مساهمة

هـل بريطانـيا العظمى في الطريق إلى بريطانيـا الصغــرى

وليد عبد الحي

 أزعم بداية أن العولمة ( تماهي الحدود السياسية والاقتصادية والثقافية عبر الترابط التقني والاقتصادي والثقافي) خلقت ردّات فعل حادة لدى الثقافات الفرعية التي بدأت تشعر بتحويل تدريجي لها إلى تراث باهت يتوارى خطوة خطوة، ويبدو أن الضعف الاقتصادي في بعض المجتمعات بسبب اتساع منحنى لورينز داخل المجتمعات وبين بعضها  فتحَ الباب لترتيب عالمي جديد ما زال مموها بدرجة كبيرة.
وعند النظر في التاريخ البريطاني – كحالة للتأمل- سنجد أن هذه الدولة الأعرق في الرأسمالية والتي كانت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى تسيطر على 22% من مساحة الكرة الأرضية وعلى 20% من سكان العالم، وعلى 18% من الإنتاج الصناعي العالمي بدأت في التراجع التدريجي بظهور قوى دولية عملاقة زحزحتها عن موقعها ، وأصبحت تحتل المرتبة السادسة في إجمالي الناتج المحلي والمرتبة الخامسة في مؤشر التطور التقني وبراءات الاختراع...الخ.
لكن الخطورة لبريطانيا تتمثل في تداعيات خروجها من الاتحاد الأوروبي، والذي نكأ جرحا عميقا في التاريخ البريطاني، فرحلة إنشاء المملكة المتحدة بدأت مع  الملك أثيلستان الذي  وحد القبائل الفايكنجية  والانجلوسكسونية لإنشاء المملكة الانجليزية عام 927، بعدها بـ 608 سنوات تم ضم ويلز وفرضت اللغة الانجليزية وتم تهميش اللغة الويلزية، وبعدها بـ 172 سنة تمت الوحدة الرسمية مع اسكتلندا، لحقتها بعد 94 سنة ايرلندا  لكن  وبعد ذلك بـ 120 سنة وبعد حرب قصيرة عام  1921 تم  تقسيم ايرلندا وانضم جزء منها إلى المملكة المتحدة، بينما أصبح الجزء الآخر هو ايرلندا الجنوبية.
في المرحلة الحالية انتقل «فيروس الانفصال» إلى جسد المملكة المتحدة بشكل خاص والى الدول الأوروبية في الاتحاد بشكل عام، فهناك الآن 13 حركة انفصالية في الدول الأوروبية عدا عن بريطانيا( الباسك في اسبانيا، الكورسيكيون في فرنسا، عصبة الشمال في ايطاليا...الخ)، لكن قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد ولأسباب اقتصادية بشكل رئيسي وبتغذية وتحريض انجليكاني أمريكي تحديدا جعل احتمالات تفكك المملكة المتحدة أمرا موضع مناقشات بين القوى السياسية البريطانية وفي الأوساط الأكاديمية  بشكل واضح.
وأحيت موجات المهاجرين خلال العشرية الماضية من الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا نوعا من الحساسيات القومية وهو ما يساهم في تفسير تنامي اليمين الجديد بين القوى السياسية الأوروبية، وامتدت ظلال ذلك إلى القوى المحلية في بريطانيا بخاصة في ايرلندا واسكتلندا بل وحتى في بعض شرائح المجتمع الويلزي.
من جانب آخر، فان مراقبة الوضع الجيوسياسي  للمكونات البريطانية تشير إلى أن نزعة الانفصال مرتبطة بالموقع الجغرافي للمكون البريطاني بخاصة في الأطراف، فاسكتلندا في أقصى الشمال-وايرلندا الشمالية في بر منفصل عن الدولة الأم، بينما الدولة المركز هي انجلترا – أما ويلز فتم تسلل التيار الانفصالي إليها وهي منطقة أطراف كذلك،  وتعزز الأمر بفقدان الدعم الأوروبي لها وتنامي النزعة الانفصالية في كل من اسكتلندا وايرلندا .
أما إيرلندا التي كانت حتى عام  1922 مكونة من 32 مقاطعة وانفصل منها بعد الحرب الأهلية 26، أي بنسبة تفوق 82%، فإن أغلب الكاثوليك الايرلنديين يريدون الانفصال والوحدة مع ايرلندا الجنوبية، بينما أغلب البروتستنت يريدون البقاء مع انجلترا، ووصل العنف إلى حد محاولة الجيش الجمهوري الايرلندي اغتيال رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر عام 1984، ويبدو أن الحزب الجمهوري الأيرلندي الرئيسي Sinn Féin يرحب بـما يسمونه «الاضطراب الكبير» الذي قد يفتح المجال أمام الوحدة «الإيرلندية»، فقد عاد للعمل  تنظيم سري هو « الحزب الجمهوري الجديد» وهو حزب  منشق عن الحزب الجمهوري الانفصالي  القديم والذي مارس العنف خلال الفترة من نهاية الستينات من القرن الماضي إلى نهاية التسعينات، وتجذرت دعوات الانفصال لتصل نسبة مؤيديها إلى 62% من سكان شمال ايرلندا نتيجة الضرر الكبير الذي استشعره المزارعون الايرلنديون من قرار البريكسيت، ناهيك عن «وساوس» ايرلندا الجنوبية  بالدعوة للانفصال بخاصة أن دستورها ينص على هدف الوحدة الايرلندية، إلى جانب  أن قوة الجذب الايرلندية الجنوبية تزايدت مع تحقيق ايرلندا الجنوبية احد أعلى معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا.
وفي اسكتلندا  التي صوتت عام 2014 ضد الانفصال قبل طرح موضوع البريكسيت ، نجد أن نسبة التأييد للانفصال التي يعبر عنها  بشكل واضح الحزب الوطني الاسكتلندي  بلغت 46% مقابل 43% للبقاء مع المملكة المتحدة، ومعلوم أن القوميين الانجليز يميلون للتخلص من اسكتلندا.
 وبينما كانت ويلز هي الأقل تأييدا للانفصال بنسبة 33%، لكن هذه النسبة تشير إلى وزن سياسي ليس قليلا لاسيما أذا راقبنا معدل تزايد هذه النسبة مع السنوات السابقة بخاصة التزايد الذي أعقب إقدام مارغريت ثاتشر على إغلاق مناجم الفحم في ويلز في أواسط الثمانينات، إلى جانب ارتفاع نسبة الفقر وضآلة معدلات النمو الاقتصادي مقارنة بالمكونات الأوروبية الأخرى.
ولو نظرنا إلى نموذج التفكك السوفييتي والتشيكي واليوغسلافي ، فان المركز ( روسيا، التشيك- صربيا) كانت تنطوي على نزوع للتخلص من المكونات الأخرى  بخاصة نتيجة الإحساس بأنها عبء على المركز، وفي المملكة المتحدة، فان المركز البريطاني(انجلترا) صوت بمعدل 52% للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وفي استطلاع الرأي في حزب المحافظين البريطاني عام  2019، تم طرح التساؤل التالي:  هل تؤيد الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى لو أدى إلى انفصال اسكتلندا قال 63%  نعم..ونفس السؤال عن ايرلندا الشمالية أيده 59% ، وهو ما يؤكد  أن الحزب المحافظ البريطاني هو حزب  تتجذر فيه نزعة قومية ودينية مذهبية، ويرى أن  خروج اسكتلندا من المملكة المتحدة سيعزز قوة المحافظين ليبقوا في السلطة.
وطبقا لإيقاع التفكك في النماذج المعاصرة ، فان بريطانيا مقدمة على احتمال التفكك خلال الفترة من 2030-2035، وإذا استمر التسارع في الوضع الاقتصادي المتراجع لبريطانيا، فان الفترة قد تسبق ذلك، وهو ما نرجحه إذا أخذنا في الاعتبار أن معدلات النمو الاقتصادي البريطاني خلال الثلاثين سنة الماضية كانت تتباطأ باستمرار، ويكفي النظر في المؤشرات التالية لمعدلات النمو:
1987- 5.4%
1997- 5
2007- 2.4
2017- 1.7
2020- 1.3
أما العجز التجاري فهو بالسالب من عام 2000 إلى الآن ، وسأعطي  بعض الأمثلة عليها منعا للإطالة:
2010 بلغ العجز التجاري ما يقارب 172 مليار دولار
2016 بلغ العجز 225 مليار دولار
2019 بلغ العجز 222 مليار دولار
إن كل هذه المؤشرات تضع أساسا متينا لطرح تساؤلنا: هل المكونات التاريخية من الثقافات الفرعية  التي شكلت ما يسمى  بريطانيا العظمى منذ 927 ميلادي بدأت تعيد النظر في انتمائها لتنتقل من بريطانيا إلى أوروبا الكبرى لتعود بريطانيا لحجمها الطبيعي كما عادت روسيا ؟ إنها قضية نتركها للنقاش.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024