يرصد البحث العلمي، الدكتور سعيدي:

غيـاب رؤيـة واضحة وعـراقيل لا تنتـهـي

حوار: سارة بوسنة

في حوار خصّ به «الشعب» تحدّث الدكتور سعيدي علاء الدين رئيس الاتحاد الوطني للدكاترة والباحثين الجزائريين عن اشكالية البحث العلمي في الجزائر واهم المعوقات التي تعترض الباحثين،ولفت الى ان غياب مصادر المعلومات تعتبر من العراقيل الكبيرة التي تواجه الباحث، مؤكدا ان مواكبة الجامعات للتطوّر العلمي والتكنولوجي حتمية لابد منها.

واكد ان سياسة البحث العلمي في الجزائر تكتنفها الكثير من الاختلالات نتيجة غياب رؤية واستراتيجية وطنية واضحة في هذا المجال.


«الشعب»: هل يمكن تقديم عرض حال عن واقع البحث العلمي في الجزائر قياسا للظروف الحالية؟
سعيدي علاء الدين: ان المتابع لواقع البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات البحثية الجزائرية سيلاحظ عدة ثغرات واختلالات تكتنف سياسة البحث العلمي في الجزائر، الأمر الذي أثّر أيّما تأثير على القيمة العلمية للبحوث ذاتها.
فالبحث العلمي في الجزائر في مجمله يعيش حالة من التيهان، والبعد عن الواقع، ولا يرتقي الى ان يكون الدافع والمحرّك لعجلة التنمية الشاملة في الجزائر، حيث نلتمس انعدام رؤية واستراتجية واضحة المعالم، تربطه بواقعه الاقتصادي والاجتماعي. كما أن جل المواضيع البحثية لا تخدم متطلباته وليس لها علاقة مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاش، ومعلوم أن من ضروريات البحث العلمي الاصالة العلمية وربط مخرجاته مع المحيط الاقتصادي والاجتماعي المعاش، وهذا ما جاء به القانون الاساسي للبحث العلمي الصادر في سنة 2015، الذي يتناول هذه الجزئية بالتفصيل. وعليه وبصفة عامة نقول ان البحث العلمي يعيش حالة من التذبذب والتيهان نتيجة لعدة اسباب، تجعله لا يرقى الى الطموحات المنشودة منه لقيادة قاطرة التنمية والتطوير لجزائر الغد.
ويمكن ارجاع مشاكل البحث العلمي في الجزائر الى نقاط أساسية وهي:
غياب رؤية وإستراتجية وطنية واضحة، يتمّ تحديدها حسب حاجيات ومتطلبات واولويات كل قطاع من القطاعات الإستراتجبة.
 ويترتب عن غياب الرؤية الوطنية للبحث العلمي، تيهان لبوصلة البحث وهذا ما ينتج عنه ظهور دراسات ليس لها علاقة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاش، في حين ان من مهام واولويات البحث العلمي، ايجاد حلول لمشاكل معينة وربطها مع متطلبات المحيط الاقتصادي والاجتماعي.
 أغلب الدراسات التي تهتم بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، إن وجدت، سواء في الملتقيات العلمية او في المخابر والفرق البحثية واطروحات الدكتوراه، لا يتم الأخذ بتوصياتها من قبل الجهات المعنية وتظل حبيسة الادراج والمكتبات، وهذا لغياب ثقافة العلمية في الجزائر.
تراجع الثقافة العلمية، وعدم تثمين البحوث المقدمة من قبل الباحث الجزائري، يؤدي الى قلة الجدية في البحث والرغبة فيه، وإلى ظاهرة هجرة الادمغة الى خارج الوطن.

- ما هي الأهداف المتوخاة من البحث العلمي في الجزائر؟
يعد البحث العلمي ركنا أساسيا من أركان المعرفة الإنسانية، والسمة البارزة للعصر الحديث، وقد أدركت الدول المتقدمة أهميته وأنه لا مناص لها منه من أجل الرقي والتقدّم، فأولت اهتماما بالغا بالقدرات العلمية والفكرية والسلوكية لأبنائها، هذا ما جعل العالم يشهد تطورا تكنولوجيا سريعا وكبيرا في الوقت نفسه، نتيجة الحركية الكبيرة التي تشهدها نظم البحث العلمي عبر مختلف الدول. فالاهتمام بتطوير البحث العلمي أملته مستجدات الساعة، كون العالم يتحوّل ويتحرّك بسرعة فائقة، وأصبحت مسايرة عصر ما بعد الحداثة ضرورة ملحة لمواكبة التطوّر التكنولوجي الذي تعيشه المعمورة. والجزائر ليست بمنأى عن هذا التطوّر، لقد أضحى من الأهمية بمكان، الاهتمام بتطوير البحث العلمي والتكنولوجي، بما لهما من ارتباط وثيق بالتعليم العالي وبالمحيط الاجتماعي والاقتصادي، فهذه الأهمية والاهتمام هما وليدا التحولات السريعة التي يشهدها عالم اليوم، والتي لا مناص من مسايرتها والاستفادة منها.
 ولذلك بات من الضروري أن تتماشى منظومة البحث العلمي الجزائرية وتساير الركب الأمم المتقدمة تكنولوجيا للحدّ من الفجوة التكنولوجية الفاصلة بين الدول المتقدمة وتلك التي هي في طور النمو. ووجب إدماج نظام البحث العلمي في منظومة التنمية الشاملة، وذلك بالعمل على توفير التوجيه والمرافقة لإنجاز بحوث ودراسات يمكن استغلالها في تحسين المحيط الاقتصادي وتحقيق التنمية في البلاد، ونقل نتائج البحث والمعرفة من النطاق الأكاديمي إلى العالم الاقتصادي والاجتماعي لتعزيز مساهمة البحث العلمي في الاقتصاد الوطني، والمساهمة في تحديد مواضيع الأبحاث العلمية وفقا للاحتياجات الوطنية ووفقا لما تحتاجه سوق التشغيل لتمكين المتخرجين من الحصول على مناصب عمل بعد تخرجهم، هذا أمام تحديات التقليص من التبعية الغذائية للخارج، وتعزيز تنافسية الإنتاج الوطني وتطوير الطاقات المتجدّدة، باعتبارها أمثلة عن المجالات التي يمكن فيها للباحثين المساهمة في انعاش حركية البحث العلمي والتطوير التكنولوجي.
 ومواءمة الأهداف العلمية مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للتنمية، وتجنيد الأسرة العلمية وهيكلتها في إطار كيانات البحث التي أقرها القانون، إضافة إلى تحسين جهاز التمويل حسب الأهداف.

- يواجه الباحث صعوبات منها ما يتعلّق بعزلته وما تنتج من بحوث مجزأة وغير متكاملة ومنها ما يتعلّق بعراقيل بيروقراطية تضاف إلى بيئة مجتمعية تتسم بضعف الثقافة العلمية، ما رأيكم؟

إضافة الى ما تمّ التطرّق إليه أعلاه من مشاكل يعاني منها البحث العلمي بصفة عامة في الجزائر، هناك عدة صعوبات تواجه الباحث نفسه، والمتعلقة أساسا، في عدم وجود رؤية استراتجية للبحث العلمي في الجزائر، فنجد الباحث يسعى جاهدا من أجل تقديم دراسات ميدانية وحلول للمشاكل في العديد من المجالات وعلى كافة الأصعدة، لكن لا يتمّ الأخذ بها من قبل الفاعلين سواء كانت تهم القطاعين العمومي او الخاص، وهذا ما يترتب عنه عدم تثمينها.

- يلاحظ تمايز التخصّصات في الوقت التي تتجه دول نحو تعدّد التخصصات، كيف يمكن توجيه البحث العلمي نحو تجاوز التخصصات «ما فوق التخصص’’ حيث تجد العلوم الاجتماعية مكانته؟
إن الظواهر الاجتماعية الحديثة تتمير بالتركيب والتداخل والتعقيد، لذا تذهب الدراسات الحديثة الى الاعتماد على منهاج المتعدّد التخصصات لدراسة هذه الظواهر المركبة والمعقدة، فلدراسة مشكل اجتماعي معين مثل آفة المخدرات او الهجرة غير الشرعية او البطالة يتمّ توظيف عدة تخصصات من علم اجتماع الى علم النفس الى علم النفس الاجتماعي الى الاقتصاد الى السياسية الى القانون.. الخ. وفي الجزائر وبعد الاعتماد على النظام (ل. م. د) الذي يعتمد على التخصّص والتجزئة، اضافة الى غياب رؤية واضحة للبحث العلمي وما هو مطلوب منه بالتحديد، جعل من أغلب البحوث المقدمة مجزأة ومبتورة، تفتقد الى التكامل والشمولية والدراسة الكلية من مختلف الزوايا البحثية، وهذا ما يجعل نتائجها وتوصياتها ناقصة تحتاج الى تكملة. ومن هنا تمّ طرح فكرة الفرق البحثية المختلطة التي تجمع الباحثين في مختلف التخصصات لدراسة مشكل معين، مع إدماج كذلك ممثلين عن القطاعات المعنية بهاته المشكلة او الظاهرة الاجتماعية محل الدراسة، حتى يتمّ دراستها من كل الزوايا ومن مختلف النقاط.

- وماذا عن مصادر المعلومات، فغالبا ما تمتنع مؤسسات عن تقديم المعطيات اللازمة للباحث،كما أن معظمها يفتقد لنظام إحصائي؟
مصادر المعلومات تعتبر من العراقيل الكبيرة التي تواجه الباحث الجزائر، وهذا راجع كما تفضلتي الى لغياب كبير للأنظمة الاحصائية في معظم الادارات ومؤسسات الدولة، اضافة الى العراقيل البيروقراطية التي تعيق الباحث وتطيل فترة البحث، مما يؤدي الى التأخر في دراسة الظواهر الاجتماعية وايجاد حلول لها في الأوقات المناسبة، قبل تفاقمها، وعندما نتكلم هنا عن الانظمة الاحصائية وغيابها، نتكلم عن غياب الاستشراف لمستقبل الظواهر الاجتماعية، أو المؤسسات. وغياب الاستشراف يؤدي بالضرورة الى غياب الاستراتيجيات التنموية والحلول الموجهة لمختلف المشاكل المتوقّعة.

 - أصبح تقييم الجامعات واقعا في الوقت الحالي في مختلف الدول، غير أن بعض المتغيرات المستعملة فى التقييم طرحت للنقاش كي لا نقول تمّ الاعتراض عليها، أين تتموقع الجامعات الجزائرية من ذلك النقاش؟

رأينا حول تثمين البحث العلمي في الجزائر، يتماشي مع رأي البروفيسور عطار أحمد مدير مخبر الفينومينولوجيا وتطبيقاتها، وأستاذ بقسم الفلسفة بجامعة تلمسان.
 فبالإضافة لإدماجهم كأساتذة، نقترح فتح مناصب بحث لهم في المخابر بمرتب شهري افضل من الاستاذ الجامعي الذي يربط بعقود مؤقته أولا، مثلا، لمدة اربع سنوات تنتهي باختبار نتائج بحوثهم على لجان علمية. وفي حال نجاح مشاريعهم يوظفون على حسب اختيارهم كأساتذة في الجامعة أو يبقون كباحثين دائمين لهم نفس الاطار المهني للأستاذ الباحث مثل ما هو الأمر في الـ»كراسك»، علما أن المخابر تحوز على ميزانية تمكن من دفع أجورهم والتكفل بكل ما يحتاجونه من وسائل وخرجات علمية. ومنها ندفع بعجلة «البحث العلمي ونستفيد منهم ويتكونون في البحوث الحرة ويمكن الاستعانة بهم كذلك في المخابر للمرافقة «التيتورا» ومرافقة الطلبة في الدراسات العليا، تدريس الساعات الاضافية، طلبات الخبرة... الخ.
اضاقة الى هذا يستفاد من بحوثهم لحلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيداغوجية بسلسلة من البحوث تخدم كل قطاع كما يمكن احداث مناصب في المخبر برتب مدير مركز بحث، باحث رئيسي.. الخ، ليصل الى مدير مخبر وننزع الاساتذة من هذه المناصب، والاطار القانوني موجود في الجريدة الرسمية، الاستاذ الباحث والمال يقتطع من ميزانية المخابر ومشاريع البحث وميزانية «التيتورا» وغيرها كثير من المشاريع البحثية سارية المفعول.

- شدّد مخطط عمل الحكومة على تنويع طرائق التعليم الجامعي وإطلاق أنماط جديدة للتكوين مواكبة لاحتياجات التنمية ومسايرة للتطوّر العلمي والتكنولوجي؟

المشكل حسب رأيي ليس في تنويع طرائق التعليم، لكن ذلك سيساعد حتما العديد من الفئات من الطلبة ويمكنهم من التقدّم في مسارهم الجامعي والمهني في نفس الوقت.
أما بخصوص مواكبة احتياجات التنمية ومسايرة التطوّر العلمي والتكنولوجي، فهذا الأمر أصبح حتميا لابد منه، لأنه من المفروض كان على القائمين على القطاع الاهتمام بهذا المحور وتطبيقه في اللحظة التي تمّ تطبيق النظام الجديد «ل م د»، لأن فلسفة هذا النظام تقوم على مسايرة التطور التكنولوجي والعلمي، وتلبية احتياجات المحيط الاقتصادي والاجتماعي وسوق الشغل.
ونتيجة لهذا «الاهمال» المتواصل لهذا المحور بالذات، لا زلنا نجد تخصّصات لا تواكب التطورات الحاصلة، ولا يحتاجها سوق الشغل، فأصبحنا أمام تفاقم ظاهرة البطالة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024