الباحث سليمان عثماني لـ”الشعب”:

النص الرحلي.. سنـــــد مـــــــتين للترويـــــــــج السيــــاحــــــــــي

حوار: إيمان كافي

 

- أدب الرحلـــــــة استثمـــــر فيـــــه الأدبـــــاء والكتّاب لتنميـــــة اقتصادياتهـــــم
- الفـــــن الرحلـــــي ينبغـــــي أن يحظـــــى بمكانتـــــه المستحقـــــة
يرى الباحث سليمان عثماني أن الرحلة مرجع ثقافي سياحي مهم، ويرى أنه ومع ما يشهده العالم من تحولات ورقي تكنولوجي وانتشار مذهل لوسائل الإعلام والتواصل، وتحوّل السياحة والأسفار إلى ثقافة وصناعة اقتصادية عالمية، فإن النص الرحلي أصبح وسيلة فاعلة للترويج السياحي في عصرنا الحالي، ما يتطلّب إيلاء العناية والأهمية اللازمة بهذا الجنس الأدبي الذي يستدعي الاستثمار فيه للتعريف ببلدنا، مثلما استثمر الكتاب الأوروبيون..

 ”الشعب”: في البداية، عرفنا بسمات أدب الرحلة وبما يتميز به عن بقية أجناس الأدب؟
 سليمان عثماني: ودّدت وأنا في مستهل هذه البسطة المعرفية المتمحورة حول واقع أدب الرحلة في الجزائر وحظّه من الدراسة والاهتمام، ودوره في الترويج السياحي للبلاد، أن أستل هذه الشهادة التي أذكرها والتي تحضرني للكاتب والفيلسوف الفرنسي “فولتير”، لخصت بإيجاز كل ما يمكن  قوله عن أدب الرحلة، إذ يقول: كل الأجناس الأدبية جيدة، عدا الممل منها، أدب الرحلات بعيد عن الملل، وهو طارد للملل.. الرحلة من الأجناس الأدبية القديمة التي اتخذها الرحالة موضوعا ماتعا ثريا خصبا، يبرز فيها مكنون أفكاره، وقوة تصوره للمشاهد والأحداث والوقائع التي يسلك طريقها، فتقدم للقارئ في أسلوب مشوق، يحكي عن الآخر في أدق وأجل التفاصيل وأروع المعارف والمعالم.. وتذهب الأستاذة فتيحة العزوني في تعريفها بالأدب الرحلي إلى أنه “شكل أدبي يقوم على محكي السفر؛ لأنه نابع أصلا من بنية السفر، يعنى برصد الحياة الثقافية والاجتماعية للشعوب.. والغاية من المقولتين السابقتين وتتمثل في أن الأول ومن خلال مقولته أبرز مكانة هذا الأدب، وأما الثانية فقد عرفت به، وهذا اختصار لنموذجين من كثير، ممن راق لهم هذا الأدب، فارتقوا به، بعدما عرفوه حقّ المعرفة، فأولوا له الأهمية إبداعا ودراسة.
  هل شقّ هذا الجنس الأدبي طريقه منذ البدايات أم أن كتابه واجهوا بعض الصعوبات؟
  أدب الرحلة جنس أدبي قديم، فرض حضوره في محطات الأدب عبر مساره التاريخي، رغم تلك النظرة الضيقة لعديد النقاد والمنظرين الذين يرون أنه أدب لا يعلو إلى مصاف الأجناس الأدبية الأخرى، ولا يرقى أن يكون على شاكلتها، مثل الرواية والمسرحية والقصيدة، فالرحلة - في منظورهم - جنس أدبي هجين، تتنوّع فيه أساليب السرد والوصف ويختلط فيه الحقيقي بالخيال ويتداخل فيه الذاتي بالموضوعي، وهو حكم وتصوّر يشكل انتقاصا من وزن الرحلة الثقيل بقيمته الأدبية والعلمية، وتقليلا من قيمتها الفنية والجمالية والمعرفية، ولكنه في حقيقة الأمر، جنس أدبي متميز، شقّ لنفسه طريقا في مجال الإبداع، متحررا من كل ما يقيده شكلا ومضمونا، ضاربا عرض الحائط بالقوانين الصارمة والملجمة، والقوالب الفنية الثابتة المقولبة للأشكال الأدبية المتعدّدة التي سطت بسطوتها عليها، مقيدة لها، أما الرحلة فهي غير الذي سبق، إذ تعد متسعا سرديا مطاطيا، حاملا للمعارف ومعبرا عنها، بشتى الآليات والطرق، لتلك الحقول المعرفية المتنوعة المستلهمة لها، كالتاريخ والجغرافيا والأثنوغرافيا والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع وغيرها، من خلال أشكال تعبيرية وجمالية مختلفة جامعة لمختلف الثقافات.
  هل لك أن تحدثنا عن أهم مساهمات الأدباء الجزائريين في أدب الرحلة؟
 عرفت الجزائر الأدب الرحلي في إبداعه ماضيا وحاضرا، إذ نلقى الكاتب أبو القاسم سعد الله في كتابه “تاريخ الجزائر الثقافي”، يشير إلى أن الأدب الجزائري شهد أدبا رحليا قبل العهد العثماني، وذلك من خلال رحلة “التوجيني التلمساني” التي عدها أقدم رحلة جزائرية، ومن القديم أيضا رحلة محمد المقري التلمساني التي ساقها حفيده أحمد المقري في “أزهار الرياض”، وتنسب إلى أحمد القسنطيني المعروف “بابن قنفذ”، ومن الرحلات أيضا في العهد العثماني، التي اتخذت غالبا توجها حجازيا (أداء مناسك الحج)، أو علميا للتزود في طلب العلم، والاستزادة منه، ومن ذلك نجد رحلة البوني التي سماها “الروضة الشريفة في الرحلة الحجازية، والرحلة الورتلانية”، “نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار”، ورحلة “عاشور بن موسى القسنطيني”، ورحلة “عبد الرزاق بن حمادوش” وغيرها من القديم.
ومما أجادت به الأقلام الرحلية الجزائرية في عهد الاستعمار الفرنسي نجد “الرحلة الصيامية” لصاحبها سليمان بن صيام إلى فرنسا سنة 1852م، و«الرحلة القادية” لصاحبها أحمد بن قادة، رغم ما أخذ عنهما في تمجيد للمستعمر ووصف غارق لفرنسا إلى حدّ الافتتان بسحرها وجمالها الأخاذ.
  وماذا عن السياق التاريخي لتطور أدب الرحلة في الجزائر في العصر الحديث؟
 في القرن العشرين، عرفت الرحلة منعرجا آخرا، إذ لم تعد هذه الرحلات أدبا للتسلية والنزهة، ولا سردا لمعلومات ثقافية وأحداث تاريخية، بل صارت نوعا من النضال السياسي والاجتماعي والثقافي، بغية التغيير لواقع مرير معيش، وإبراز حق الوطن والمواطن فيه، والعيش على أرضه في أمن وأمان، من خلال الظفر بالحرية والاستقلال، ومن أمثلة ذلك رحلات الشيخ عبد الحميد بن باديس التي كتبها في “مجلة الشهاب”، وكذا رحلات الشيخ البشير الإبراهيمي التي جابت الأقطار العربية الإسلامية، ورحلات المفكر الحضاري مالك بن نبي لإيقاظ مشاعر الأمة الإسلامية وحل مشكلة الحضارة، ومن أمثلة الرحلات الحجية حديثا، “رحلتي إلى البقاع المقدسة” لصاحبها الشيخ باعزيز، ومن الرحلات السياحية والسياسية نجد من أمثلة ذلك “من وحي البرلمان الفرنسي” للرحالة محمد بوزوزو، و«رحلة وراء الستار: عدت من الاتحاد السوفياتي”، “ورحلة عائد من الصين” للشيخ محمد الصالح رمضان وغيرها. ^^ كيف استطاعت أن تكون هذه الرحلات مرآة عاكسة للعصور والأزمنة؟
 أسهمت هذه الرحلات في نقل كثير من الصور عن المراحل التاريخية التي عايشها الرحالة، بمشاهدها العديدة وأحداثها الكثيرة ووقائعها الوفيرة، لعديد البلدان والمدن المرتحل إليها من الأمكنة في الداخل والخارج على حدّ سواء، فأجادوا فيما سردوا، وتفننوا فيما وصفوا، من خلال تلك المشاهد للطبيعة الجغرافية لها، والظروف المعيشية لساكنتها، وتسليط الضوء على تاريخها وأمجادها، ورصد عاداتها وتقاليدها المتنوعة، فأسهموا بذلك في نقل ثقافات تلك الشعوب التي زاروها ومن وراء ذلك شدّ انتباه المعجبين وإثارة اهتمام السائلين وتشجيع المهتمين من الخاصة والعامة لزيارتها، من أجل الوقوف على معالمها التاريخية، وأثارها الحضارية والتزود من معارفها الوفيرة وعلومها الغزيرة.
 هل أثّر مسار التطوّر التاريخي لأدب الرحلة على الكتاب في الجزائر؟   
 الجزائر في العصر الحديث، واكبت المرحلة، فسار الخلف على درب السلف مبدعا في رسم معالم العصر وتجسيد سماته، من خلال أدب يُعنى بذلك، ويهتم كثيرا في رسم مشاهده وتصوير وقائعه ووصف أحداثه، ومن الرحلات المعاصرة “رحلات جزائري في ربوع إفريقيا” للكاتب نجم الدين سيدي عثمان، “ورحلتي إلى أمريكا” للكاتب فوزي مصمودي، و«رحلة الأحباب من توفيق الوهاب في ضبط الأنساب” للكاتب الشريف عبد القادر موهوبي السائحي الإدريسي الحسني، و«رحلة عائد من الكويت، انطباعات الزوار الجزائريين عن الكويت” لصاحبها سهيل الخالدي، و«الرحلة الصينية، عالمان جزائريان في بلاد الصين” للأستاذ الدكتور مولود عويمر، إضافة إلى “رحلة الجزائر ـ ليبيا، رحلة لا تنسى” و«يومان في تلمسان” للكاتب محمد الصالح الصديق و«رحلاتي إلى بلاد السافانا النيجر ـ مالي ـ السودان” للكاتب الصديق حاج أحمد.. ومن الأقلام الصاعدة في هذا الفن، نجد الكاتب ياسين قلوش في مؤلفه الرحلي “رحلة إلى السينغال.. مكاشفات وأسرار عن الصوفية في السينغال”، ومن الأمثلة أيضا، الكاتب عبد القادر مسكي من خلال رحلتيه تواليا في هذا الإطار، “رحلة الواحة الحمراء” وكذا “رحلة تندوف في زمن الكورونا” وغيرها كثير.
 هل تحظى الكتابات الرحلية في الجزائر بنصيبها من الدراسة والاهتمام؟
  فيما يتعلّق بحظ الرحلية الجزائرية من الدراسة، فإن الأدباء والنقاد المعاصرون اهتموا بالنصوص الرحلية دراسة ونقدا، مما خلفوه وخلف لهم من تلك المدونة الرحلية الجزائرية عبر مسارها الطويل، فالرحالة وكما لاحظناه، من خلال ذاك المسار التاريخي الذي تعاقبت عليه الأجيال، يكتبون ويبدعون من خلال رحلاتهم التي جسّدت واقعهم ومواقعهم، فخلفوا مدونة ثرية بمحتواها الأدبي والعلمي، فنالت بذلك نصيبا من الإبداع.
إلا أنه وبالرغم ما لأدب الرحلة من خصائص، ورغم ما يحمله من مكنونات معرفية انفرد بها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، ما يزال هذا الفن الأدبي ـ في رأيي ـ قليل الحظ في العناية والاهتمام بالجزائر في أيامنا هاته، على المستوى الأكاديمي إنتاجا نوعيا ودراسة ونقدا، على الرغم من وجود محاولات لتحويل بوصلة الاهتمام إليه، والانشغال به والاشتغال عليه، من لدن بعض الباحثين والمهتمين بهذا الحقل المعرفي الهام، إلا أنها تظل شحيحة قليلة، إذا ما قورنت بقيمته الأدبية والعلمية، وكذا الأهمية الكبرى التي تحظى بها الرواية، والتي حجبت نور البروز على عديد الأجناس الأدبية وبدرجات متفاوتة، ليصبح من اللازم والضروري، مراعاة المعايير التي أدت إلى هذا الاختلال، ومراجعة الآليات التي تحكم المفاضلة بين الأجناس الأدبية، حتى ينال كل جنس أدبي حقه، في ظل انفتاح معرفي وتوسّع نقدي عرفته المرحلة المعاصرة، ليكون لأدب الرحلة، ولغيره، الحق في الحظوة بالاهتمام، والحظ في الدراسة، وألا تكرس أحادية القطبية الروائية التي أوشكت أن تنسي الجميع باقي أجناس الأدب.
  لأدب الرحلة أدوار أخرى، يمكن الاستفادة منها في إنعاش السياحة مثلا.. هل هذا ممكن؟
الرحلة مرجع ثقافي سياحي، وستظل - في عصرنا هذا - مرجعا قويما للتعبير عن أشكال التعدّد القومي والاختلاف الثقافي والديني والاثني بين المجتمعات، رغم التحولات التي شهدها العالم، من رقي تكنولوجي وانتشار مذهل لوسائل الإعلام والتواصل وتحول السياحة والأسفار إلى ثقافة وصناعة اقتصادية عالمية، هذا الأمر الذي يجعل من النص الرحلي آلية ووسيلة داعمة للترويج السياحي، وذلك إذا ما أحسن استغلاله، من خلال إيلاء الأهمية لهذا الأدب إنتاجا ومن خلال كتابات نصوص رحلية جامعة لمختلف المعارف الهامة ببلدنا الجزائر، بلغة دقيقة في سردها، قوية في وصفها، تشد إليها كل عاشق ولهان.ويتطلب الاهتمام بهذا النوع من الأدب دراسة على المستوى الأكاديمي، كمثل حرفة ينبغي أن إجادتها وتطويع صناعتها، كونها موردا سياحيا مستقطبا للسياح ومطورا للاقتصاد، خاصة أنه حان الوقت لأن يستثمر في الصناعة الجيدة للرحلة من منظوره، وذلك من خلال إعطائها المكانة المستحقة على المستوى التعليمي داخل الجزائر، وأن نسلك طريق من عرفوا قدرها عبر العالم، فنالوا بذلك مرادهم وأضرب هنا مثلا بالكتاب الأوروبيين الذين استثمروا في الرحلة للتعريف ببلدانهم.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024