رغم التحاقي بجريدة “الشعب” قبل نحو ثلاثة عقود، فإنّ زمالتي لم تتوطّد بالصّحافي الرّاحل عبد الجليل جلالي، إلاّ مع بداية سنة الألفين عندما تمّ تكليفه برئاسة القسم الدّولي، وكنت أنا العنصر الوحيد في هذا القسم رفقة الأستاذ عبد القادر بوطيبة، وقبل ذلك كان عبد الجليل بالنسبة إليّ ذلك المسؤول الذي تحيطه هالة كبيرة مستمدّة من تولّيه لمنصب رئاسة التّحرير لمّا كانت”الشعب” الجريدة الوحيدة النّاطقة بالعربية، ومعلوم أنّ رئيس التحرير في بداية مشوارنا المهني، كانت له هيبة لا حدود لها ما يجعل مجرّد الحديث إليه، حدثا بحدّ ذاته، وإن صادف وأثنى على عملك، فذلك يعتبر عيدا لنا نحن الصّحافيّين الشباب. كما استمدّ عبد الجليل هذه الهالة والهيبة من تمرّسه ونبوغه في مجال الإعلام والكتابة الصّحافية، حيث كان من أبرز الأقلام التي كانت تزخر بها الجريدة وأكثرها عطاءً، ولم يستثن نوعا صحافيا إلاّ وبرز فيه، خاصة الحوارات مع كبار الشّخصيات الدولية والمسؤولين الجزائريّين، وقد كان يردّد عليَّ أسماءهم واحدا واحدا وكلّه سعادة وفخر، وإن كانت الذّاكرة تخونني الآن عن ذكرهم جميعا، فإنّني أذكر أنّه حظي بحديث طويل مع الزّعيم الفلسطيني الرّاحل ياسر عرفات، كما حاور رؤساء حكومات ووزراء وغيرهم.
ولعبد الجليل أرشيف كبير من الصّور، يوثّق هذه الحوارات وأيضا مسيرته المهنية الطّويلة والثرية، وقد اطّلعت عليه وهو بالفعل يعكس بأنّ عبد الجليل لم يكن مجرّد رقم في طاقم “الشعب” لحوالي أربعة عقود، بل كان بالفعل صحافيا ذا كفاءة نادرة، قدّم ما كان يجب عليه أن يقدّمه بأمانة، وبحرص شديد على الجدية والجودة، وأشهد أنّه حتى آخر أيّامه في الجريدة، وهو في عقده الستين واصل القيام بمهمّته بنفس الرّيتم، ولم يمنعه عن ذلك حتى متاعبه مع مرض السكري، فتراه يتابع الأحداث بعين النّاقد، يقرأ خلفياتها وأبعادها، ويتحكّم بمفاتيح مستجدّاتها والأكيد أنّ عملي معه في نفس القسم أفادني كثيرا، أوّلا من حيث المعلومات، فهو متابع مخلص للحدث الدولي كما الوطني بأدقّ تفاصيله، وبالنظر إلى أنّه كان أكثر خبرة وتجربة وحتى سنّا، فتوجيهاته كانت دروسا حفظتها وأنا ألتزم بها الآن في أداء مهمّتي، فهو يدقّق في مصدر الخبر ولا يتقصّاه من جهة واحدة، يحلّل الحدث باقتدار وكتاباته شاهدة على ذلك، وحتى العناوين فهو يوليها أهمية كبيرة، لأنّه كما كان يقول “هي أوّل ما يلفت نظر القارئ ويجذبه لقراءة الخبر أو المقال”.
١٣ سنة اشتغلنا أنا وعبد الجليل في قسم واحد، وقد شهدت هذه الفترة أحداثا دولية زلزلت كيان العالم (إنتفاضة الأقصى ٢٠٠٠، تفجيرات ١١ سبتمبر، غزو أفغانستان ٢٠٠١، غزو العراق ٢٠٠٣ حرب تموز على لبنان ٢٠٠٦، حرب غزة ٢٠٠٨، الرّبيع الدّموي)، ورغم ظروف العمل الشّاقة، فإنّ عبد الجليل كان يؤدّي المهمّة بإخلاص، وفي كثير من المرّات كان يعود إلى مقر العمل في آخر المساء لمتابعة المستجدّات، وقد يضطر إلى تغيير الصّفحات كلّها (فالدولي لم يكن محصورا في صفحة واحدة) دون أن يشتكي إلاّ من ممارسات بعض مسؤولي الجريدة آنذاك الذين منعوه بعض حقّه كما كان يردّد. ولعلّ من أبرز إنجازات الرّاحل عبد الجليل التي توّج بها مشواره المهني، هو ملحق “الشعب الدّبلوماسي” الذي يعالج الحدث الدولي بمستوى إعلامي رفيع.
الأب المثالي
الزّميل عبد الجليل جلالي، لم يكن الصّحافي المقتدر فقط، بل كان الأب المثالي الذي تراه يخدم أبناءه برموش عينيه، وقد حرص على تعليمهم في أرقى مدارس العاصمة، ولم يدّخر جهدا أو مالا في سبيل أن يوفّر لهم الأفضل، وأخشى أن يكون لغيابه تأثير على حياتهم باعتباره كان حاضرا بقوّة فيها. لكن وإن كانت المنيّة لم تمنحه الفرصة ليكمل معهم المشوار، وليرى أبناءه يتخرّجون من جامعاتهم، فالأكيد أنّه وضعهم على السكة وحتما سيحقّقون أحلامه، وستصبح “سارة” طبيبة ماهرة و«آية” عالمة في الدّين كما قالت لي ذات مرّة، و«محمد” ناجحا في المجال الذي سيختاره.
ولا يبقى في الأخير إلاّ أن أدعو له بالرّحمة ولأبنائه بالنّجاح.