الباحث في التاريخ فوزي مصمودي لـ «الشعب»:

نحتــاج إلى مسرح يواكـب حركيـة المجتمع الجزائـري

حوار: حبيبة غريب

 لا يكتب الذّاكرة سوى من تشبّع بحبّ الوطن

تعتبر كل من الكتابة الأدبية والفن الرابع والسابع من الروافد الداعمة لتاريخ وذاكرة وهوية المجتمعات، والرابط المتين بين الماضي والحاضر والحافظ الأمين لمحطات ومواقف وبطولات المقاومة الشعبية لأجيال المستقبل.
من خلال هذا الحوار الذي خص به الأستاذ فوزي مصمودي باحث في التاريخ ومدير المجاهدين وذوي الحقوق لولاية الوادي «الشعب»، نسلط الضوء على مساهمة الكتابة الأدبية والمسرح والسينما ودور المثقفين والفنانين الجزائريين  في التعريف  بتاريخ الجزائر الثوري وبمعارك البناء والتشييد التي تخوضها الجزائر مند استقلالها في 5 جويلية 1962 في ظل المتغيرات التي يشهدها العالم اليوم.


-  الشعب: يُحتفى بأمجاد الجزائر وبالمقاومة الشعبية في كل مناسبة وطنية، من خلال عروض فنية ومسرحية توظف فيها الكثير من الإمكانيات البشرية والمادية، لكن لا يكون لها وقع على أوسع نطاق، ما هو رأيك؟ وكيف يمكن التغيير إلى الأحسن؟
 الباحث فوزي مصمودي: أعتقد أن رصيدنا المكتبي الخاص بمنجزات أدبية وفنية تؤرخ لذاكرتنا الوطنية، وتوثّق لماضينا المجيد غني بمادة خام وثري بمحتواه، خاصة أن الذين جادت به قرائحهم قد عاصر الكثير منهم فترة الاحتلال الفرنسي، فوثقوا معاناة شعبهم وآلام وآمال بني قومهم وتطلعاتهم، فعبروا عنها بدمائهم ودموعهم، من خلال القصيدتين العمودية والشعبية والأغنية الثورية والمسرحية النضالية والقصة الهادفة وحتى الرواية، رغم قلة المنجز في هذا الصنف الأدبي، بل أن نخبة منهم دفع حياته جراء هذا الإنتاج الأدبي والفني على غرار الشهداء الأدباء: أحمد رضا حوحو، محمد الأمين العمودي، مولود فرعون، العربي التبسي، عبد الكريم العقون، أحمد بوشمال، الربيع بوشامة، والفنان الشهيد علي معاشي...وغيرهم.
ثم جاء جيل الاستقلال من الأدباء والكتّاب والباحثين والفنانين المسرحيين الذين أغنوا المشهد الثقافي والفني بنصوص وكتابات وأعمال فنية تنبض حيوية وتشعّ وطنية، إلا أن هذا الرصيد لم يتم توظيفه كما ينبغي وبالصيغة التي تكون في مستوى تاريخ الأمة الجزائرية وذاكرتها الوطنية وعطاءاتها الحضارية.
باستثناء عدد قليل من هذه النصوص التي تم الاقتباس منها وتحويلها إلى أفلام تاريخية وأخرى وثائقية ومسرحيات وأغاني ثورية وأناشيد وطنية، ونماذج تٌعدّ على الأصابع في مجال الأوبرات..مما يستوجب التفكير الجدي والعلمي لتوظيف هذه المادة من خلال أعمال فنية راقية ورائدة  تتضافر فيها جميع الجهود، وتسخير كل الإمكانات المادية والبشرية والفنية، لاسيما من قبل وزارات: الثقافة والفنون، المجاهدين وذوي الحقوق، الاتصال، الديوان الوطني للثقافة والإعلام، المحافظة السامية للأمازيغية..والتشجيع العملي للمسارح الجهوية والمؤسسات الفنية الخاصة والجمعيات الجادة ومختلف وسائل الإعلام بجميع أنواعها.

- تمّ تسخير الكتابة الأدبية والفن في إنتاج عروض فنية توثق وتعرف بالذاكرة الوطنية، هل يمكن القول والجزائر تحتفي بستينية الاستقلال وعيد الشباب أن كل الجهود وظفت في هذا الاتجاه؟
 تسعى الدولة الجزائرية ومن خلال وزارة الثقافة والفنون ومؤسساتها تحت الوصاية وبعض الجمعيات المتخصصة، إلى بعث حركة المسرح في المجتمع لما له من أهمية بالغة في التأريخ لمسيرة الأمة وتبليغ رصيدها للأجيال، والإسهام في بناء الإنسان وتثقيفه وتربية ذوقه الفني والترفيه عنه وهذا من خلال إنشاء عديد المسارح الجهوية في كل من: سيدي بلعباس، مستغانم، بسكرة، باتنة، الجلفة، عنابة، سوق هراس، تيزي وزو، سعيدة..وغيرها إلى جانب المسرح الوطني، وبالرغم من التفاوت في مستوى أداء وعطاء هذه المسارح وفعالياتها، إلا أن العديد منها أثبت وجودة في مجال الفن الرابع من خلال فعاليات وتقاليد متميزة.
وقد شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إنتاج عديد العروض المسرحية والأوبرات التي مازالت عالقة في ذاكرة الجماهير الجزائرية، لاسيما التي تم عرضها عبر التلفزة الوطنية، باعتبارها أثقل وسيلة إعلامية في تلك الفترة، كما كانت مسارحنا وقاعات السينما تعج بالجمهور التذوق.
إلا أنه وللأسف الشديد ــ وكما ورد في سؤالكم ــ أن هذه الأعمال الفنية يغلب على الكثير منها طابع المناسباتية، لاسيما خلال الأيام والأعياد الوطنية وكذا التسرع مما يفقدها طابع الديمومة، ممّا يتوجب إعادة الاعتبار لأبي الفنون من خلال تطوير أداء المسارح الجهوية واختيار القائمين عليها بدقة، مع ضرورة التفكير الجدي لإدراج المسرح المدرسي ضمن المنظومة التربوية وإعادة بعث التمثيل الإذاعي وإيلاء الأهمية لمسرح الهواة الذي كان له حضور متميز، والاستفادة من تجارب الآخرين وخبراتهم، وقد تطرقتُ إلى هذه القضية بشيء من التفصيل في كتابي (المسرح ببسكرة..رحلة في الذاكرة) الذي سيرى النور قريبا بحول الله.

نقص الموارد المالية أضعف إنتاج أفلام الذّاكرة  والتاريخ

-  يفتقر المشهد الثقافي الوطني إلى إنجازات تكون من مستوى وقيمة الذاكرة الوطنية من أفلام ومسلسلات ووثائقيات، أين الخلل؟
 ما يؤسف عليه أن تاريخ الأمة الجزائرية يمتد إلى عصور سحيقة منذ مئات الآلاف من السنين، وتحديدا منذ العصور الحجرية البدائية القديمة، كما أن للشعب الجزائري إسهام مميز في بناء الحضارة الإنسانية، مرورا بما تعرض له من غزوات وحروب جائرة منذ الاحتلال الروماني إلى غاية الاحتلال الفرنسي الذي جُوبه بمقاومات شعبية مسلحة وملاحم بطولية خلدها التاريخ، لاسيما إبان الثورة التحريرية. ولذلك أحسنت قيادة الثورة بتوظيف السينما من خلال الأفلام الوثائقية التي قام بإخراجها أصدقاء الثورة من الفنانين، على غرار الفرنسي ريني فوتيه مخرج «الجزائر تحترق» عام 1958، وقبله فيلم «اللاجئون» للمخرج سييل كوجي عام 1956، و»هجومات الونزة» عام 1957، و»ساقية سيدي يوسف» عام 1958 للمخرج بيار كليمون..كما أنشأ جمال شندرلي ومحمد الأخضر حامينا خلية للإنتاج السينمائي بأمر من قيادة الثورة، وقد أنتجا مجموعة من الأفلام كان منها: «جزائرنا» و»بنادق الحرية»..
ورغم هذا التراكم التاريخي إلا أن ترجمة ذلك إلى أفلام رائدة ومسلسلات جادة ووثائقيات علمية ذات مصداقية، لم يرق إلى اليوم إلى عظمة هذا التاريخ باستثناء أفلام تاريخية رائدة رغم قلتها على غرار: أولاد نوفمبر، معركة الجزائر، دورية نحو الشرق، الخارجون عن القانون، بوعمامة، وقائع سنين الجمر، ريح الأوراس، ريح الجنوب، إلى جانب مصطفى بن بولعيد، كريم بلقاسم، العقيد لطفي، زبانا..؛ هذه الأخيرة التي قامت وزارة المجاهدين بإنتاجها، هذه الوزارة التي قامت بإنتاج عديد الأفلام التاريخية والأشرطة الوثائقية بإشراف شخصي من قِبل السيد وزير القطاع.
وربما يعود هذا التراجع في مجال إنتاج الأفلام والمسلسلات إلى حل الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينيموغرافية عام 1984 الرائدة في مجال إنتاج الأفلام التاريخية، ونقص الأغلفة المالية الموجّهة إلى هذه الأعمال، وأحيانا نقص التجربة والتكوين وطغيان الارتجالية وضعف التغطية الإعلامية.

-  عرف المسرح الجزائري الكثير من العروض الملحمية التاريخية، شارك فيها ممثلون وفنانون ومؤلفون من النخبة، ولم يُستفد منها كثيرا، هل هو مشكل برمجة أم غياب استراتيجية توزيع واستغلال لهذه العروض أم أمور أخرى؟
واكبت الجزائر المسرح المعاصر منذ بداية القرن العشرين لكن أوجّ عطائه كان في فترة العشرينيات إلى غاية الخمسينيات، حيث كان مسرحا رساليا ورافدا من روافد الحركة الوطنية وسلاحا نضاليا ضد غطرسة الاحتلال الفرنسي وممارساته اللاإنسانية، حيث شكل فضاء للتعبير عن آلام وآمال الشعب، وقد جسد هذا التوجه كل من: علالو، رشيد القسنطيني، باشطارزي، علي الشريف، رويشد، محمد الطاهر فضلاء..وغيرهم، على الرغم من ملاحقة إدارة الاحتلال لهؤلاء المسرحين والزج ببعضهم في السجون؛ على غرار المسرحي علي زويوش الذي زُج به في معتقل جنين بورزق بعين الصفراء خلال الحرب العالمية الثانية، وقتل بعضهم كالكاتب المسرحي الشهيد أحمد رضا حوحو، وحلّ بعض الفرق المسرحية والكشفية التي كانت تمارس المسرح.
وخلال الثورة التحريرية أدركت قيادتها أهمية أبي الفنون ودوره في توعية الجماهير وتعبئة أفراد الشعب والتعريف بالقضية الجزائرية العادلة فكان ميلاد الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني في أفريل 1958، والتي أنتجت عدت مسرحيات ثورية، مثل: نحو النور، أبناء القصبة، الخالدون، دم الأحرار، الجثة المطوقة..
وقد جابت هذه العروض المسرحية العديد من الدول العربية والصديقة، كالاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.. سابقا والصين ومصر وتونس والعراق وليبيا والمغرب الأقصى وغيرها..كما أسهم المسرح بعد الاستقلال مساهمة فعالة في مرحلة (البناء والتشييد) وفي عملية التنمية وإعادة بناء الإنسان الجزائري..
إلا أن هذا الرصيد يحتاج إلى توظيفه في إيجاد مسرح يواكب حركية المجتمع الجزائري وتطوره الحالي: مسرح يستجيب لمتطلبات الألفية الثالثة واحتياجات المرحلة..وهذا من خلال استراتيجية تراعي التطور الثقافي والاجتماعي والتربوي للإنسان الجزائري وترسم آفاقا مستقبلية وعملية لهذا الفن.

ليس بالضّرورة أن يكون كاتب سيناريو أو منجز النص المسرحي مؤرّخا أو باحثا

-  تستلزم كتابة سيناريو العروض الفنية والمسرحية التاريخية أبحاثا كثيرة وإلماما كبيرا  بالذّاكرة الوطنية، أو الاقتباس من إصدارات موثوقة في هذا المجال، هل هناك دراسات أكاديمية لهذه الأعمال الفنية؟
 لا يجب بالضّرورة أن يكون كاتب السيناريو أو منجز النص المسرحي مؤرخا أو باحثا متخصصا في التاريخ، ولكن أثناء حبكه لأعماله الفنية وتنسيق مشاهد السيناريو أو النص الذي سيُجسد على الرّكح لابد أن يعتمد على أبحاث رصينة ودراسات موثقة ذات مصداقية. وبعد إتمام عملية إنجاز هذه النصوص يجب أن تخضع في الأخير إلى مراقبة دقيقة ومراجعة حرفية من قبل مؤرخين وأكاديميين حتى يتم البث فيها قبل تجسيدها وعرضها، كما يجب على كاتب السيناريو أن ينطلق من روحه الوطنية وحبه لبلاده وتمجيدها.
وبمناسبة ستينية عيدي الاستقلال والشباب، وفي إطار حماية الذاكرة الوطنية وصونها، وتعريف الأجيال بملاحم المقاومة الشعبية وأداء الحركة الوطنية وبطولات ثورة أول نوفمبر 1954 المجيدة، معاركها، رموزها، قادتها وأبطالها وجهت مديرية المجاهدين وذوي الحقوق لولاية الوادي نداء للمجاهدين وأبناء الشهداء وأبناء المجاهدين وكافة أفراد الأسرة الثورية وكل الأساتذة والباحثين والمهتمين والمواطنين الغيورين على تاريخنا الوطني، من أجل إفادتنا بما لديهم من أشياء متحفية خاصة بثورة التحرير: (أسلحة، ألبسة، أدوات مختلفة، صور ووثائق أصلية أو مستنسخة..)، وتسليمها إلى مديرية المجاهدين أو المتحف الولائي للمجاهد مقابل وصل استلام وشهادة تقديرية تُسلم للمعني، على أن تحفظ هذه المقتنيات وتعرض في المتحف باسم صاحبها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024