارها على كل الأصعدة، إلا أن هذه اللوحات الجدارية الرائعة التي تضرّرت كثيرا تتطلّب عمليات تأهيلها وقتا طويلا والكثير من الخبرة والتي لا تزال متواصلة لحدّ اليوم.

إعـادة رســم تاريــخ قسنطينـة  

وقد استخدم هذا القصر في الفترة الاستعمارية، كمقر للإدارة العامة الفرنسية، حيث أقام به الإمبراطور نابليون الثالث في 1865 خلال مروره بقسنطينة، وقد تمّ القيام في تلك الفترة بعديد التعديلات التي تشبه «أعمال التخريب» على المستويين الداخلي والخارجي للقصر حيث تمّ هدم أجزاء بأكملها، فيما تمّ إجراء تغييرات على أجزاء أخرى برغبة من الإدارة الاستعمارية التي تتردّد في إلحاق الضرر بهذا الصرح، محاولة طمس معالمه وإضفاء الطابع الأوروبي عليه. ومن بين 300 غرفة كان يضمها القصر لم يتبق سوى 121 من بينها 119 تستغل حاليا كقاعات للعرض.  
وفي سنة 1980، أضحى من الضروري الحفاظ على هذا القصر الذي يعد الذاكرة الحية لمدينة تنام على الصخور وجزءا من الهوية الوطنية، حيث أسندت الدراسة الخاصة بترميم هذا القصر لمختصين بولونيين معروفين.  
وأعد هؤلاء المختصون خبرة وتصميما لأشغال ترميم قصر الباي بين 1981 و1986 وأيضا دراسة تاريخية تعتمد على البحوث الأثرية والمعمارية والجيولوجية والفنية. وتعد هذه الدراسة «خارطة طريق حقيقية» ومنذ عام 1984 صنف قصر أحمد باي كتراث محمي. وفي سنوات التسعينات أطلقت ورشة إعادة تأهيل القصر بدءا بتقوية هياكل هذا الصرح.  

سيرتــا ومــا جاورهـا

وأعقب هذه العملية تقوية الجدران والأسقف وترميم أعمدة الرخام وتقوية الأسطح وإصلاح الأسقف وتلبيس الجدران وتبليط الأرض بالرخام وإنجاز أشغال الكهرباء والترصيص، واستغرقت عملية إعادة تأهيل هذا المرجع التاريخي لسيرتا القديمة أكثر من عشريتين، حيث عاد هذا الصرح الملكي مثلما كان عليه من قبل. وقد تمّ استرجاع أكبر عدد من قطع السيراميك والرخام والخزف الملون والبلاط وأعيد استعماله من أجل الحفاظ على الأشكال وإصلاح الفسيفساء على الجدران، كما أعيد ترميم الأبواب والنوافذ لتصبح مثلما كانت عليه في السابق، حيث صقّلت ونظفت بمواد طبيعية، إلى جانب  أنه أعيد صنع مقابض الأبواب القديمة والنوافذ بقطع مماثلة للنموذج الأصلي الموجود بالقصر.
في سنة 2010، افتتح قصر الباي أمام الجمهور، فاسحا المجال لتنظيم معرضين رائعين يتضمنان العصر الذهبي للعلوم العربية وحول الحضارة الفاطمية. وقد ارتقى القصر إلى صف متحف وطني عمومي للفنون والتعابير الثقافية ليدشن بذلك عهدا جديدا.
 هذا الصرح الذي أضحى مكانا لإعادة تمثيل مشاهد من الحياة والتقاليد بقسنطينة الكبرى في قاعات دائمة للعرض وأروقة بتنظيم كافة المناسبات التاريخية والتقليدية، على رأسها شهر التراث الذي دائما ما يعيد اكتشاف القاعة المخصّصة لذاكرة البايات الذين تعاقبوا على بايلك قسنطينة وإعادة تمثيل وفية لديوان الباي الحاج أحمد باي وللشخصيات التي اعتادت التوافد على الديوان وعاداتهم وحتى مواقفهم.  
كما احتضن المتحف الوطني العمومي للفنون والتعابير الثقافية، معارض عديدة على رأسها قصص الفرسان ومستودع الأسلحة خلال فترة البايات والتي أعادت وتعيد صنع غرفة الباي أحمد «بيت القايد» ودائما ما تبرز تاريخ صناعة النحاس بالمنطقة وستقتفي أثر الآلات الموسيقية بقسنطينة وستحكي تاريخ وجمال مدينة، هي تعد بأن تكون أكثر سحرا وروعة، كما تحوّل القصر ومنذ افتتاحه لوجهة سياحية ولمقصد تاريخي يثير الفضول للكثير من زائريه، فالزائر يجد نفسه في رحاب التاريخ والموروث العثماني الذي لا يزال يترجم من خلال الأروقة والجدران وحتى التحف العثمانية وتفاصيل دقيقة لا يزال يحافظ عليها القائمين على القصر.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024