لماذا نقرأ؟

بقلم: أسامة إفراح

في البدء، كنتُ كلّما طرحتُ هذا السّؤال، تلقّيتُ نوعا من الإجابات الجاهزة المركّزة على «فوائد القراءة»، والحكم بأنّها «شيء جيد»..ولكن بمجرّد التّأكيد على أنّ هذه الإشكالية تُسائل ما وراء الفوائد والجدوى، بل مصدر الفعل نفسه، كنت أرى ومضة أو بريقا في عين المُساءَل، فأدرك حينها أنّ بابا جديدا قد فُتح..إن طرح أسئلة أنطولوجية مثل «لماذا نقرأ؟»، على بساطتها الظاهرية، من شأنه أن يفتح نوافذ جديدة في العقل، تقرّبنا إلى إدراك ذواتنا ولكن بوعي..تماما كما تسمح النّوافذ بولوج نور الشّمس إلى الغرف المظلمة حيث تختبئ الأفكار..
 سؤال «لماذا نقرأ؟» فيه قراءتان أو وجهان: وجه أول يحمل معنى «ما الجدوى من القراءة؟ أو ما هي الفائدة التي نبتغيها من فعل القراءة؟»..ووجه ثانٍ يحمل معنى «ما الذي يدفعنا أصلا إلى القراءة؟ ما الذي يجعل الإنسان يختص بفعل الكتابة والقراءة؟».
 أما الوجه الأول للسّؤال فنجده الأوفر حظّا من حيث المعالجة، حيث لا تكاد تُذكر القراءة إلاّ وذُكرت معها محاسنها وفوائدها، من تنمية للذكاء، وتقوية للتعلم، وشحذ للخيال، وتوسيع للآفاق. وأما الوجه الثاني، فلا نهتمّ كثيرا بالتطرّق إليه، على الرغم من أنّ موارد كبيرة تخصّص للقراءة والكتاب وما يدور في فلكهما من أنشطة وتظاهرات..وهو ما دفعنا إلى أن نعيد طرحه اليوم..»لماذا نقرأ؟» وحينما نجيب عن هذا السّؤال، قد يكون بإمكاننا أن نجيب عن أسئلة أخرى من قبيل: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟
المقاصد..والغايات
«الكتاب مثل حديقة نحملها في جيبنا»..هو مَثلٌ صيني نجده على صورة تحت عنوان «فوائد القراءة»، نشرتها، قبل أيام، إحدى دور النشر الجزائرية على صفحتها، لخّصت مجموعة من الفوائد، نذكر منها: أنّ القراءة تمرين للعقل، تُوفّر المعرفة، تُحسّن المزاج وتقلّل من الضّغط النّفسي، تقوّي التركيز، تُحسّن مهاراتِ الكتابة، تُوسّع مخزون الكلمات وتقوّي ملكة اللغة، تنمّي الإبداع، تطرح أسئلة عميقة، وتجعلنا نبحر في عوالمَ مجهولة..مجموعة من الفوائد تُعزى للغة، في خطاب يمكن أن نجده يتكرر في حالات أخرى، كمشاهدة فيلم وثائقي، أو مسرحية، أو السفر والترحال، أو حتى ممارسة الرياضة فيما يتعلق ببعض الخصائص سابقة الذكر.
ولكنّ ما يثير الانتباه، هو أن كلّ محاولة للترويج لواحدة من الممارسات السابقة تعمل على الربط بالفوائد المنتظرة، ما قد يقودنا إلى الاعتقاد بأنّنا نقرأ، لأنّنا ننتظر أن نجني ثمارا معيّنة من القراءة.
قد يكون هذا من باب التقليد، تقليد الناجحين، فمنذ الطفولة يقال لنا إن فلانا ذكي ومتفوّق لأنه يقرأ كثيرا، فنقلّده..أو أنّنا نرى من هو أكبر منا سنّا، أحد الأبوين أو الإخوة، يقرأ، فنعمل على تقليده.
وقد يكون من باب السعي إلى أن نتبوّأ مرتبة ما في المجتمع، وقد أظهر لنا التاريخ كيف أن من أتقن القراءة والكتابة والحساب حظي بمكانة ضمن طبقة (اختلفت أسماؤها حسب العصور) تقوم على تنظيم شؤون الدولة في الإدارة والقضاء والمحاسبة، دون أن ننسى السلطة الدينية. كان هذا قبل دمقرطة التعليم، والتي خطت خطواتها الأولى مع اختراع قلب الموازين، وهو مطبعة غوتنبرغ، اختراع انبثقت منه كلّ أشكال القراءة ذات الانتشار الواسع، من الكتب إلى الجرائد والمناشير.
 قد تكون الغاية هي مجرّد إشباع الفضول، وإلا فما الذي يدفع طفلا إلى القراءة وهو لا يُدرك أصلا منافعها وفوائدها؟ هل يرمي الطفل مثلا إلى أن يحسّن مكانته في المجتمع؟
 أو قد تكون على سبيل التمرّد والتحدّي: هنالك من يذهب إلى اعتبار أن القراءة هو فعل تمرّد على السلطة الأعلى، التي تكون في المراحل العمرية الأولى السلطة الأبوية. ومن الأمثلة على ذلك لجوء المراهق إلى قراءة الكتب التي يمنعها الكبار عنه، في التوقيت الممنوع كذلك (آخر الليل مثلا). وإذا كانت هذه ردّة فعل المراهق، فإنّنا نجدها تتكرّر لدى البالغين تعبيرا عن أشياء منها التحدّي والتمرّد على السلطة العليا، كالإقبال على الكتب الممنوعة من التداول، تصديقا لمقولة: «كل ممنوع مرغوب».
كما قد يكون السّبب الأهمّ في اكتساب عادة القراءة هو التنشئة الاجتماعية: فالنّظام التّعليمي المنتشر في أغلب المجتمعات يفرض على الطفل القراءة والكتابة، كحاجة من الحاجات التي يفرضها النمط الحياتي المعاصر..هو إذن قالبٌ جاهز يشكّل شخصية الفرد ويختار له ما يكتسبه من عادات، بما في ذلك القراءة، التي يُفترض فيها أن تعلّم الإنسان حريّة التفكير..وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: كيف يجتمع التقييد والحرية في فعل واحد؟
لذلك، نضيف أنّه من أهداف القراءة امتلاك القدرة على التأثير في الآخر، الذي يكون بالإقناع لا بالإكراه..ومن مثل هذا المنطلق بنى هابرماس ديمقراطيته التداولية، وما يكوّنها من ركائز، كالفعل التواصلي، والفضاء العمومي، وأخلاقيات النقاش. بالنسبة لهابرماس فإن الإنسان هو كائن لغة، وباللغة يكون التواصل، وبها يكون التأثير..هل يمكن أن نقول إننا نقرأ لكي نؤثّر ونتأثّر؟
ورق..حجر..مقصّ
تلعب التكنولوجيا دورا بالغ الأهمية في تغيير وإعادة تشكيل ملامح الحضارة الإنسانية، لذلك لن يكون مفاجئا أن نجدها تتدخّل أيضا في موضوع القراءة والكتابة، سواءً من حيث الحامل على غرار الكتاب الرقمي، والكتاب المسموع، أو من حيث علوّ كعب الصورة، وممّا ساهم في ذلك سهولة الانتشار (سواءً العمودي أو الأفقي)، وسهولة التخزين. كما أن وسائل الاتصال الحديث وشبكات التواصل الاجتماعي خلقت أشكالا جديدة من اللغة، كسرت حواجز قواعد الصرف والنحو، وصار المهم هو وصول الفكرة بشتى الوسائل وإن بمجرّد إيقونات أو رسوم متحركة.
وإذا كان هذا هو الاعتقاد السائد، فإنّ الدراسات العلمية قد يكون لها رأيٌ آخر.
حسب دراسة لجامعة طوكيو نُشرت شهر مارس الماضي، فإن القراءة على الورق تجعل الدماغ أكثر نشاطًا. للوصول إلى هذا الاستنتاج، أجرى الباحثون اختبارًا على 48 متطوعًا تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا، تمّت دعوتهم لقراءة محادثة بين شخصيات خيالية تحتوي على مجموعة متنوّعة من المعلومات مثل التواريخ والمشاريع والمواعيد وما إلى ذلك.
فيما بعد، تمّ تقسيم المشاركين إلى ثلاث مجموعات: الأولى كتبت هذه المعلومات على الورق، والثانية على لوحة إلكترونية، والثالثة على هاتف ذكي. وبعد استراحة، كان على كل مشارك في كل مجموعة الإجابة على استبيان لتقييم درجة الحفظ. وظهر بعد ذلك أن من سجلوا ملاحظاتهم على الورق أجابوا على الاستبيان في 11 دقيقة، ومن استخدموا اللوحة الإلكترونية أجابوا في 14 دقيقة، وتطلّبت الإجابة 16 دقيقة بالنسبة لمستخدمي الهاتف الذكي. وخلص الباحثون إلى أن مستخدمي الورق كانوا أسرع في الرد على الاستبيان، كما خلصوا إلى أن الحامل الورقي يحفز الذاكرة بشكل أكبر.
«أظهرت تجاربنا الحالية أنّ عمليات تنشيط الدماغ المتعلقة بالذاكرة، والصور المرئية، واللغة أثناء استرجاع معلومات محددة، بالإضافة إلى التشفير الأعمق لتلك المعلومات، كانت أقوى لدى المشاركين الذين يستخدمون ورق دفتر الملاحظات مقارنةً بمن يستخدمون الأجهزة الإلكترونية»، تقول الدراسة، التي أوصت بأخذ هذه النتائج في الاعتبار فيما يخصّ طرائق التعلّم.
هذه الدراسة تنتصر للورق، وتخبرنا عن أحسن الوسائط لتنشيط الذاكرة، وهو أحد أهداف / فوائد القراءة، وقد تخرج علينا دراسة أخرى ترافع من أجل الصورة، والألوان، والسمع، وغيرها..ولكنها جميعا لا تجيب بالضرورة عن سؤالنا الذي يسبق أصلا مرحلة / فعل القراءة: لماذا نقرأ؟
تجربة وجدانية شخصية
بالعودة إلى هابرماس، نجد الفيلسوف الألماني يميّز بين ثلاثة أنواع من الموضوعية أو ثلاثة «عوالم فرعية» تتعلق بالعالم المعيش: العالم الطبيعي، العالم الاجتماعي، والعالم الداخلي المتعلق بالخبرة الذاتية لكل فرد.
دائما ما نجد الخبرة الذاتية تصنع الفرق بين هذا الإنسان وذاك..وبالعودة إلى موضوعنا الرئيس، نجد أنّ تجربة القراءة عالية الخصوصية، بحيث تختلف من شخص إلى آخر. هذا ما يمكن ملاحظته من الكتب التي حاولت أن تتصدّى لموضوع القراءة، أو على الأقل تلك التي استطعتُ الوصول إليها. قدّمت هذه الكتب وصفا لتجارب شخصية، صحيح أنّها تجارب كتّاب ومبدعين وباحثين مرموقين، ولكنها تبقى تجارب شخصية، تشوبها الكثير من الذاتية.
أعترف أنّني كنتُ أرى في ذلك قصورا، يؤثّر سلبا على عملية البحث عن إجابة لسؤالنا..ولكنّ القراءة تجربة شخصية بالفعل، لذلك لا يوجد جواب متفق عليه عن سؤال «لماذا نقرأ؟» أو بالأحرى قد لا يجوز لنا أن نقول بوجود جواب صحيح وآخر خاطئ.
وهكذا، فإنّ ثمار سنوات من القراءة قد تختلف من شخص إلى آخر، حسب شخصيته، وتجاربه في الماضي، وتراكمه المعرفي، ومحيطه وسياقه السوسيوثقافي، ومضامين الكتب التي قرأها، واللغات التي يتقنها، ومدى قدرته على ربط المعلومات التي اكتسبها مع بعض البعض، أو مع واقعه المعيش.
من أجل ذلك، يصل هذا المقال إلى نهايته، وما تزال أسئلة كثيرة حول الموضوع عالقة: هل تؤثّر اللغة المستعملة في عملية القراءة والكتابة؟ هل تشجع لغة ما على القراءة أكثر من غيرها؟ هل يشجّعنا كتاب ما على أن نقرأه أكثر من غيره؟ إن صحّ هذا القول، فما هو الأكثر تأثيرا: شكله؟ أم مضمونه؟ عنوانه؟ أم اسم كاتبه؟ أم هذه العوامل كلها مجتمعة؟
من أجل صورة أكثر اكتمالا
أسئلة كثيرة، كلّ ما نستطيع فعله هو طرحها على أكبر عدد من العقول النيّرة، التي قد تقدّم لنا أفكارا من زوايا مختلفة، لترسم صورة أشمل وأوضح إن نحن جمعناها معاً.
في هذا الصدد، يتساءل الدكتور عبد الرزاق بلعقروز، أستاذ الفلسفة بجامعة سطيف: «بأي معنى أنّ فعل القراءة شهد انزاياحات وتملكات من جهات تأويلية متعددة؟ كيف نتفكّر هذه الحقيقة؟ هل نسير وفق منظورية تأويلية معيّنة أم يجب عليا تذكُّر المعنى المختلف عن هذه التأويلات؟ أي ذلك الذي يسكن في المقام التأويلي الأشد التحاما مع نماذجنا المعرفية وفرضياتنا المنهجية وخياراتنا الوجودية؟».
ويخلص د - بلعقروز إلى أنّ «تعيين الصّفة الجوهرية للإنسان بوصفه مخلوقا قارئا، يستلزم الإقرار بأن أي تحول في الإنسان أو رغبته في الارتقاء أو الفهم أو الحوار أو التجديد مشروط بالقراءة، فهم نفسه والحوار مع غيره مشروط أيضا بالقراءة».
من جهته، يقترح علينا المتخصّص في التداوليات، الدكتور ثروت مرسي من مصر الشقيقة، مقالا عنوانه «فعل القراءة: مغامرة تداولية»، يشير فيه إلى أنّ «الفعل»، من منظور تداوليّ موسّع، مُركّب يحتوي على ثلاثة وجوه متلازمة: مجرّد القيام بشيء، والقصد المتضمّن في القيام بهذا الشيء، ثمّ الأثر المترتّب على القيام به. وبناءً على هذا؛ فإنّ القصد المتضمّن في فعل القراءة يرتبط عادة بالحاجة: الحاجة إلى المعرفة، أو الحاجة إلى المتعة الخيالية أو التخيليّة الخالصة، أو حتّى الحاجة إلى تمضية الوقت. ويدعو د - ثروت إلى ضرورة أن ترسّخ أنظمتنا التعليميّة مهارات التعلّم من أجل الحياة، التي تحوي ربط المواد التعليميّة المختلفة ببعضها بعضا، وتصميمها بناءً على المقاربة البينيّة التي تدمج الأهداف والسيرورات.
وفي أسلوب شيّق يخاطب القارئ بشكل مباشر، يقترح علينا الدكتور عبد الحسن عباس، أستاذ اللسانيات من العراق الشقيق، مقالا عنوانه «في ضرورة القراءة وما إليها»، يقول فيه إنّ «سؤالا عن علة القراءة أجده ليس بالهيّن أبدًا. فإذا ما نظرنا له أول وهلة حسبناه سهلا، وأجبنا عنه إجابة مباشرة تقريرية، وإذا ما تفحّصت دوافعه وأبصرتُه سؤالا أنطولوجيا، ألفتُه متداخلا أيما تداخل. ولأننا في مقام ثقافي وبرحاب مجلة فكرية عامة، فإننا سوف ننحو بالمقالة هذه، نحو التبسُّط الذي لا يضر بالعمق».
أما الرّوائي وأستاذ الدراسات الثقافية بجامعة جيجل، الدكتور فيصل الأحمر، فيقسّم مقاله «أنا أقرأ إذن فالعالم موجود» إلى محاور، في شكل أفكار عن القراءة استخلصها الكاتب من عدد من المدارس. ويرى د - الأحمر أنه من الأجدى «العمل على تغليب القراءة اليقظة الانتقادية، والتي تجدد عقد الوعي مع هذه النصوص بعيدا عن استبداد الأحكام الماضية». ويضيف: «وهذا ما يجعلني مؤمنا بأنّ اتخاذ النصوص علامات ثقافية (وهو ما تفعله الدراسات الثقافية التي أنا منخرط فيها منذ سنوات) أهم بكثير من الاستمرار في التعامل مع النص كعلامة جمالية او كإحالة ثقافية ماضية».
فيما يلاحظ الدكتور محمد كاديك من جامعة الجزائر، في مقاله «في مسألة القراءة»، أنّ هذه الأخيرة «لا تُطرح بالضّفة العربية، إلا وترتبط بخطاب يجعل منها عنوانا لـ «التّطور» و»الرّقيّ» و»الازدهار»، بل إن القرّاء وغير القرّاء، يُجمعون على أنّ فعل القراءة هو القاعدة الصّلبة التي تتأسّس عليها الحضارات وترتقي بها الأمم..ولكنّ هذا «الإجماع» - في المقابل - لم يكن له أثر يذكر على الواقع المعيش، ذلك أن الشّكوى من ضعف المقروئيّة تتواصل، بدورها، مع كل مناسبة تُتاح للتّنويه بـ «فضيلة القراءة»..
ويقترح د - كاديك عناصر دراسة يُرجى أن تكون لها فعاليتها في التأسيس لفعل القراءة، وتجاوز المصاعب التي تطرحها مختلف الإشكاليات العالقة أمام الجهود النبيلة التي تبذل يوميا من أجل تحويل القراءة إلى فعل اجتماعي يومي لا غنى عنه، مشيرا إلى أهمّ العوائق المستديمة. «وبما أن فعل القراءة، يعتمد - في أفقيته - على الأعمال الأدبية بالضّرورة، فإنّ العناية بالمشهد الأدبي العام، ومرافقة الناشرين والكتاب في تقديم مادة تستحق القراءة، ينبغي أن يكون أولوية قصوى».

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024