انطباعلت

دردشة عن جامعة .. لم تعدْ جامعة

دكتور مُحيي الدين عميمور
01 أوث 2020

 

 

 

الحلقة الأولى

 
عواصم المغرب العربي على وجه التحديد تغلي في هذه الأيام بالتفاعلات المُستجدة المرتبطة بأحداث ليبيا وتداعياتها وبعض تحالفاتها المشبوهة، والتي دشنتها بالأمس القريب زيارة خبيثة قام بها «برنارد ليفي» لمناطق في أرض الجوار الملتهبة، كل هذا والجامعة العربية في «الحمّام»، على رأي عادل إمام (وهو التعبير المؤدب عن دورة المياه).
ومواقع التواصل الاجتماعي «العربية» ملتهبة بالتعليقات حول استرجاع مسجد «أيا صوفيا»، الذي انتزعه النظام الأتاتوركي ليُحوّله إلى متحف في منتصف الثلاثينيات، واليونان تكاد تعلن الحداد، والبابا لا يخفي غضبه، وساويرس (الذي خدعنا به في قضية «جيزي») يهدد بالويل والثبور، ولا يصدر أي ردّ فعل عن الجامعة التي تضم 21 بلدا مسلما، ولم أقل 22 لسبب واضح.

ولا زالت الجامعة في الحمام
والوطن العربي، كبقية الإنسانية، يعاني من جائحة وبائية لم تعرفها العصور الحديثة، وكان من أول متطلباتها مرجعية عامة يصغي لها الجميع، حكاما ومحكومين، لكن الجامعة لا تزال في الحمام.
ترتفع صرخات في العديد من مناطق الشمال الإفريقي متبنية أفكار الصهيوني «جاك بينيت»، تنكر الانتماء العربي الحضاري لمنطقة تحملت طلائعها شرف نقل الإسلام إلى الغرب، بعيدا عن أي منطق عرقي ومسترشدة بقول سيد المرسلين عن العربية، والجامعة العربية لا تزال في الحمام.
لقد ترددت كثيرا قبل الكتابة عن المؤسسة التي تحمل اسم جامعة الدول العربية، والتي تعتبر أقدم منظمة دولية قامت بعد الحرب العالمية الثانية، بل وقبل منظمة الأمم المتحدة بشهور، والتي تحولت في السنوات الأخيرة على وجه التحديد إلى مهزلة سياسية تثير الإشفاق والرثاء، وأصبحت أراها، كاتحاد المغرب العربي، مؤسسة يجب أن نتعامل معها من منطق أن إكرام الميت هو الإسراع بدفنه.
ثم حدث ما جعلني أعيش، في لحظة واحدة، شعورين متناقضين، وكان ذلك عندما سمعت بنبأ تعيين الجزائري حسن رابحي في الجامعة العربية، كان أولهما إحساس بالغيظ لأن المنصب أصغر بكثير من كفاءة الديبلوماسي الجزائري والوزير الأسبق، وكان الشعور المتناقض معه هو أن الجزائر أثبتت مرة أخرى عفتها وعلوّ همتها وبعدها عن اللهفة والجشع والشراهة واللهفة لافتكاك أعلى المناصب في المؤسسات الدولية.
ولم تكن لديّ فرصة طرح التساؤل على المعني الأول بهذا الأمر الذي أعترف بأنني أتناوله بشكل شخصي أتحمل وحدي فيه مسؤولية كل كلمة وكل تعبير.
وللعلم، كان آخر جزائري شغل منصب الأمين العام المساعد المكلف بالشؤون السياسية هو المرحوم أحمد بن حلي، حيث كان الرجل الثاني في المبنى المطل على النهر الخالد، واستغلت التيارات «الفاعلة» في المؤسسة صفته «الجزائرية» لتمرير الكثير من المواقف، مما جعله هدفا لانتقادات كثيرة ولهجومات بالغة القسوة، خصوصا من الصحفي الراحل محمد تامالت.
والأمناء المساعدون هم 12 موزعون كالتالي بحسب «الجنسيات»:
- رئيس مكتب الأمين العام بدرجة أمين عام مساعد: مصري
- أمين عام مساعد للأمن القومي العربي: مصري
- أمين عام مساعد لقطاع الشؤون السياسية الدولية: سعودي
- أمين عام مساعد لقطاع الشؤون الاقتصادية: سوداني
- أمين عام مساعد لقطاع الشؤون الاجتماعية: مغربي
- أمين عام مساعد لقطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة: فلسطيني
- أمين عام مساعد لقطاع الشؤون القانونية: بحريني
- أمين عام مساعد لقطاع الإعلام و الاتصال: أردنية
- أمين عام مساعد لقطاع الشؤون الثقافية والمجتمع المدني: عراقي
- أمين عام مساعد لقطاع الشؤون الإدارية و المالية: كويتي
- أمين عام مساعد لقطاع الرقابة المالية: موريتاني
- أمين عام مساعد لصندوق المعونة الفنية: وهو منصب السيد رابحي.
ولا بد للأمانة من الاعتراف بأن هذا المنصب، والمختص في معونة الدول الإفريقية، كان يمكن أن يكون رباطا استراتيجيا مع القارة الإفريقية التي ضاع النفوذ العربي منها مع غياب رجال من نوع هواري بو مدين وجمال عبد الناصر ثم القذافي قبل 1978، لكن انعدام الإمكانيات ووجود خلافات حول بقاء المنصب جعلته موقعا هزيلا مرشحا للإلغاء، خصوصا بعد أن تقزّمت العلاقات العربية الإفريقية وتنمّر العدوّ الصهيوني، وأصبحت مصر تقف وحدها في معركة سد النهضة، بعد أن انهار التضامن الإفريقي الذي عرفته في 1973.
وهنا يمكن أن يتصور البعض تراجع مكانة الجزائر في الجامعة ووجود إرادة في تحجيم الوجود الجزائري، وسواء كان ذلك لهدف غير معلن، مرتبط بدعوة الجزائر لإصلاح الجامعة العربية بما يتناقض مع بعض المطامح أو المطامع، أو بخلفية معينة قد تعكس نوعا من البساطة، جعلتني أسترجع أول علاقة لي بهذه المؤسسة في بداية الخمسينيات.
يومها كنا مجموعة من الطلبة نتلقى العلم في القاهرة بفضل الرعاية التي كانت تمنحها الحكومة المصرية لمن كان يطلق عليهم آنذاك «الطلبة الشرقيون»، وهو ما يجب أن يُذكّر بفضل مصر على معظم الطلائع العربية التي تصدرت الساحة العربية في العقود التالية، وهو أيضا ما يعطيني الفرصة لأذكّر بأفضال ممثل الجزائر في مصر آنذاك الأستاذ الشاذلي المكي على كل الجزائريين هناك.
يومها ذهب أحد رفاقنا وهو المرحوم مولود قاسم، شاكيا إلى الأمين العام المساعد للجامعة العربية في مبناها القديم في شارع، أعتقد أنه كان يُسمّى شارع البستان، بالقرب من ميدان باب اللوق الشهير.
كنا آنذاك نحاول، بجُهْد المُقلّ، أن نستنفر المشاعر العربية تجاه ما يعانيه الشعب الجزائري تحت الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وراح مولود يشكو للسيد «علي نوفل» ما يعانيه الجزائري في وطنه وعلى أرضه، وقال له من بين ما قاله: تصوّر يا بيه، أنا حُرمت من جنسيتي ومضطرّ لأحمل جواز سفر فرنسي، ويقول له نوفل، ببساطة الموظف البيروقراطي البعيد كل البعد عن واقع المعاناة العربية: عندك باسبور فرانساوي ؟؟ ...يا بختك يا أخي (عندك الزّهَرْ).
في تلك المرحلة، وبفضل مصر «الملك» فاروق، رعت الجامعة افتتاح مكتب حمل اسم مكتب المغرب العربي، كان من بين أهم رجاله الجزائري الشاذلي المكي، والتونسي الحبيب بو رقيبة والمغربي علال الفاسي، وكان الجميع ينشطون تحت لواء الأمير عبد الكريم الخطابي، المناضل البربري العظيم.
وقد تعمدت أن أشير إلى هذه الصفة للأمير وأنا ألاحظ اليوم أن هناك من أصبح يجاهر برفض الانتماء العربي للمغرب الخماسي، برغم أنه عاجز على أن يثبت انتماء أجداده الجغرافي لكل الشمال الإفريقي، من سيناء إلى الأطلسي.
وهكذا سمعنا مؤرخا يستنكر استعمال صفة «العربي» للمغرب (وهو نفسه الذي قال بأن سبب تعثر مسيرتنا هو تقديسنا للثورة الجزائرية، وقُمتُ بالردّ عليه يومها مُعبّرا عن دهشتي من أن مثقفا لا يعرف الفرق بين التقديس والتمجيد، فالتقديس لكل ما هو إلهيّ والتمجيد لكل ما هو بشريّ).
ولقد أورد الأستاذ مصطفى نويصر رد الدكتور بلقاسم محمد على البروفيسور القافز، الذي زعم بأن مصطلح المغرب العربي ظهر سنة 1940 على يد «المشرقي» ساطع الحصري، بأن تسمية المنطقة في العصر الحديث بالمغرب «العربي» تعود إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ويبدو أن أول من استعملها هو الشيخ ابراهيم اطفيش، (وهو جزائري من غرداية كان من أعمدة دار الكتب المصرية إلى جانب توفيق الحكيم) واستعملها الصحفيان الطيب بن عيسى ( تونسي، جزائري الأصل) و عمر بن قدور ( جزائري) للتفرقة بينه وبين المشرق العربي.
والمؤكد، كما يقول بلقاسم، أن الشيخ سعيد الزاهري (الجزائري) استعمل مصطلح المغرب العربي سنة 1929، وشاع استعمال المصطلح خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، فأصدر حمزة بوكوشة (الجزائري) جريدة باسم « المغرب العربي» سنة 1937.
ومواطنو مغرب طنجة بصفة عامة والجزائريون بصفة خاصة كانوا لا يفرقون بين «العروبة والوطنية والإسلام»، ومفهوم العربي أو العربية أو العروبة كان مفهوما حضاريا لا عرقيا !،  وتسمية «العربي» أو «آعراب» التي تعني «المسلم» ، كانت شائعة في كل منطقة المغرب العربي، بما في ذلك منطقة المؤرخ المدّعي.
والفرنسي كان يشيرُ لأي قادم من الشمال الإفريقي بأنه «عربي» (بيكو).
وغريب أن يجهل من يحمل صفة مؤرخ أن «ساطع الحصري» ليست له أية علاقة بالمنطقة في الفترة التي يشير إليها، ويبدو أنه يخلط عامدا بين الحصري (الذي ارتبط اسمه بمفهوم القومية العربية) وأمير البيان «شكيب آرسلان»، صاحب مجلة «الأمة العربية»(La nation arabe)  الصادرة سنة 1930، والذي زار المنطقة الشمالية من بلاد مراكش (طنجة و تطوان) في نفس السنة التي أصدر فيها مجلته، والمعروف أن شكيب أرسلان هو «عربيّ» قومي من تيار الجامعة «الإسلامية»، ومن ثمة فقوميته قومية حضارية مرتبطة بالإسلام وليست قومية عرقية، ومعروف أن الزعيم الجزائري مصالي الحاج كان من أقرب المقربين لأمير البيان، خصوصا بعد أن صدمته التوجهات الشيوعية بمنطقها البروليتاري المنسجم ضمنيا مع النزعة الاستعمارية الفرنسية، وكان ذلك هو سرّ سخط البعض عليه، منذ الأربعينيات.
وربما كان إيمان مصالي بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي وراء الأزمات المفتعلة التي كانت ترفع، متناقضة معه، شعار «الجزائر الجزائرية»، في حين ليس هناك وطن ينتسب لجغرافيته وحدها، ولم نسمع عن فرنسا الفرنسية وبريطانيا الإنجليزية وإيطاليا الإيطالية ومصر المصرية.
لكننا، كشباب في مطلع ربيع العمر، لم نكن نعيش كل هذه التناقضات، ورشحنا لتمثيلنا في لقاء الشباب العربي المسلم في مصر عام 1955 المناضل حسين آيت أحمد، وأتذكر أنني، وأنا أعرف مولود قاسم منذ 1951، لم «أكتشف» انتماءه «الجغرافي» إلا بعد منتصف الستينيات، وبطريق الصدفة.
من هنا كان التفافنا حول مكتب المغرب العربي، وارتباطنا العاطفي بجامعة الدول العربية، ولم نتوقف كثيرا عند «كل» ما كانت المنطقة تواجهه، من جهة لأن معظمنا كان في سن لا تمكنه من استيعاب كل المعطيات، ومن جهة أخرى لأن الإمكانيات المالية لم تكن تسمح لنا بمتابعة كل ما يصدر عن المنابر الإعلامية الدولية، ومصادر المعلومات في عين المكان كانت محدودة و»موجّهة».
لكننا، مع مرور الأيام وتتابع الشهور وتوالي السنين وتراكم النكبات والنكسات وصلنا إلى اليقين بأن جامعة الدول العربية كانت سرابا يحسبه الظمآن ماء.
يتبع

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19473

العدد 19473

السبت 18 ماي 2024
العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024