المجاهد مصطفى بن عمر يروي تفاصيل التحاقه بالثّورة المباركة

واصلـوا مسـيرة أجدادكـم بالـعـلم.. أخلـصوا في عــملكم وأحـبّوا وطـنكم

حوار: سهام بوعموشة

المجاهد مصطفى بن عمر، من قدماء الطّلبة الجزائريّين الذين التحقوا بإضراب 19 ماي 1956، قادما من الأغواط نحو المدية رفقة تسع شبان من أبناء الأغواط، لا يتعدى عمرهم 18 سنة، ولم يثنه تعب السفر بل زاده إصرارا على المشاركة في الثورة، وطرد المستعمر من أرض الأجداد.
في هذا الحوار يروي لنا بن عمر ليلته الأولى في الجبل، والمهام التي أوكلت له فور التحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني.


- الشعب: كنتم من بين الطّلبة الذين التحقوا بإضراب الطلبة في 19 ماي 1956، حدّثنا عن ظروف التحاقك بصفوف الثوّار؟
 المجاهد مصطفى بن عمر: فعلا كنت من ضمن الطلبة الذين كانوا يدرسون بالمدية، ونحن من سكان مدينة الأغواط، كنّا مجموعة من الطلبة في اتصال مع بعضنا البعض ونتابع أحداث الثورة، ولقد بلغنا حديث عن امكانية تنظيم إضراب، فرغبنا في الالتحاق بالمجاهدين في أقرب وقت، سمعنا أنّ الاضراب في ماي. كنا نظن أنه في 7 أو 8 من الشهر نفسه، كان يصلنا صدى العمليات التي يقوم بها المجاهدون هنا وهناك، فنهتز حماسا بينما يكاد الأسف يغمرنا لكون منطقتنا لم تعرف توسّعا فعليا للثورة، كنا نقضي عطلة الربيع بالأغواط أواخر أفريل 1956، ومن أجل تحقيق رغبتنا قرّرنا الرجوع إلى الشمال لعدم وجود هياكل للمقاومة بالقرب منا.
كنّا نعرف رفيقين لهما علاقات من شأنها أن تيسّر لنا مسعانا، أحدهما داود عكروف، وهو تلميذ في قسم الفلسفة بثانويتنا “بن شنب” بالمدية، والثاني عمي محمود، تلميذ في قسم الرياضيات بثانوية دوفيري بالبليدة، حيث كانت توجد خلية طلابية أنشط بكثير من تلك التي كانت عندنا بالمدية، نظرا لحداثة هذه الأخيرة ودورها المتواضع الذي كان يقتصر على نشر ما يصدر عن منطقة الجزائر.
وأشير إلى الإضراب المبكر الذي عرفته ثانويتنا بداية مارس 1956 دون سواها من المؤسسات عبر الجزائر، نتيجة لسوء تفاهم وقع بين خليتنا ومسؤولي الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، دام يوما واحدا، حدث هذا قبيل ذهابنا إلى الأغواط بمناسبة العطلة المذكورة آنفا، وكانت نتائجه أن زاد الجو بالمدية توترا، وزاد الحقد الذي كان يكنّه لنا أبناء المستوطنين.
فور الإعلان الرسمي عن الإضراب، عقدنا العزم على الرحيل واتفقنا على أن لا نفشي شيئا من مشروعنا لأي كان، خاصة الأهل والأقارب، بعد إقناع أوليائنا بضرورة السفر إلى المدية بحجة استرجاع أمتعتنا وألبستنا التي تركناها بالثانوية.

- كيف كانت الرّحلة من الأغواط إلى المدية؟
 كانت الرّحلة بين الأغواط والجلفة على متن الحافلة مألوفة لدينا، وكان خط الأغواط - غرداية مثلا، محل منافسة شرسة بين المتقاسمين للنقل العمومي المحلي آنذاك، وهما دولوني وبوكامل، فكانت المباهاة بينهما في كل شيء حتى بالمظهر الخارجي للحافلة من ألوان ورسوم وقوة صوت المنبه. أذكر دائما روح التسامح وسعة الصدر التي كان يبديها لنا السائقون، ونحن لا نكف عن الفوضى والإفراط في الحركة داخل حافلاتهم منذ خروجنا من المدينة إلى غاية وصولنا إلى الجلفة، كنا نحظى بهذه المعاملة بسبب معرفتهم بنسبنا، أو لمجرد رؤيتنا مرات أثناء الرحلات، كنا نفضل الحاج قدور على باقي السّواق، كان معروفا لدى أغلب السكان بمرحه وفكاهاته، ولإبهارنا كان يتعمّد أثناء السياقة حركات خاصة يعتقد أنها تبرهن على القوة والمهارة في المهنة.
كنا تسعة طلاب من أبناء الأغواط لا يتعدى عمرنا 18 سنة، وهم محمود بن عمر، أحد أعمامي، محمد رزوق ابن عمتي، أطلقنا عليه لقب “اللوبو”، لمحاكاته أحد نجوم السينما المكسيكيين الشهير في ذلك الوقت، الأزهري جريدان، الذي كنّا نناديه بالأستاذ، محمد الحاج محبوبي، الطاهر بوشارب، صاحب الابتسامة الدائمة، البشير قازي، خالد التاج، الطاهر مرجاني والمتحدث.
اخترنا زاوية بالحافلة وبقينا الواحد قرب الآخر في صمت شبه مستمر، تحرينا الحيطة والحذر أثناء حديثنا الذي كان يدور في إطار مشروعنا، تناولنا تطورات النشاط الثوري وانتشاره عبر الجزائر، وصلنا إلى الجلفة في حدود السابعة والنصف، أنزلتنا الحافلة بمحطة السكة الحديدية، وهي محطة متواضعة جدا، كنا أثناء رحلاتنا السابقة نختار العربة الأقل اكتظاظا ليفسح لنا المجال لتجاذب أطراف الحديث والمرح دون أن نتسبب في إزعاج الآخرين. قضينا الليلة الأولى بالحمام، وفي الصباح استرجعنا أمتعتنا من الثانوية، انتظرنا محمود، وحين عودته من البليدة، أخبرنا أنه اتصل بعبد الرحمن بن علال، أحد زملائنا بثانوية بن شنب، عبد الرحمن، وهو من أبناء لوفردو، إحدى القرى المجاورة للمدية. كنّا نلقّبه بلويس السادس عشر، لأنه يتسم بالسمات نفسها لهذا الملك الفرنسي، أخبرنا بن علال أنّه رتب لنا موعدا في صباح يوم غد مع أحد المسؤولين عن الاتصال الذي سيرافقنا الى الجبل حتى نلتحق بالمجاهدين. فرحنا بهذا الخبر، وهنا أجمعنا على ترك مرجاني يعود من الفوج وحيدا إلى الأغواط، وأرسلنا معه أمتعتنا ليسلمها إلى أهلنا.
وبعد أيام تساءلنا كيف تمكن ذلك الولد النحيف من نقل العديد من الحقائب، لقد أوصلها فعلا على أحسن حال. أوصانا بن علال بارتداء أقمصة طويلة سوداء أو رمادية، وأن نتعمّم على غرار أهل المنطقة حتى لا نجلب الانتباه، فاستجبنا للنصيحة واقتنينا ما تيسر من الأشياء الضرورية لرحلتنا كالأحذية من نوع تينيس، وسراويل الصين وغيرها.
قضينا بعدها ليلة ثانية بالحمام، في الحقيقة لم ننم، خرجنا في ذلك الصباح حوالي الساعة السادسة مجموعة تلو الأخرى، ابتغاء تناول فطور الصباح بأحد المقاهي، لكن دون شهية، وتركنا معظم الفطور على الطاولة.
رجعنا فورا إلى الحمام، ارتدينا ملابسنا الجديدة، ثم تسرّبنا مثنى وثلاث إلى موقف عربات النقل العمومي التي تربط بين المدية والقرى المجاورة، وجدنا مسؤول الاتصال في انتظارنا، تبادلنا معه كلمة السر، وركبنا معا إحدى العربات، بعد عشر دقائق من السير أشار إلينا دليلنا المدعو يوسف بالنزول، وجدنا أنفسنا في أحضان طبيعة مغطاة بالكروم على قرب كيلومتر واحد من لوفردو، قرب مضيق بن شكاو الشامخ، موطن الثلوج والبرد القارس في فصل الشتاء.
كنّا بإحدى المرتفعات، فرأينا سيارات من نوع جيب وثلاث شاحنات من نوع “ج.م.س” غاصة بالجنود خرجت من لوفردو بسرعة فائقة، سمعنا طلقات نارية مكثفة لم ندر هل كانت مصوبة نحونا أم كانت من أجل محاولة عرقلة سيرنا.
نطق يوسف بعد صمت طويل: “لا شك أن هذا من عمل عميل باعنا..لنختفي هنيهة..لا تخشوا شيئا، إنهم يطلقون النار خبط عشواء”، استأنفنا مسيرتنا جريا من أجل الوصول إلى الغابات الآمنة، وبعد أن ابتعد شبح الخطر، استرحنا ثم استمر السير في الجبال ساعات طويلة لم نلتق خلالها بأحد، وبلغ منا التعب مبلغه.

- حدّثنا عن أوّل ليلة قضيتها بالجبل مع رفقاء السّلاح؟
 ليلتنا الأولى بمعاقل الثورة..قدم لنا عشاء اعتبرناه لائقا..كيف لا؟ وقد عقدنا العزم على تحدي الصعاب مهما كان لونها، تناولنا العشاء تحت نور مصباح من الإسيتيلين علق بغصن الشجرة فوق رؤوسنا، كانت الوجبة عبارة عن مرق من الجزر في صحن من الفخار لا يكتم صوت الملاعق، أفرغنا الصحن وتركناه نقيا ثم نزلنا الى الغدير المجاور، فغسلنا الأيدي وتمضمضنا وعدنا فورا إلى الحصيرة لننام تحسبا لليوم الموالي.
استيقظنا في الصباح الباكر، ولم تكن آلام عضلاتنا وأرجلنا قد هدأت بعد، وخلال الليل انسحب إبراهيم المحافظ السياسي، لا ندري إلى أين، وترك لنا رسالة صداقة وود ولم يكتب لنا اللقاء فيما بعد؛ لأنه استشهد خلال بضعة أسابيع..بدأت رنات المهراس تسمع داخل الكوخ مشيرة إلى وقت تناول القهوة، بعدها ودّعنا دليلنا الحميم يوسف.
بعد ساعتين من تسلق سلسلة المرتفعات المغطاة بأشجار البلوط والصنوبر، وصلنا إلى قمة تشرف على منظر خلاب شد أنظارنا، واصلنا السير كي نصل إلى لوزانة قبل الليل، التقينا في الطريق ثلاثة أشخاص ومعهم بغالهم كانوا في الاتجاه المعاكس فسبقونا بالتحية. استأنفنا طريقنا من جديد واقتربنا من أولاد حمادي، فوجدنا هنا وهناك بعض السكنات، وهي عبارة عن مجمعات صغيرة منها ما يشتمل على ثلاثة أو أربعة أكواخ.
«ها هي لوزانة أمامك” قالها “موستاش” مثلما نلقّبه، وهو حارس الغابات الذي رافقنا في رحلتنا، وعلامات الارتياح بادية عليه. عند وصولنا استقبلنا حوالي 12 شابا، منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف، اقتربوا منا بحياء وهم يتطلعون إلى الوجوه الجديدة عليهم لعلهم يعثرون على أحد المعارف من بيننا.
أطلعنا مباشرة على أن لوزانة تضم إحدى الزوايا التي يأتي إليها صغار المنطقة من أجل حفظ القرآن الكريم، ويؤمها المرضى ابتغاء العلاج أو التماس السند المعنوي، ويلجأ إليها عابر السبيل لقضاء ليلته.
دعونا إلى مقابلة مسؤول المجمع الذي تحول للضرورة الى مركز تجمع وتدريب، فتبيّن أنه عمارة رشيد الذي كنت أعرفه أيام كنا معا بالمدرسة الثعالبية، شارع مارنغو بالجزائر، وجدناه رفقة بعض الإخوان الطلبة، وثلاث مجاهدات هن مريم بن ميهوب، فضيلة مسلي، وصفية بازي. رحب بنا رشيد وأبدى سروره لرؤيتنا ثم استفسر عن الظروف والدوافع التي حملتنا على الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، وأخبرنا بأننا سنتلقى خلال إقامتنا تربصا من أجل تكويننا للمهام التي ستسند إلينا لاحقا.
رغم أهمية الموضوع وخطورته، اختصر عمارة رشيد شروحاته ليتيح لنا فرصة للاستراحة؛ لأنه أدرك أننا كنا في أمسّ الحاجة إليها، فأوكلنا إلى الشيخ خير الدين، صاحب هذه الديار والقائم بالإيواء على مستوى الزاوية. أبدى الشيخ ارتياحه لرؤية العديد من شباب المدن وهم يلتحقون بالثورة، وخصّص لنا الغرفة التي ستكون مضجعا ومطعما وقاعة للدروس رفقة آخرين من تلاميذ الثانوية، وقضينا فيها ليلة هادئة ومريحة جدا.

- ما هي المهام التي أوكلت لكم؟
 دامت فترة التكوين في لوزانة، ثلاثة أسابيع قبل تعييني بإحدى النواحي أو وحدات القتال، تعلمنا خلالها بعض المبادئ المتعلقة بأعمال النجدة، والإسعافات الأولية التي ينبغي تقديمها للجرحى. تعرّفنا على بعض أنواع الأسلحة مثل البندقية والرشاش، وكيفية استعمال القنابل اليدوية، وحظينا بتمارين في الرمي بالذخيرة الحية.
كانت هذه التدريبات تبدو بسيطة بالنسبة لمن سبق له أن استفاد من التحضير العسكري التمهيدي أو العالي، الذي كان ينظم على مستوى الثانويات والمعاهد، وعن طريق الدروس التي تلقيناها زودنا ببعض الأحداث التاريخية المميزة والمبادئ الأساسية في الأساليب الكفيلة بمساعدتنا على استغلالها في اتصالاتنا اللاحقة بالشعب والمقاتلين أحسن استغلال.
كانت الحراسة، وخاصة في الليل، من بين النشاطات التي تشاركنا فيها بالتناوب مدة ساعة لكل واحد منا في أماكن محددة لهذا الغرض، ومع حمل السلاح، وكلمة السر تغير يوميا في جو أخوي، فكأنك في مخيم للكشافة. خلال إقامتنا هناك، عرفت الزاوية ارتفاعا في عدد العابرين بها من أعوان الاتصال لنقل البريد والجنود، الذين يكونون تارة لوحدهم، وتارة رفقة مرشد ومسؤولين سياسيين ومرضى وغيرهم.
على مرّ الأيام، كنا نرى وصول المقاتلين الجرحى ومنهم من هو في حالة خطيرة، وهذا مؤشر يدل على تصاعد المعارك والاشتباكات وضراوتها، وكان هذا نهاية جوان 1956، من بين الإخوان الذين صادفتهم في لوزانة أذكر عز الدين، كان يرتدي على ما أذكر سترة من الجلد وسروالا أزرق وفي حزامه مسدس من نوع 11.43، قال لي مبتسما وعيناه تلمعان حذاقة أنه قادم من بون بعنابة، مرورا بروفيقو ببوقارة، وباتجاه العاصمة من أجل مهمة، وقد أثبتت الأيام فيما بعد أن عز الدين، كان مقاتلا شجاعا وفدائيا بارعا.
وهناك كثير من الإخوان مرّوا بلوزانة دون أن نعرف هويتهم أو شيئا عن مهمتهم. تكثّفت منذ شهر جوان طلعات طائرات المراقبة الملقبة بالواشية Mouchards فكنا نبتعد عن المنازل ونختبئ تحت الأشجار، وفي بداية جويلية، أوشكت فترة التدريب على الانتهاء، وبدأ عمارة رشيد يلمح إلى احتمال تعيين كل واحد منا في منصب، وفي صباح اليوم السابع من شهر جويلية، هرع إلينا بعض المسبلين وأخبرونا بوجود حشود من قوات العدو خرجت من تابلاط وبئر غبالو، باتجاه الغرب يتقدّمون نحونا، وفي منتصف النهار وردت إلينا معلومات أخرى تفيد أن فرقا من الجيش الفرنسي بدأت في التحرك بين المدية والعومرية، فاستخلص عمارة رشيد من هذه المعلومات، أن الأمر ينذر بتمشيط واسع من طرف العدو، وطلب منا الاعتصام بالغابة القريبة منا، وما هو إلا وقت قصير حتى بدأنا نشاهد من مرتفعات تقزيرت، وعلى بعد كيلومترات قليلة سربا من الطائرات تقوم بجولات متكررة في كل الاتجاهات تغطية لانتشار الدبابات والمشاة.
وفي يوم 11 جويلية بدأت المروحيات من نوع سيكورسيكي 18 تدفق سيولا عارمة من الجنود على الأماكن الموجودة أسفل منا بنحو 4 كيلومترات، حيث بدأت الأمور تأخذ منعطفا خطيرا، فتركنا الزاوية على عجل رفقة المحافظ السياسي الأخ بن يوسف قريتلي، وهو مناضل محنك ورفيق مقرب للشهيد بوجمعة سويداني، أصله من الصومعة، وسلك عمارة رشيد والممرضات واثنان من الجنود وبعض المرضى دربا آخر ثم لجأوا إلى مغارة لم تكن بعيدة.
اتّجهنا نحو الجنوب الشرقي، كأننا نقصد عين بسام، بنية تجاوز المنطقة التي وقع عليها التمشيط أربعة أيام من قبل، كي نتمكن من الإفلات من الحصار الضخم الذي حشدت له الآلاف من العساكر، وامتثلنا للتوصيات التي زوّدنا بها الأخ بن يوسف، وهي الالتزام بالصمت مهما كانت الظروف، حذار من الذعر وإياكم والتحرك حتى وإن ظننتم أن العدو اكتشف موقعكم.
يوم 18 جويلية، انضم إلينا علي يونسي، ثم حسان الخطيب الذي أصبح قائدا للولاية الرابعة، كان طالبا في الطب جاء مرفوقا بالممرضة مريم بن مسعودة الشهيدة المعروفة، في ذلك اليوم، جاءنا مسبل من بني ميسيرة، وأخبرنا باستشهاد عمارة رشيد، عندما كان خارجا من المغارة التي اختبأ بها، وأُسرت الممرضات الثلاث اللائي كن معه، تأثّرنا كثيرا لفقدان عمارة رشيد، وحرمان الثورة من أحد الإطارات اللامعة.
كلّفت بمرافقة ملازم يحمل لقب سليمان الصاعقة، واسمه الحقيقي حسين سليمان، لاحظت فيه منذ الأيام الأولى تصرفات لا تطاق، واستعمال الغلظة مع سكان القرى التي نمر بها، بعد مرور بضعة أسابيع عدنا إلى منطقة بقرب جبل ملوان من أجل لقاء العقيد الصادق سليمان دهيليس، والرائد الطيب عمار أوصديق، القادمين من قطاع باليسترو في طريقهما إلى المناطق الغربية للجزائر العاصمة من أجل التفتيش.
كنت من بين الاثنين أو الثلاثة الذين تطوعوا لمرافقتهما رغبة في اكتشاف المزيد من مناطق الجزائر، انطلقنا في رحلة قادتنا من جبال البليدة إلى المناطق الجبلية بين شرشال وتنس، مرورا بمنطقة المدية وكان ذلك في 26 سبتمبر 1956 على الأرجح.

- وصلتم إلى الولاية السادسة، ووقفتم على مشكلة قلّة السّلاح..كيف واجهتموها؟
 قضيت بضعة أيام رفقة العقيد علي ملاح، مكّنتني من معرفة هذا الرجل الذي يتمتع بشيم إنسانية وأخلاقية، وبالاطلاع على المستجدّات التي تطبع الولاية، لاحظت أنها في وضعية لا تحسد عليها، قلة العتاد والأسلحة والإطارات والمقاتلين وأقاليم شاسعة وجرداء من الصعب تسييرها ومراقبتها، إضافة إلى أن البعض من نواحيها كانت تحت سيطرة عناصر بلونيس، وأخرى بالجنوب تحت قبضة أتباع زيان، لذا كلّفني العقيد علي ملاح بالقيام بجولة استطلاعية عبر تراب الولاية من أجل تقييم الوضع العام.
عند عبوري بلاد الزناخرة، وصلني استدعاء يطلب مني الالتحاق بالعقيد ملاح، وجدته رفقة الرائد عبد الرحمن جوادي، العائد بسلام من الاشتباك الدامي بمنطقة حد السحاري، وأيضا المجاهد حمود الشائد، وعبد الرحمن مقاتلي وهما ضابطان بالولاية السادسة.
أرسلت إلى الولايتين الأولى والثانية، وقد حظيت على مستوى دوار بني عياد، بمصادفة كتيبة محملة بالأسلحة كانت في طريقها من تونس إلى الولاية الرابعة، وحمدت الله على تيسير السبيل للعقيد بوقرة، ليسعد بالحصول عن قريب على الأسلحة المرتقبة.
أول اتصال أتيح لي بالولاية الأولى، كان مع الملازم محمد الصالح يحياوي، الذي التقيته على مقربة من جبل فوغال، أظهرت له الرخصة التي كانت بحوزتي وأطلعته على المهمة التي أسندت لي فلم يتردّد في تزويدي بالعون والنصائح.

- العقيد عميروش أولى أهمية كبيرة للطّلبة، وأرسل مجموعة منهم للدّراسة في تونس..حدّثنا عنه؟
 هذه الفكرة أخذها من الحديث الذي جرى مع سي امحمد بوقرة وعبان رمضان في مؤتمر الصومام، اللذين أكدا على أهمية تواجد المثقفين في الثورة في الداخل والخارج، كان عميروش متفتحا، لا يثق في أي شخص، ونموذجا في الاستقامة والصراحة، لا يسمح لأي مناضل بالخروج عن النظام، يهابه الفرنسيون وإطارات ولايته، يتكلم ببساطة، يجعلك تشعر من أسئلته أنه حذر جدا، يعود ذلك لتكوينه كمناضل والبيئة التي تربّى فيها في غليزان، وطني حتى النخاع،
كان يرتدي البدلة العسكرية التي يرتديها باقي المجاهدين، لا يميّزه عنهم سوى قبعة سوداء يلبسها تارة، وعمامة يشد بها رأسه، كان يحب سي امحمد بوقرة كثيرا، وكان صديقه سي الحواس.
عندما استأذنا منه للانصراف والعودة إلى منطقتنا بعد غياب دام 15 يوما بمنطقة القبائل، طلب منا الانتظار بداية الليل، وبينما كنا في انتظار غروب الشمس للشروع في رحلتنا، إذا بعميروش يأتينا حاملا رشاشة تحت جلبابه المخطط ليطلب منا الانطلاق على الفور، ولم يغادرنا عميروش إلا بعد حوالي أسبوع من المشي.
كان يختار بنفسه الدروب والمسالك ثم يعيّنها للمرشدين الذين كانوا معنا، عندما وصلنا إلى تلال قلعة ثاموقرانت، المجاورة لمضيق أكفادو، وجدنا ملجأ بسيطا قدمت لنا فيه وجبة غذائية تمثلت في التين الجاف وزيت الزيتون، كنت أفتح حبة التين قبل وضعها في فمي، فقال لي عميروش مبتسما “عليك بابتلاعها دون النظر إلى ما يوجد بداخلها إن أردت أن تتغذى”.
كان الشهيد عميروش ا يتركنا أكثر من ثلاث أو أربع ساعات بالمكان الواحد، لا يترك فرصة دون مراقبة إطارات المناطق أو النواحي التي يمر بها أو حتى مسؤولين آخرين أقل رتبة. الجميع يخضع لمراقبته، كان يكتفي بالقليل في أكله ونومه، لمسنا في الرجل طيلة المدة التي قضاها معنا مدى تشبعه بالإيمان الصلب والوطنية الخالصة.
بعد أن توغّلنا في غابة بني منصور، جمعنا عميروش من أجل توديعنا وأوصى بنا النقيب محيوز، طالبا منه أن يزوّدنا بمرشدين موثوقين بغية الوصول إلى الولاية الرابعة، ونصحنا بالمرور جنوب البويرة اختصارا للمسافة ثم انصرف واختفى عن أنظارنا في مشية كلها خفة وعزم.

- كيف كان تعامل المجاهدين معكم فور التحاقكم بصفوف جيش التحرير وأنتم شباب؟
 كانوا ينظرون إلى الشباب بعين الرعاية، لأنهم يعلمون أنّ أغلبية الطلبة الذين التحقوا بالجبال من المدن مثقفين وينحدرون من عائلات ميسورة الحال، والعيش في الجبال صعب بسبب نقص الأكل واللباس وقلة النوم، لأنّنا في ثورة ضد المستعمر، لكنهم اكتشفوا فينا الصلابة وقوة الاحتمال والتأقلم مع ظروف العيش في الجبال.
كان المجاهدون يستمعون لرأي الطلبة ويدركون قيمتهم خاصة سي امحمد بوقرة، الذي أصبح قائد الولاية الرابعة التاريخية.

- من هو القائد أو المسؤول الذي تأثّرت بسلوكه تجاهك ومع أصدقائك الطّلبة؟
 بدون مبالغة..العقيد سي امحمد بوقرة، كان هو القائد الرمز يتمتع بأخلاق عالية جدا تتجاوز العادي، تربية وطنية نظرا لتكوينه في الكشافة الإسلامية، درس في الزيتونة ويتقن اللغتين العربية والفرنسية، أدى دورا في بلورة القرارات. شديد العزيمة على المقاومة والكفاح، يتسم دوما بروح الأخوة إزاء كافة المقاتلين باختلاف أصلهم أو رتبهم، وبالعطف والمحبة دون تمييز في التعامل مع القرويين والفلاحين الذين يلتقي بهم، والذين يبادلونه بدورهم التقدير والإخلاص إلى درجة جعلتهم لا يساومون بحياتهم من أجل حمايته.
بعد انعقاد مجلس الولاية الرابعة، كلفني العقيد بوقرة  بمهمة جديدة بتونس بعد نجاحي في المهمة بالولايتين الثالثة والخامسة، سلّمني رخصة عبور كتبها بخط يده، فيها دعوة سلطات الولاية التي سوف أمر بها لمساعدتي، وأوصاني بالتقصي أثناء رحلتي حول الوحدات التابعة للولاية الرابعة التي كلفت بجلب الأسلحة من تونس، والتعجيل بعودتها وإفادته بتقرير حول حالة الوحدات المتمركزة بالحدود، والأسباب التي حالت دون مغادرتها هذه الأماكن والإتيان بالأسلحة.
ولم يخف أسفه لقلة جدية ونجاعة ممثلي الولاية الرابعة بتونس، طالبا مني أن لا أثق إلا في أوعمران، اتفقنا على كلمة السر وهي “مخ جرانة”، اقتبسناها من فكاهة رويتها له أتت على لسان أحد صانعي الحلويات التونسيين. ودّعني العقيد بوقرة بهذه العبارات “أتمنى أن تصل إلى تونس في صحة وعافية...أعلق عليك كل الآمال؛ لأننا في حاجة ماسة إلى الأسلحة والذخيرة..وأتمنى ألا تنسانا”.
كانت هذه آخر كلمات سمعتها منه.

- من هم الطّلبة الذين تأثّرت باستشهادهم؟
 كثر..خاصة عمي سي عبد القادر بن عمر، المدعو مراد، الذي استشهد في سيدي المدني في 15 أفريل 1957، في حدود الساعة الرابعة ونصف صباحا في اشتباك مع قوات الاحتلال الفرنسي، وتعتبر من أكبر المعارك التي وقعت في الناحية الثالثة من المنطقة الثانية للولاية الرابعة، دامت 14 ساعة، أسفرت عن استشهاد 37 مجاهدا، من بينهم مسؤول الكومندوس سي يحيى، وقد دشّن نصب تذكاري بمكان المعركة تخليدا لشهداء الجزائر.

- مصطفى بن عمر..طالب الأمس ماذا يقول لطلبة اليوم؟
 أقول لشباب اليوم واصلوا مسيرة أجدادكم بالعلم ومساعدة الفئات الهشّة في البلاد، أخلصوا في عملكم وأحبّوا وطنكم مثلما أحبّه أجدادكم، ودافعوا عنه بالنفس والنفيس، وشعاركم دائما الوحدة بين أبناء الجزائر ونبض التفرقة، يجمعنا وطن واحد هو الجزائر، حافظوا على مكتسبات الأجداد، لأنّ أعداء الداخل والخارج بالأمس يتربّصون بنا اليوم.

 

  من هو المجاهد مصطفى بن عمر؟

 مصطفى بن عمر من مواليد 1937 بولاية الأغواط، التحق بصفوف جيش التحرير في الولاية الرابعة في سبتمبر 1956، وبقي في صفوف الثورة إلى غاية 1962.
انضمّ إلى وزارة الخارجية بعد استرجاع السيادة الوطنية، تقلّد مهاما عديدة ومناصب قنصلية وسفير في مالي، الهند والبرتغال.
تحصّل على شهادة ليسانس في السوسيولوجية من جامعة بروكسل ببلجيكا، عين وزيرا لقطاعات عديدة منها الميزانية، التجارة والتربية الوطنية ما بين 1982 و1988.
ألّف كتاب “هم الأبطال”، أو “الطّريق الشاق إلى الحرية”، يروي فيه مساره أيام الثورة التحريرية من 1956 إلى 1962، له كتاب “البرتغال ومكانته من تاريخ الأندلس” صدر في 2021.
ظلّ يشارك بمقالاته في الصحف الوطنية والأجنبية حول مواضيع شتى سياسية، اقتصادية وثقافية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024