البروفيسور سعدي مزيان لـ”الشعب”:

هجومات الشّمال القسنطينـي.. الضربـة القاضيـة

حوار: سهام بوعموشة

 انتقال الثورة من الأرياف إلى المدن أحبط مخططات الاستعمار

 وثيقة الصومام.. تفسير لأبعاد بيان أول نوفمبر

يؤكد البروفيسور سعدي مزيان، استاذ التاريخ العسكري والاستيراتيجية العسكرية بالمدرسة العسكرية العليا للإعلام والإتصال بسيدي فرج ورئيس المجلس العلمي والتقني للمتحف الوطني للمجاهد، أن هجومات 20 أوت 1955 شكّلت نفسا ثانيا للثورة الجزائرية التي  أثبتت عدالتها على المستوى العالمي، ويوضح في هذا الحوار الذي خصّ به “الشعب” أن وثيقة الصومام جاءت لتفسير أبعاد بيان أول نوفمبر 1954.

-  «الشعب”: نعيش أجواء محطة تاريخية هامة في مسار الثورة، وهي هجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 ومؤتمر الصومام في 20 أوت 1956.. ما تقييمك لهذه المحطة التاريخية ؟
 البروفيسور سعيدي مزيان: هجومات 20 أوت 1955 على الشمال القسنطيني، تعتبر نفسا ثانيا للثورة التحريرية، فقد جاءت بعد اندلاع الثورة مباشرة، وهي تشكل مرحلة صعبة، فحين نتكلم عن الثورة الجزائرية، نجد أن أصعب مرحلة تمتد من 1954 بداية الهجومات النوفمبرية واعلان ثورة التحرير وبيان أول نوفمبر وميلاد جيش التحرير الوطني إلى مؤتمر الصومام 20 أوت 1956.. وبالتالي.. مباشرة بعد قيام العمليات النوفمبرية، أخذت العمليات العسكرية منحى تنازليا، ولم تتمكّن من الحفاظ على نفس الوتيرة القوية، خاصة أن قوات الاحتلال الفرنسي كانت قد أزمعت خنق كل رغبة في التحرر.. غير أن الفرنسيين لم يكونوا ـ في البداية - يعرفون النخبة التي أسست للثورة، وهؤلاء سوف يظهرون من خلال اجتماع الـ22 ثم مجموعة الـ6، وعملوا على تفجير الثورة التحريرية إيمانا منهم بأن المهم إشعال فتيل الثورة.. سأذكر محمد بوضياف، ديدوش مراد، مصطفى ابن بولعيد، زيغود يوسف، وهؤلاء يمكن تلخيص موقفهم في كلمات فقط: “إذا استشهدنا، سيكملها آخرون”، يجب أن نعرف بأن مفجري الثورة كان لديهم إيمان يقيني رباني بأن الثورة ستنتصر بهم أو بغيرهم، لأنهم كانوا يطلبون النصر أو الشهادة.
-  ما هي أبعاد هجومات الشمال القسنطيني سياسيا وعسكريا؟
  هجومات الشمال القسنطيني لديها أبعاد استراتيجية بالدرجة الأولى، فعندما نتكلم عن مسألة نشر فكرة “الممثل الشرعي والوحيد لهذه الثورة هي جبهة التحرير الوطني”، فإننا نشير إلى جهود جبارة بذلت في مواجهة ترسانة القمع الفرنسية.. يجب أن لا تفوتنا ملاحظة أن هجومات الشمال القسنطيني تمّت في وضح النهار وليس في عتمة الليل، مقارنة بالهجومات النوفمبرية، وكان الهدف إبراز بأن هؤلاء المنضوين تحت لواء جيش التحرير الوطني، جزائريون يعرفهم السكان بأنهم بسطاء من عامة الشعب وعائلاتهم معروفة، ورفعوا السلاح ضد فرنسا دفاعا من أجل الجزائر والجزائريين.. هذه نقطة مهمة جدا.. فالهجوم في وضح النهار كان يقتضي إعدادا على مدى ثلاثة أشهر على الأقل، وكان بمشاركة كثير من رجالات وقادة الثورة الجزائرية، وأكبر الهجومات حدثت في سكيكدة، لذلك خلّد اسم زيغود يوسف، فهو القائد مع عمار شطايبي، بوقدوم، كحل الراس، غيرهم كثير تكفلوا بمهام مختلفة من منطقة واد زناتي ومن شلغوم العيد، وتمركز زيغود يوسف في فيلب فيل أي سكيكدة، كي تكون الضربة موجعة وتحقق الانتشار الإعلامي الواسع.. الهجومات تعني أيضا أن الثورة انتقلت من الأرياف إلى المدن، وفرضت على سوستال الانقلاب على عقبيه بعدما تبنى سياسة إصلاحية، لأنه وجد نفسه تحت ضغط المستوطنين ليتبنى سياسة عسكرية، ثم يحل محله شخص دموي من الحزب الاشتراكي وهو روبير لاكوست، ويحكم الجزائر من 1956 إلى 1958، بأسلوب جهنمي سماه بـ«الربع الساعة اللاكوستي”.
ولا يفوتنا أن الهجومات حقّقت نتائج كبيرة جدا، فقد فكّت الحصار على منطقة الأوراس، لأن العمليات النوفمبرية بها وبمنطقة القبائل أكثر بكثير من المناطق الثلاث الأخرى، وهنا يظهر دور مصطفى بن بولعيد الذي تمكّن من حشد 400 مجاهد في منطقة الأوراس، وأفشل مخطط سوستال لعزل الشعب عن الثورة من خلال ما يسمى بجبهة السلم..
-   هجومات الشمال القسنطيني حقّقت أهدافها إذن..
  طبعا.. فقد كانت إيذانا بانتقال كبير في العمل الثوري التحرري، وأصارحك بأنني كمؤرخ، أنزعج عندما أسمع بعض الجزائريين يصفون هذه الهجومات بأنها “عملية انتحارية”.. صراحة.. تزعجني هذه المصطلحات الهجينة على التاريخ الوطني، فالمجاهدون حين أعلنوا الثورة كانوا يبتغون الشهادة، ومنزلة الشهيد عند الجزائريين كبيرة جدا، أما مصطلح “الانتحار” فلا مكان له في أبجديات الثورة.. لم يكن عند الجزائريين هذا الاستلاب الفكري، لكن البعض تأثروا بالمصادر الفرنسية أو بالمدرسة الكولونيالية، فتبنوا بعض المصطلحات التي لا تليق بعظمة ثورتنا المباركة.
- اختيار توقيت الهجومات إذن، كان هو الآخر هجوما في شكل رسالة مضمنة..
 بالتأكيد.. فتنفيذ الهجومات في وضح النهار كان عاملا حاسما أرغم الغطرسة الفرنسية الوقوف أمام الأمر الواقع، فالثورة لم تكن تمرّدا بسيطا كما دأب الاستعمار على القول، وإنما كانت تعبيرا عن رغبة الشعب في التحرر.. ولقد أصيب المستعمر بالذهول، وأصبح خطابه مهلهلا.. ومن ذلك ما تناولته جرائد مثل “صدى الجزائر” وبعض تصريحات الساسة الفرنسيين الذين حاولوا تضليل الرأي العام العالمي، غير أن جيش التحرير الوطني برهن بأنه يعتمد مبادئ مستمدة من السيرة النبوية، وأنه لا يعتدى على النساء ولا على الشيوخ، بل إنه لا يقطع شجرة.. في المقابل.. لم يتورع المستعمر عن النيل من الجزائريين العزّل بأساليب وحشية، لم تنل من العزم على الاستقلال، ولكنها كانت براهين على أن القوة لا تشحذها إلا القوة.. ومن هنا، يمكن القول إن هجومات 20 أوت 1955، كانت بيانا واضحا، سمح بانضمام كثير من الجزائريين إلى الثورة، وابتداء من أوت 1955 بدأ الانخراط الشعبي الكبير، فقد انطلقت الثورة بـ1200 مجاهد حسب ما يتفق المؤرخون، ليصل تعداد أفراد جيش التحرير الوطني إلى 10 آلاف مجاهد، ويصبح الانضمام متواترا، ما يدل على أن الجزائري أصبح يؤمن بأن ما يقوم به هؤلاء هو حقيقة ثورة، وأن هناك جيشا منظما، وأن محاربة الفرنسيين ليلا ونهارا ممكنة، وأن الخلاص من المستعمرين مسألة موقف صارم.
لا يفوتنا كذلك أن نشير إلى أنه في سبتمبر 1955 عقد مؤتمر باندونغ، حيث شرع في تدويل أول محطة للقضية الجزائرية، بمشاركة امحمد يزيد وآيت أحمد كملاحظين، لأن جبهة التحرير الوطني أعطي لها منصب ملاحظ بالمؤتمر وقتها.. وهذا كله نتيجة للهجومات الكاسحة التي تعرضت إليها آلة القمع الفرنسية.
-   ماذا عن قراءتك لوثيقة الصومام؟
  هذا موضوع محاضرة قد تدوم ساعات، لكنني ألخصها في كلمات.. يجب أن نبدأ بالمفاهيم هناك من لا يفرق بين “المحضر” و«ميثاق مؤتمر الصومام”.. فهذا فيه أكثر من 70 صفحة نشرها الدكتور يحي بوعزيز، وهو مدون على الآلة الراقنة.. ميثاق الصومام هو مكمل لبيان أول نوفمبر 1954، هذا الأخير جاء في صفحتين فقط ومكتوب باللغة الفرنسية، لكنه دستور الدولة الجزائرية، الدليل هو دسترة بيان أول نوفمبر في دستور 2020 رغم أن فيه صفحتين لكن يظهر أبعاد وتوجهات الثورة المستقبلية، ويحدد طبيعة الدولة التي نادت بها الثورة التي ما تزال إلى يومنا هذا، هي الدولة الوطنية في أبعادها ودوائر الانتماء، وجاء مؤتمر الصومام ليفسر هذه الأبعاد لأن الثورة تطورت بعد 1956، لذلك أخذت أبعادا أخرى وبالتالي لما نتكلم عن مؤتمر الصومام، نقصد الميثاق، ولكن بعض الناس لا يفرقون بين “المحضر” و«الميثاق”.
في مؤتمر الصومام نص الميثاق على أمرين هما: “أولوية السياسي على العسكري وأولوية الداخل على الخارج”، هذه الأخيرة مسألة مفروغ منها لأنه بدون عنفوان العمل العسكري لا يمكن تحقيق الانتصار الدبلوماسي، كيف رضخت فرنسا للمفاوضات لولا العمل العسكري، فقد حاول الفرنسيون إجراء اتصالات في 1955 و1956 لمعرفة طبيعة هؤلاء القادة، ومحاولة استدراجهم وشراء ذممهم من أجل قمع الثورة في بداياتها، لكن عنفوان الثورة والولاء للجزائر، فرض على فرنسا الانصياع لمطالب الشعب الجزائري..

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024