الدكتور محـمد داود لـ "الشعب":

عــودة الرواية إلى التـاريخ تعــزّز روح الانـتماء

حاورته: حبيبة غريب

 الأدب الجزائري يتألق بقوة على الصعيد العربي

 توظيف النصوص الجيدة في السينما والمسرح كفيل  بحل أزمة السيناريوهات

يتطرّق الباحث الأكاديمي والناقد والمترجم وأستاذ الأدب المقارن والترجمة بمعهد الترجمة-جامعة احمد بن بلة وهران1 الدكتور محمّد داود في هذا الحوار الذي خصّ به «الشعب»، إلى الرواية والكتابة عن التاريخ وعن الهوية  وإلى دور الترجمة في تبديد عقبات اختلاف اللغة والوصل بين مختلف الثقافات، وأيضا إلى أهمية تواصل الكتاب مع القراء وضرورة توظيف النصوص في صناعة السينما والمسرح..

-  «الشعب»: تعرف الساحة الأدبية الوطنية توجها كبيرا من الكتّاب والأدباء نحو الرواية التاريخية والتأليف حول الذاكرة الوطنية، هل يخدم هذا التوجْه كتابة التاريخ؟
 الدكتور محمد داود: أولا لا بد من التمييز بين التاريخ بوصفه اختصاصا أكاديميا يشتغل حول موضوعاته باحثون وأساتذة في التاريخ، وبين التاريخ كما يتمّ توظيفه ضمن الكتابة الأدبية، ومنها على وجه الخصوص الكتابة الروائية. فالتاريخ يملك مدارسا ومناهجا تعتمد على الوثائق أو الأرشيف والشهادات الحية التي يدلي بها الفاعلون في الأحداث، ثانيا لا بد من التمييز بين التاريخ والذاكرة، لما للأول من تناول موضوعي للأحداث و(هو ملكية جماعية) ولما للثانية من تناول ذاتي لها (وهي ملكية فردية، إذ لكل فرد ذاكرته التي يروي من خلالها الأحداث كما عاشها وشعر بها). وبطبيعة الحال، فإن أهمية التاريخ والذاكرة بديهية بالنسبة لجميع الشعوب، فكل منهما دور في التأسيس لمفهوم الأمة وتحديد معالم البنية الاجتماعية والثقافية والهوياتية للدولة الوطنية وللمجتمع، ولكون الشعب الجزائري عانى كثيرا من ويلات الاستعمار ومن المجازر والتقتيل، ومن كل أنواع التنكيل والطغيان والتعذيب، وهي ممارسات عنصرية وغير إنسانية، فإنها قد تركت جروحا لا تندمل في المخيلة الشعبية والضمير الجمعي وصدمات نفسية غائرة في نفوس الجزائريين، ممن عاشوا تلك المرحلة أو ممن انتقلت إليهم القصص المروعة شفويا أو كتابيا عن طريق الحكاية الشعبية أو المدرسة أو الإعلام الوطني. ومن هذا الباب يكون من المنطقي أن يولي الكاتب الجزائري هذا الموضوع الشائك ويبدع في صياغته فنيا. إذ يملك التاريخ كما الذاكرة رهانات مختلفة توظف في مواجهة الآخر، عدو الأمس، وتوظف كذلك في الداخل من قبل القوى السياسية المختلفة والفاعلة في الساحة، والتي تبحث عن الشرعية السياسية والشعبية.
ولهذه الأسباب كلها، تتعدّد الرؤى والتأويلات للتاريخ، وهي تأويلات أيديولوجية في غالب الأحيان، وتتخذ من الذاكرة، ومن الخلافات الشخصية بين الفاعلين في المراحل التاريخية السابقة، أساسا لها. ومن هذه المنطلقات يتدخل الأديب ليقدم للقارئ عالما يجمع بين الأحداث والوقائع التاريخية في قالب سردي وفني يسترجع الماضي، ولعلّ كيفية نقل تلك الوقائع والأحداث هي التي تجعل من الكتابة الأدبية تختلف عن الكتابة التاريخية المنهجية والموضوعية، وهي الأمور التي تثير النقاش والجدل، وتطرح الأسئلة حول وفاء الروائي للتاريخ أو غيّر من مجرياته، وهي مسألة عويصة الطرح، لأن الأديب قد يتصرّف بحرية في كتابته، وفي الصدد، يكبر ويتعاظم الجدل. ويحتد الأمر عندما يرتبط التاريخ وكذا الذاكرة، بالخطابات الهوياتية التي - لما تحمله من ذاتية وتأويل - قد تنحاز لطرف دون الآخر، ويسهل التلاعب بهما، وأيضا السعي إلى احتكار خطاباتها. مما يدفع إلى التساؤل حول القيمة التي تضيفها الرواية للكتابة التاريخية وعن توجه الأدباء إلى توظيف التاريخ في نصوصهم.
من البديهي التأكيد على أن التاريخ يخضع للخلفية الثقافية وللزاوية المنهجية حتى الأيديولوجية للمؤرخ الذي يسعى إلى الكتابة، وبشكل موضوعي قدر المستطاع، لأن الموضوعية المطلقة غير ممكنة وغير موجودة.. المهم أن الكتابة التاريخية أقرب إلى الحقيقة من الكتابة الروائية، لما لهذه الأخيرة من مقتضيات فنية وتدخل للجانب التخييلي في تطور السرد في عرض الجوانب الخفية والمسكوت عنها لدى الشخصيات، فالنصوص الأدبية لا يمكن لها أن تكون تاريخا، بل هي تنويعات على الذاكرة التي قد تكون جماعية أو ملكية بعض المجموعات الثقافية أو السياسية. ولعلّ ما يميز الأدب هو تعارضه مع الكتابة الرسمية للتاريخ ومع الحس المشترك بين الناس. ويمكن القول إن الرواية لا تخدم التاريخ إلا في حدود، بسبب أنها تقدم التاريخ «حيا» أو بمعنى آخر ينبض بالحياة، ولعلّ رواية «الديوان الاسبرطي» لعبد الوهاب عيساوي، وهي تنقل للقارئ مجريات في الأيام الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر، تصنع صورة عن ملابسات تلك الفترة، وتجعل ممن يقرأ النص الروائي يعيش تلك المرحلة بكل ما تحمله من عنفوان وحيوية ومآسي، بشكل نستطيع أن نقول عنه، مباشر.
وهناك كتابات أخرى لأدباء شباب تناولوا العلاقة التاريخية مع المستعمر الفرنسي مثل رواية «الرجل الذي لا يمكن تحريكه» لهيتاريوس ورواية «كافي ريش» لمحمد فتيلينة، وهما نصان يكشفان عن العلاقة المعقدة التي نشأت بين الجزائريين والمعمرين إثر نهاية الثورة التحريرية وانتصار الشعب الجزائري وفوزه بالاستقلال. ولعل الحدث التاريخي العظيم المتمثل في الثورة التحريرية هو الذي استقطب انتباه الكتاب في مجملهم، ومنهم عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار وواسيني الأعرج والحبيب السايح ورشيد بوجدرة وبشير مفتي وحميد عبد القادر وأحلام مستغانمي وغيرهم مع كتاب آخرين يكتبون باللغة الفرنسية، فالخطاب الأدبي التاريخي كان موجها ضد الآخر الفرنسي ومقاوما له وباحثا عن هوية حاول الاستعمار طمسها. كما أن رواية «اللاز» للطاهر وطار، هي النموذج المثالي لما نتحدث عنه، لكونه يميط اللثام عن جزء من المعارك التي كانت موجودة داخل الثورة بين رفقاء السلاح، وقد طمسها الخطاب الرسمي، والنماذج في هذا السياق كثيرة، ونذكر منها رواية «الأمير» لواسيني الأعرج الذي استغل التاريخ للدعوة لحوار الحضارات والأديان من خلال العلاقة الطيبة التي أقامها الأمير مع القس المسيحي «مونسنيور ديبوش»، وقد عبرت الرواية عن رؤية للعالم كانت محل نقاش فيما بين الضفتين (الجزائر وفرنسا) حول الإرهاب والتسامح والعيش المشترك والذاكرة المشتركة، وهي إشكاليات كبيرة تحتاج إلى نقاش واسع.

- كيف العمل لتعريف الأجيال الصاعدة بهذه الإصدارات، ونحن نعرف أن التوزيع والترويج هما الحلقة الأضعف في مجال صناعة الكتاب؟
 إنك هنا، تطرحين مسألة في غاية الأهمية، إذ ترتبط هذه المسألة التي تتمثل في عدم تمكن الأجيال الصاعدة من معرفة وقراءة ما ينشر من نصوص لها علاقة بالتاريخ. أولا: نجد أن كل الدول والمجتمعات التي تسعى إلى بناء الدولة الوطنية تعتمد في توجيه أبنائها تربويا وثقافيا إلى الآداب الوطنية التي أنتجها أدباؤهم، ويصنفون ذلك إلى مراحل ومذاهب ويلقنون الدروس تلو الدروس وفي مواد مختلفة (لغة، تاريخ، علوم وغيرها من المواد المدرسة) ويتمّ ربطها بالأدب الوطني وبمختلف شخصياته الفاعلة، مما يسمح لمختلف الأجيال، ومنها الأجيال الصاعدة بامتلاك ثقافة مشتركة تعتز بها، وترجع إليها في كل لحظة، وكلما اقتضى الأمر ذلك، وهذا ما يغيب في المدرسة الجزائرية، حيث يصل الطلبة إلى الجامعة وحتى في تخصّص الأدب العربي، ولا يعرفون إلا القليل القليل من الأسماء الأدبية ومن نصوصهم.. ثانيا: مسألة أخرى تتعلق بالغياب شبه التام لتوزيع الكتاب في مختلف مناطق الوطن ومن ثمة وضعه في متناول القارئ الجزائري وفي كل مكان، في الشمال والجنوب وفي الغرب والشرق.
كانت «المؤسسة الوطنية للتوزيع والنشر» في الفترات السابقة، تلعب هذا الدور، وكان الكتاب يصل إلى أقصى مكان من الوطن، وبعد حلها وتفكيكها إلى عدة مؤسسات في إطار التخلي غير المعلن عن القطاع العام، وتشجيع المبادرة الحرة، ويعتبر هذا العمل خطأ كبيرا لا نزال ندفع ثمنه؛ لأن من أساسيات الدولة بوصفها مؤسسات، تدعيم الكتاب والتشجيع على انتشاره في جميع مناطق الوطن وتدريس النصوص للأدباء الجزائريين.. ثالثا. فيما يتعلق بالترويج، هنا المسؤولية مشتركة بين الناشر الذي لا بد له أن يروّج لما ينشر من كتب بتنظيم نشاطات خاصة بالكاتب من خلال «البيع بالتوقيع»، وأيضا للإعلام دور كبير في الترويج للكتب الأدبية الجديدة، وهو عمل قليل وضعيف بالمقارنة مع ما يُنشر من نصوص، وعلى الكاتب أيضا أن يقوم بالتواصل مع القراء ويخبرهم عن جديد إصداراته ويناقشهم في مضمون أدبه، وإن كانت الفضاءات الاجتماعية مهمة ولكنها لا تكفي، هذا إلى جانب غياب المجلات الثقافية التي تنشر الدراسات والمقالات، وأيضا قلّة الندوات والمقاهي الأدبية، وحتى المؤسسة الجامعية لا تعير اهتماما كبيرا للأدب الجزائري إلا قليلا... هذه عوامل سلبية بل مكابح تقف في وجه الأدب، وعلينا تدارك الوضع وتصحيحه لتجنب الانعكاسات القاتلة للعولمة المتوحشة التي اكتسحت كل شيء وهي تسعى حاليا للقضاء على كل مختلف ومتميز في ثقافتنا.

- تعد الترجمة الجسر الواصل بين الثقافات والشعوب وتوليها الدولة اهتماما كبيرا من أجل التعريف بالأدب الجزائري، ومن خلال نصوصه التي تؤكد على الهوية والتراث والتاريخ .. كيف هو واقع الترجمة من وإلى العربية اليوم؟
 صحيح أن الدولة الجزائرية استثمرت كثيرا في تكوين الطلبة في تخصص الترجمة بالجامعات الوطنية، وقد تخرج منها الآلاف منهم، لكن عندما نعاين وضع الترجمة في بلادنا نجد أن الحصيلة ضعيفة جدا، لكوننا لا نترجم إلا القليل من النصوص الروائية، ويمكن أن نعدها سنويا بعشرة نصوص مترجمة، ربما أكثر أو أقل. بمعنى أن قطار الترجمة في بلادنا ما يزال ثقيلا، وهو ثقيل جدا، وكل ما يتمّ ترجمته هو عبارة عن مبادرات شخصية مثل ما يفعل محمد ساري الذي تخصص في نقل النصوص المكتوبة باللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، وقبله كان «مارسيل بوا» ينقل نصوصا مكتوبة باللغة العربية إلى اللغة الفرنسية.. هنا لابد أن نطرح السؤال على الفاعلين الأساسيين في مجال الثقافة والإبداع (وزارة الثقافة، الناشرون، المبدعون،..) عن دورهم في تأسيس هيئات تهتم بترجمة الأدب الجزائري إلى مختلف اللغات لكون هذا النشاط أصبح له دور في تفعيل العلاقات الدولية على مستوى الجيوسياسي فيما يسمى بالقوة الناعمة، وبخاصة للجزائر طموحات كبيرة في لعب دور دولي ذي أهمية بالغة، وعلى الفاعلين الاهتمام بأمر الترجمة الأدبية والانخراط في عالمية الأدبية، وأؤكد في هذا الباب على الترجمة إلى اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص، للعدد المهول للقراء بهذه اللغة.

- عرفت الرواية الجزائرية تألقا على أكثر من صعيد، من خلال فوز كثير من مبدعينا المخضرمين والواعدين بجوائز مسابقات وطنية وإقليمية عربية وغربية، ماذا تقولون في ذلك؟
 الفوز بالجوائز الأدبية العربية منها وغير العربية أمر مستحسن ومحبذ لما يمنح للأدب الجزائري من فرص للبروز والظهور، ويجعل النصوص الأدبية وأسماء مؤلفيها متداولة، وقد نال في المدة الأخيرة كثير من الأدباء الجزائريين جوائز عربية ذات أهمية بالغة، ومنها جائزة كتارا وجائزة البوكر. ونذكر من الأدباء الذين فازوا بالجوائز العربية مؤخرا عبد الوهاب عيساوي وعز الدين جلاوجي والحبيب السائح وأحمد طيباوي، الصديق حاج أحمد الزيواني وغيرهم، المهم قائمة الفائزين معتبرة، ومنهم من وصل إلى القائمة الطويلة.. معنى ذلك أن الأدب الجزائري أصبح يستقطب انتباه الفاعلين الثقافيين في البلدان العربية، ومعناه أيضا أن الأدب الجزائري يملك قوة إبداعية كبيرة وله جمهور كبير خارج الوطن، هذا مع العلم أن الجوائز وبخاصة تلك التي تُمنح في الدول العربية تجعل الكاتب في أريحية مادية، مما يشجعه على مواصلة الإبداع وتحمل المسؤولية الأخلاقية في رد الاعتبار للجائزة التي نالها.
أما عن الجوائز الغربية علينا أن نترجم الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، وبخاصة باللغة الانجليزية، حتى تحظى تلك الأعمال بالاهتمام مثل مثيلتها المكتوبة باللغة الفرنسية التي على الرغم من التهميش النسبي التي تعانيه منه في فرنسا، فإنها استطاعت أن تنال نوعا من الاعتناء المعتبر، وقد نالت بعض الجوائز لكنها لم تنل جائزة «غونكور» على الرغم من تواجد هذا الأدب لقرن من الزمن، وفي فرنسا إن المبالغ المالية التي تمنح للأدباء الفائزين بالجوائز هي في غالبها مبالغ رمزية، بل لا معنى لها، وقد لا تطعم صاحبها يوما واحدا، لكن يتم الترويج لما يكتبه الفائز وتطبع مؤلفاته بالآلاف وتوزع بشكل كبير...

- ومع ذلك يبقى توظيف كل هذا الإبداع في صناعة السينما أو المسرح ضئيلا جدا بالرغم من أزمة السيناريو التي يتحدث عنها الكثيرون، أين الخلل في نظركم؟
 لنا عدة تجارب في مجال اقتباس الأعمال الأدبية إلى المسرح أو إلى الشاشة الصغيرة أو الكبيرة، مثل مسلسل «الحريق» الذي اعتمد على كتابات محمد ديب، وعلى رواية «ريح الجنوب» لعبد الحميد بن هدوقة و»الأفيون والعصا» لمولود معمري، وغيرها من الأعمال السينمائية، ولعل التجربة الأخيرة مع مسرحية «العازب» التي تم اقتباسها من رواية ربيعة جلطي جديرة بالاهتمام والإشادة، هذه تجارب جيدة ويمكن تشجيع مبادرات مماثلة في عالمنا الثقافي الفقير، حتى يتم ملء الساحة الثقافية وتحفيز الجمهور على الإقبال على الأعمال الفنية الجزائرية لارتباطها بواقعنا وبحياتنا اليومية وبتاريخنا وهويتنا.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024