ليبيا

التّنافس التّركي الفرنسي وأثره على تسوية الأزمة

د - آسيا قبلي (باحثة في الدّراسات الإستراتيجية)

شهدت السّاحة اللّيبية حربا دولية غداة اندلاع الأزمة، حيث سعت الدول المتدخّلة تحت مظلّة منظمة اتفاقية شمال الأطلسي (الناتو) إلى إسقاط النظام، بذريعة تطبيق القرار الأممي 1973 القاضي بفرض منطقة حضر جوي، وعلى رأس هذه الدول فرنسا التي حرصت على حماية وجودها في إفريقيا ضد مساعي القذافي في استقطاب الدول الأفريقية لصالح مشاريعه الخارجية. والتحقت تركيا بالدّول المتدخلة في الشأن الليبي، بعد تحفظها على تدخل الناتو، لتعويض الخسائر التي لحقت مشاريعها الاقتصادية التي توقفت جراء الأزمة. وانعكست هذه التدخلات على الوضع السياسي والأمني في ليبيا، التي انقسمت إلى معسكرين متناحرين، أحدهما في الشرق والآخر في العاصمة طرابلس. ورغم تشكيل حكومتين معترف بهما دوليا، إلا أنهما لم تستطيعا السّيطرة على الوضع العسكري في الشرق.

نحاول من خلال ما يأتي العودة إلى أسباب التنافس التركي الفرنسي في ليبيا، وانعكاساته على المشهد الأمني هناك.  
فرنسا..ذهب القذافي ونفط ليبيا
خطّطت فرنسا لإسقاط نظام معمر القذافي، على خلفية معلومات استخباراتية تفيد أنّه قرّر الشروع في تجسيد مشروع عملة اقتصادية إفريقية موحّدة يسري التعامل بها بين عدد من الدول الأفريقية الساحلية، وهي في معظمها مستعمرات فرنسية سابقة تتعامل بالفرنك الفرنسي فيما يسمى بدول الفرنك الفرنسي، وهذا كان ليؤثّر على اقتصادها وهيمنتها على دول المجموعة، وقد حجزت القوات المتدخلة ما مجموعه 143 طنا من الذهب، ومثلها من الفضة بقيمة 7 مليار دولا أمريكي، أُخرجت قبل التّمرد من البنك المركزي الليبي ونُقلت إلى سبها في طريقها إلى النيجر والتشاد، وكان من المفترض استخدامها لصك عملة لعموم إفريقيا هي الدينار الذهبي الأفريقي بديلا عن الفرنك الأفريقي - حسب ما جاء في مراسلة إلكترونية لوزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون بعنوان «عميل فرنسا وذهب القذافي» رفعت عنها السرية العام 2016 - وكان قائد الثّورة الليبية المقتول أعلن نيته في إنشاء عملة موحدة للتعامل بين دول الساحل، خلال قمة الاتحاد الأفريقي للعام 2009.
وعليه دعّمت فرنسا المعارضة الليبية المتواجدة على أراضيها، التي هوّلت الأحداث مستغلة مظاهرات أهالي ضحايا سجن أبو سليم، لتأجيج الوضع. واتُّهم نظام معمر القذافي حينها باستهداف المدنيين في قصف جوي لإخماد الاحتجاجات التي اتسعت رقعتها. وفي هذه الظروف استعجلت فرنسا مجلس الأمن لفرض حظر جوي على ليبيا، وإصدار القرار 1973، الذي أُخرج عن مضمونه من حماية المدنيين إلى إسقاط النّظام ثم قتل الرئيس الليبي، متجاوزة مجلس الأمن والسلم للاتحاد الأفريقي الذي كان يحضر لفتح مفاوضات بين معمر القذافي ومعارضيه لتفادي انزلاق الأوضاع، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ حماسة الرّئيس الفرنسي، آنذاك، نيكولا ساركوزي للتّدخّل، يؤكّد - حسب تقرير نشره البرلمان البريطاني العام 2017 - بعنوان «ليبيا: تشخيص التدخل والانهيار والخيارات المستقبلية لسياسة المملكة المتحدة»، فرضية أنه سعى إلى تلميع صورة بلاده التي فشلت في حماية النّظام الموالي لها في تونس من السّقوط، وهو ما أثّر سلبا على إدارته التي بدأت تتفكّك إضافة إلى العلاقات المالية المشبوهة مع الرئيس الليبي المقتول، الذي موّل حملته الانتخابية لرئاسيات فرنسا، وقد أثبتت العدالة الفرنسية أنه تلقى أموالا من القذافي وواجه تهما تتعلّق بالفساد. يضاف إلى ذلك محاولته تبديد مخاوف مستشاريه بشأن مخطّطات القذافي الهادفة إلى دحر فرنسا من أفريقيا باعتبارها القوة الفرنكوفونية المهيمنة، ومنح الجيش الفرنسي فرصة لتأكيد مكانته في العالم، إلى جانب رغبة فرنسا في الاستيلاء على أكبر حصة ممكنة من النفط الليبي، وزيادة التأثير في منطقة شمال إفريقيا.
الإقتصاد في معادلة التّحرّك التّركي
أمّا بالنسبة لتركيا، فقد التزمت الصّمت في بداية الأزمة الليبية، قبل أن تلقي بكل ثقلها بعد سنوات، حيث تردّدت فيما تعلق بفرض منطقة حظر جوي على ليبيا، ووصفت الدعوة بأنها
«غير مفيدة وتنضوي على مخاطر»، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: «إنّ التدخل العسكري من قبل حلف شمال الأطلسي في ليبيا أو أيّة دولة أخرى ستنجم عنه آثار عكسية تماما»، لكنّها اعترفت أشهرا بعد اندلاع الأزمة بالمجلس الوطني الانتقالي في جويلية 2011، قبيل اغتيال القذافي، تلا ذلك زيارة رسمية من أردوغان إليها. كما رفضت الحل العسكري عند قيام خليفة حفتر بعملية الكرامة العام 2014، حيث دعت إلى الحوار السياسي، ودعمت حكومة الوفاق المعترف بها دوليا بقيادة فايز السراج.
هذا التغيُّر في الموقف التّركي إزاء الأزمة الليبية تحكمه معايير اقتصادية، إذ تحتل ليبيا المرتبة الثالثة من حيث استقطاب الاستثمارات التّركية بنحو 30 مليار دولار، وقدّرت قيمة التبادل التجاري بين الطرفين قبيل اندلاع الأزمة الليبية بـ 10 مليار دولار.كما أعلنت ليبيا عن منح استثمارات بقيمة 100 مليار دولار للشركات التركية إلى غاية 2013، واستثمارات بقيمة 15 مليار دولار في مجال البناء والتشييد، ومنذ 2010، بلغ عدد المشاريع التي دخلت حيز التنفيذ 160 مشروعا. وتقدر قيمة الأعمال التي وصلت مرحلة التّسليم بين 3 إلى 4 مليارات دولار.
وقد كبّد توقّفُ المشاريع التّركية في ليبيا بسبب الأزمة رجالَ الأعمال الأتراك خسائر كبيرة، فقُدرت قيمة المشاريع العالقة للشركات بـ 19 مليار دولار، ومستحقاتها بمليار دولار، أما التأمينات فبلغت 1.7 مليار دولار، في حين بلغت قيمة الأضرار التي لحقت بالمعدات والآلات 1.3 مليار دولار، وتدفع رابطة المقاولين الأتراك، ما مجموعه 50 مليون دولار سنويا ثمنا لخطابات الضمان، حسب إحصائيات 2019.
من جهة أخرى، تسيل احتياطات الطاقة الليبية لعاب الكثير من دول العالم بما فيها تركيا التي تسعى لضمان حصة منها، وفي هذا السياق قالت وكالة الطاقة الأمريكية أنّ احتياطي النفط الليبي ارتفع من 48 مليار برميل إلى 74 مليار برميل، وبذلك تحتل ليبيا المركز الخامس عالمياً في احتياطيات النفط الصخري بعد روسيا وأمريكا والصين والأرجنتين. كما ارتفع العمر الافتراضي لإنتاج النفط الليبي من 70 عاماً إلى 112 عام، بعد الإعلان عن أن الاحتياطي الليبي من النفط الصخري والقابل للاستخراج بالتقنيات الحالية يبلغ 26 مليار برميل. وارتفعت احتياطات الغاز الليبي إلى ثلاثة أضعاف، حيث بلغت 177 ترليون قدم مكعب، بزيادة 122 ترليون قدم مكعب من الاحتياطي القابل للاستخراج من الصخور، مقابل 55 ترليون قدم مكعب قبل الأزمة.
ويقع هذا المخزون الضخم من النفط الصخري شمال غرب ليبيا وجنوبها الغربي، وهي مناطق تحت سيطرة حكومة الوحدة الوطنية، وبما أنّ تركيا فقيرة جدا في الموارد الطبيعية وتستورد 90 بالمائة من حاجياتها من الطاقة، فإنّ ليبيا تمثل شريكا اقتصاديا مربحا. وعليه تسعى لضمان حصة من إعادة الإعمار لتعويض الخسائر والأضرار التي لحقتها بفعل الاضطراب السّياسي والأمني في ليبيا.
وعليه فإنّ الإصرار التركي على التدخل العسكري في ليبيا في حال عدم احترام المشير خليفة حفتر بنود اتفاق جنيف - حسب تصريح للرئيس التركي طيب رجب أردوغان - ذريعة لا يمكن فصلها عن محتوى الاتفاق الذي يتضمن إلغاء كل الاتفاقات الموقعة من قبل مع حكومة الوفاق الوطني، وهي خطوة في حال تنفيذها ستُفقد تركيا امتيازات اكتسبتها، خاصة اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، إثر اكتشاف حقول الغاز شرق المتوسط، الأمر الذي يمنح تركيا مزايا التنقيب عن الغاز واستغلاله، ويعطيها استقلالية في هذا المورد الطاقي.  
وممّا سبق نلاحظ أن أهداف فرنسا الأولية من إسقاط نظام القذافي خاصة الحصول على أكبر حصة من النفط الليبي، محاولة منها إبقاء هيمنتها المتهالكة في القارة الإفريقية، قد عرقلها دخول تركيا على الخط والتي تسعى هي الأخرى إلى الاستفادة من ثروات ليبيا المتمركزة خاصة في الغرب والجنوب الغربي، وهو ما يفسّر مساندتها لحكومات الغرب المتعاقبة المعترف بها دوليا (حكومة الوفاق الوطني ثم حكومة الوحدة الوطنية)، بينما تسعى فرنسا للتشويش من خلال دعم خليفة حفتر المسيطر على الشرق الليبي الذي يحتوي هو الآخر على ثروات نفطية في الهلال النفطي. هذا التنافس قد يعطل السير الحسن لاتفاق برلين المهدد بالفشل لهذه الأسباب وأسباب أخرى، أهمها أن الحلول كثيرا ما جاءت من خارج ليبيا، وهي حتما تخدم مصلحة هذه الدولة أو تلك على حساب الصالح العام الليبي، في وقت تعتبر ليبيا أحوج ما تكون إلى حل نابع من إرادة داخلية واقتناع كل أطراف النزاع بأن الحل لا يمكن إلا أن يكون ليبيا، حتى دون وساطة خارجية.
تحديات تنفيذ اتّفاق برلين
يعترض تنفيذ اتفاق برلين عددا من الصعوبات أهمها مواقف الدول المنخرطة في الأزمة الليبية، التي يرفض بعضها بنودا منه باعتباره لا يخدم مصالحها، أو يعرقل مشاريعها التي دفعتها للتدخل إما مباشرة في شكل تدخل عسكري، أو بدعم طرف داخلي ينوب عنها في العمل العسكري.
رفْضُ خليفة حفتر الخضوع لحكومة الوحدة الوطنية التي شُكّلت شهر مارس 2021، واعتراض جماعات مسلحة تابعة له الوفد الحكومي ومنعهم من إجراء اللقاء والجولة التي كانت مقررة في المدينة، يوم 25 أفريل2021، للوقوف على المناطق المتضررة جراء الاقتتال، واعتبار أن مهمتها مؤقتة تنحصر في تقديم الخدمات للمواطنين وتحضير الانتخابات، واشتراط التنسيق مع وزارة الداخلية في بنغازي لتوفير الحماية والأمان، في حال أرادت زيارة المدينة في المرة القادمة، يعني عدم اعترافه بحكومة عبد الحميد الدبيبة، واستمرار صورة الدولتين داخل الدولة الواحدة، وهو أمر سيزيد من احتمال عرقلة إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة يوم 24 ديسمبر القادم.
الموقف المتصلّب لخليفة حفتر وضربه بكل الاتّفاقات عرض الحائط، سواء مع حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج (2016-2021) أو مع حكومة الوحدة الوطنيّة برئاسة الدّبيبة، واعتبار نفسه الآمر الناهي على منطقة الشرق اللّيبي، وأنه يسيطر على مناطق واسعة منها، وابتزازه للحكومة الحالية قصد الحصول على امتيازات كما فعل مع سابقتها، من جهة، ووجود أطراف خارجية تدفع إلى خرق  خاصة وأن فرنسا التي تدعمه في تنفيذ أجندتها (إلى جانب دول أخرى ليس موضوع دراستنا)، وتركيا بتدخلها العسكري وتدريب ميليشيا في الغرب الليبي وهي أكثر الأطراف المنخرطة في الأزمة الليبية، مازالتا تتبادلان التّهم حول خرق كل منهما اتفّاق برلين، من جهة أخرى، يؤكد وجود علاقة بين موقفي البلدين وما يجري في الميدان.
ونتيجة لما سبق، لم يتمكّن المتنازعون على السلطة في ليبيا من إنهاء ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب كخطوة أولى لحل الأزمة الليبية، حيث انقضت آجاله دون أن تذعن الأطراف المعنية لاتفاق جنيف فيما تعلق بهذا البند. أما داخليا فقد تَعذّر التئام مجلس الوزراء في مدينة بنغازي، ويتعبر ملف توحيد الميليشيات في جيش ليبي موحّد أصعب النقاط التي تعوق تسوية الأزمة الليبية، وسبب ذلك عدم تمكين الليبيين من قضيتهم وإيجاد حل ليبي-ليبي، ذلك أن الدول المتدخلة في معظمها تسعى إلى تطبيق أجندتها على حساب الصالح العام الليبي.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024