قصبة مستغانم شاهدة على البعد الحضاري للمنطقة

تحفــة معماريــة وذاكـــرة تاريخيـــة صامـدة تحتــاج لترميـــم

غانية زيوي

 يعرف حي تيجديت العتيق بـ «قصبة» مستغانم، وهو المدينة الأولى التي قامت على أنقاضها الولاية، كما يعد هذا النسيج العمراني تحفة معمارية وذاكرة حية شاهدة على مختلف الفترات التاريخية التي عاشتها المنطقة.
خروجا من حي المطمر عن طريق باب مجاهر نصل إلى حي تيجديت، حيث يسمى الطريق المؤدي إليها «قادوس المداح»، تتجمع المياه عند الوادي الذي يسقي هذا الحي، وكان في هذا المكان يلتقي فيه المداحون والشعراء في مواسم الأفراح والأعياد.

طوفان وتخريب

 يقع حي تيجديت العتيق شمال المدينة، ومن يزور مستغانم ولا يدخله كأنه لم يزرها إطلاقا، لجمال بناياته البسيطة وطرقه الضيقة والملتوية، حيث يعتبر الوجه الحقيقي للمدينة، وتحفة معمارية وذاكرة تاريخية شاهدة على مختلف الأحداث التي لا تزال عالقة بذاكرة المستغانميين، حيث تذكر بعض صفحات التاريخ أنه تعرض للتخريب من قبل القائد إبراهيم بوشناق حين التحق سكانه بالمقاومة سنة 1831، إلى جانب عام الطوفان وفيضانات وادي العين الصفراء عام 1927، الذي دمر جزءا كبير من الحي.
تتكون قصبة مستغانم من عدة أحياء على غرار السويقة الفوقانية والتحتانية، وحي الزاوية سيدي معمر، وحي الكاريال والدوكارة، فضلا عن البحيرات وحي الواد الذي يربط تيجديت بحي الطبانة وحي الدرب بعد قطع عين الصفراء، باب مجاهر وباب البحر، حمام السبع وحمام سيدي واضح، ومقبرة سيدي معزوز ومقر الزاوية الدرقاوية الشاذلية العلوية، ومقر الزاوية البوزيدية ومقر الزاوية العيساوية.
فضلا عن ذلك، كان لهذه المناطق والأحياء دور كبير خلال مختلف المراحل التاريخية التي مرت بها، حيث يبرز دور حي الزاوية في بداية القرن العشرين مع الإشعاع الثقافي والديني الذي بثته الزاوية العلوية في روح تيجديت وجسدها الطيب، كما يلعب حي السويقة الفوقانية إبان ما بين الحربين وبعد الحرب العالمية الثانية دورا رياديا مع الحركة الوطنية بفضل حزب الشعب الجزائري وميلاد الحركة الكشفية سنة 1937 وميلاد الحركة المسرحية والفنية.

نمط معيشي تكافلي

كما تحتضن تيجديت بمقبرتها العتيقة رفاة العالم الرباني سيدي معزوز البحري، الذي نقل إليها من شاطئ الميناء سنة 1890 ميلادية، كما تضم مراقد وأضرحة عدد كبير من الأولياء والعلماء الصالحين كسيدي معمر وسيدي حمو الشيخ وسيدي أحمد بن مصطفى العلاوي.
وتضم قبة سيدي البختي وسيدي يعقوب وسيدي السنوسي وسيدي بن عيسى وغيرها، فضلا عن المساجد كالمسجد العتيق سيدي علال ومسجد حمو الشيخ ومسجد سيدي السايح ومسجد العلاوي ومسجد الفتح.
أشار قسوس الشارف رئيس جمعية «أولاد تيجديت»، إلى أن القصبة تتميز من حيث الهيكل العمراني بالأروقة الضيقة، وهي عبارة عن «أحواش» تضم العديد من العائلات في «حوش» واحد، الذي كان له دور كبير في «التويزة»، بمعنى تلتقي كل العائلات وسط الدار لغسل الصوف والقمح والملابس وغيرها من الأمور، بالإضافة إلى ذلك، يحتوي «الحوش» على سطح لنشر الغسيل ونشر القمح ولعدة استعمالات.
فضلا عن ذلك، تتميز القصبة بنمط معيشي قائم على المبادئ والقيم والعادات والتقاليد، حسن الجيرة والتضامن بين الجيران إلى جانب التربية العامة بمعنى كل الجيران مسؤولين عن تربية أبناء الحي، وليست مقتصرة على الوالدين فقط، إضافة إلى إحياء النشاطات الثقافية والدينية والوطنية التي كان لديها نكهة وطابع خاص، يضيف ذات المتحدث.

المدينة العربية القديمة

تيجديت هي كلمة أمازيغية، تعني الأساسات أي المدينة العربية القديمة التي كان يسكنها «البرانية»، وهم العمال الذين كانوا يقصدون مدينة مستغانم للعمل، حيث كانوا يعبرون يوميا باب المجاهر، وهو أحد الأبواب الستة للمدينة، كما يطلق على تيجديت قصبة مستغانم، فهي لا تزال قائمة بجوار البنايات الحديثة والمدينة العصرية، كما أنها تضم عدة معالم تاريخية وتراثية قديمة تشهد على مختلف المراحل والحقب التي مرت بها مستغانم، ومن بينها الزاوية العلوية التي يعود تأسيسها نسبة إلى الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة سنة 1910 م، وهي من أكبر الزوايا الموجودة بالغرب الجزائري.

كمائن ضد العدو

هذا وشهدت قصبة مستغانم انطلاق أولى شرارة المقاومة الشعبية والفدائية ضد الاستعمار الفرنسي، حيث كان الحي مدينة للمسلمين الذين انعزلوا فيه، وأطلق عليهم المستعمر إسم « cartier indigènes» حسب ما أشار إليه رئيس جمعية أولاد تيجديت».
والذين أوقعوا القوات الاستعمارية في عدة كمائن خلال السنوات الأولى من حرب التحرير في أرجاء الحي المتميز بأزقته وطرقه الضيقة ودروبه الوعرة، ومدخل مبانيه التي اتخذ منها الفدائيون حصنا لهم ينطلقون منها ويختبئون فيها، فضلا عن اشتباكات شارع فلوح مسكين عند المذبح البلدي واشتباكات ساحة السويقة الفوقانية، وكثير من التظاهرات والوقائع التي تشهد على العمق التاريخي والدور الكبير الذي لعبته تيجديت خلال تلك الفترة، وخلفت شهداء المنطقة أمثال بن عياد بن ذهيبة والشهيد الغالي بن زهرة بعد نسف بيتهما وهما بداخله، إلى جانب قارة مصطفى ونسيب يحي وغيرهم من الشهداء الذين ضحوا بالنفس والنفيس من أجل تحرير الجزائر.
كما تشهد زيارة العديد من الشخصيات الوطنية والقيادات البارزة، حيث كانت كل البيوت مركزا للمجاهدين وللاجتماعات في تلك الفترة.
هذا وأكد قسوس الشارف أن للقصبة دور كبير في المحافظة على اللغة العربية والقرآن الكريم خلال التواجد الفرنسي، بحيث لا يتحدث السكان إلا باللغة العربية والتعامل بالتعاليم الدينية، بدليل وجود عدة مساجد بالحي والتي كانت تسمى «الشريعة».

من هنا خرج العلماء والفنّانون

 عرف الحي العربي العتيق - تيجديت - حركة علمية وثقافية نشيطة أنجبت العديد من العلماء والصالحين والمفكرين ورجال الفن، وتمثلت خاصة في حركة الطريقة الصوفية، وفي هذا الفضاء الروحي نشط الكثير من العلماء والمفكرون في وسط ثقافي رفيع المستوى، مما ساهم في انتشار مدارس القران والحديث، الفقه واللغة وكل ما يمت إلى هذه العلوم بصلة، إلى جانب ثلة من الفنانين والمفكرين الذين كتبوا أسماءهم بأحرف من  ذهب في التاريخ الحضاري والثقافي للمنطقة، أمثال ولد عبد الرحمن كاكي والجيلالي بن عبد الحليم وهما الأبوين الروحيين للمسرح، حيث تم إنشاء أول فرقة مسرحية بالجزائر سنة 1926، وهي الفرقة المسرحية التابعة للزاوية العلوية، كما ظهرت المطبعة بداية من 1909 ومعها الحركة النشرية للزاوية العلوية بداية بجريدة البلاغ الجزائري ثم المرشد، وأخيرا أصدقاء الإسلام، ضف إلى ذلك تعد الزاوية أول من أنشأت أول مطبعة عربية في الغرب الجزائري. واحتضنت أيضا تيجديت الشيخ حمادة وهو رائد الفن البدوي وأحد أعمدة الأغنية الشعبية والشعر الملحون، فضلا عن الطابع العيساوي والمدح النسائي.

تطلّع القصبة العتيقة

 أقدم متطوعون شباب بحملة نظافة وتهيئة للحي العتيق، حيث تم تزيينه بطلاء جدرانه وأرصفته  بالأزرق والأبيض، ووضع مزهريات على جوانبه مما زادت الشارع العتيق رونقا وجمالا، وكلهم أمل في تغيير صورة هذا الحي الذي يحتاج إلى التفاتة حقيقية من قبل السلطات المعنية، لاستعادة الوجه الحقيقي والجمالي لهذا الحي، وتدفع به إلى مصاف الأحياء السياحية الجميلة كتلك التي توجد بالكثير من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط على غرار أنافي اليونانية ومنوبة التونسية، حيث أكد لنا أحد المتطوعين، أنه على السلطات المعنية إعادة الاعتبار لهذه التحفة الفنية التي تتلاشى معالمها مع مرور الزمن، لكنها لا تزال صامدة، وبذلك لابد من التحرك السريع، وبتضافر كل الجهود من أجل المحافظة على هذا الموروث العمراني المميز الذي يعود لفترات تاريخية قديمة.
وقال «عمي محمد» وهي بادية على وجهه ملامح الحسرة والألم «القصبة كانت زمان، كانت شابة، وين تدخلي تاكلي، كنا عائلة واحدة...القصبة»، ثم تنهد قليلا وقال «القصبة راحت البيوت رابت والناس ماتت والعادات والتقاليد تراجعت لم يتبق إلا القليل الذي يجب المحافظة عليه وإعادة ترميمه».
ويرجع رئيس جمعية أولاد تيجديت «سبب تراجع اندثار بعض العادات والتقاليد التي كانت تميز قصبة مستغانم، إلى تغيير النمط السكني الجديد وتفكك العائلات وتحويلهم إلى سكنات أخرى نتيجة اهترائها مما أدى إلى فقدان الحي جزء من القيمة التي كان يتباهى بها سابقا.
في المقابل لا تزال أغلبية السكنات قائمة عن النمط القديم، الأمر الذي يستدعي التدخل والمحافظة على هذا الحي العتيق الذي يعد اللبنة الأولى التي قامت عليها المدينة.
من جانب آخر، أكد باحث في التراث على أهمية الدراسات والبحوث حول المدينة القديمة حتى يتسنى للأجيال القادمة معرفة تاريخهم باعتبارها شاهدا على البعد الحضاري للمنطقة، ورافدا من روافد ثقافتها الأصيلة.

إشاعات وأخبار مغلوطة

 يعتبر القطاع المحفوظ القلب النابض لمدينة مستغانم أكبر نسيج عمراني مصنف ومحمي داخل المدن على المستوى الوطني، بمساحة تقدر بـ 103 هكتار، ويضم قصبة مستغانم «تيجديت» والحي العثماني «الطبانة» والحي التجاري «الدرب» والمطمر وأسوار المدينة القديمة وجزء من المدينة الحديثة.
هذا وتحرص السلطات المحلية على تسجيل مشروع إعادة ترميم معالم قصبة مستغانم التي تضم العديد من الأحياء العتيقة والحفاظ على الموروث الثقافي والسياحي، نظرا لما تحوزه من منشآت ذات بعد تاريخي وعمراني، كما تعد معلما وشاهدا على الحقبة التاريخية الإسلامية والعثمانية، مع احترام أحكام المخطط الدائم لحفظ واستصلاح القطاع المحفوظ بالمدينة.
والمشروع جاء بعد مناقشة مخطط العمل للقضاء على مشكل البنايات الفوضوية بالحي العتيق والحفاظ على المنطقة كموروث ثقافي وسياحي هام، بالتنسيق  مع جمعيات وأعيان وباحثين من حي تيجديت العريق.
في سياق متصل، كان لجمعية النادي الفكري المستغانمي وشخصيات مهتمة بالتراث لقاء خاص مع والي الولاية عقب تداول أخبار مغلوطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تشير إلى هدم معالم أثرية وثقافية بحي تيجديت العتيق، على خلفية عملية ترحيل قاطني السكنات الهشة والفوضوية المقامة بالمنطقة، حيث فنّدت السلطات المحلية هذه الأخبار المغلوطة والإشاعات المغرضة، مؤكدة حرصها الشديد على العناية بالقطاع المحفوظ لولاية مستغانم وعدم المساس بأي معلم تاريخي أو اثري، والعملية جاءت في إطار القضاء على السكنات القصديرية المحيطة بالقطاع المحفوظ، التي شوهت الطابع العمراني للمدينة العتيقة، التي تبقى كنزا أثريا وتاريخيا تحرص السلطات على العناية به وترقية أبعاده التاريخية، الثقافية والسياحية.
هذا وأكّد أعضاء جمعية النادي الفكري المستغانمي على أهمية المحافظة على المعالم الأثرية ضمن عمليات الإسكان والترحيل، وإنجاز منشآت تعبر عن الطابع التاريخي المعماري للمعالم الأثرية.

تهيئة القصبة أولوية

من جهته، أشار مدير الثقافة والفنون الدكتور محمد مرواني، إلى أن المدينة العتيقة لمستغانم التي تضم أربعة قطاعات محفوظة، محددة ضمن جهات معنية داخل القطاع المحفوظ من «محور طبانة وتيجديت إلى السويقة والمطمر والدرب وعين الصفراء، وعدد من المناطق الأخرى المصنفة تعتبر من أهم المعالم الأثرية المادية الموجودة بالمدينة التي نوليها اهتماما خاصا، وسنعمل على إعادة مكانتها الحقيقية».
وأضاف المتحدث، أن هذه المناطق والمعالم الأثرية تختزن تاريخا ثريا لحضارات تعاقبت على المدينة، وبحكم إطلاق دراسات سابقة لتجسيد مشاريع ترميم وتهيئة لمدينة مستغانم العتيقة، تم إعادة بعث العملية مؤخرا تبعا للقاء الذي عقد والي الولاية مع عدد من نشطاء العمل الجمعوي والمشتغلين على الملف.
وأكد مدير الثقافة والفنون، على الشروع في إعداد ملف كامل لوزارة الثقافة والفنون يخص مشروع ترميم وتهيئة المدينة العتيقة، وقد تم استكمال العملية بشكل نهائي على مستوى مصالح ولاية مستغانم.
في ذات الصدد، أشار ذات المسؤول إلى رؤية القطاع على المستوى المحلي في إدارة ملف التراث المادي وغير المادي بالولاية، والتي ترتكز على ثلاثة محاور أساسية بداية بتوسيع الاستشارة مع الباحثين والمختصين لتقديم دراسات ومعطيات دقيقة محينة عن كل المعالم الأثرية الموجودة بالولاية، وهذا من خلال إطلاق عدد من اللقاءات التشاورية في الموضوع، بعد تجاوز الوضعية الوبائية.
أما بالنسبة للمحور الثاني، فيرتكز على الدفع بتجسيد مشروع يخص ترميم وتهيئة المدينة العتيقة، عبر إعداد بنك معطيات وأعمال سمعية بصرية توثق كل حيثيات وخصوصيات القطاع المحفوظ بالولاية واحتياجاته الراهنة.
في حين يخص المحور الثالث، خلق المسلك السياحي الثقافي للمدينة وجعلها قطبا ثقافيا وسياحيا بامتياز، بالتعاون مع قطاع السياحة، وإشراك وسائل الإعلام في عملية الترويج لهذا الجانب الاستراتيجي والهام للمدينة العتيقة، يضيف ذات المتحدث. وعليه ستسمح دراسة مخطط حماية وترميم هذا الموقع التاريخي بتحويل قصبة مستغانم مستقبلا إلى قطب سياحي بامتياز، وفضاء يجمع المعالم وعادات وتقاليد أهل المنطقة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024