نـحــــن والعــــالم: أي أفــــق؟

نبيل كحلوش (باحث في الدراسات الإستراتيجية)

يقول الفيزيائي كيبلر Kepler: «حـينما تهب الأعاصير الهوج وتكون أركان الدولة مهددة بالزوال فلا أنبل من أن نرسو على الأرض بدراسات جادة وهادئة».. فوفقا لهذه الفكرة الهامة نجد أنفسنا مضطرين والحالة هذه أن نطرح دراسات وأبحاث وأطروحات تعالج مختلف الملفات التي تواجهنا ونبحث عن آفاقنا في عالم مستمر التغير.


وهذا هو ما فعله حقا الأستاذ «أمير نور» وهو يجوب بنا في كتابه القيّم الذي نراه كسِفرٍ نفيس في هذا الزمن وإضافة نوعية للمكتبة الجزائرية خاصة وللعالَم الإسلامي والفلسفة السياسية البشرية عموماً.  هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: (الإسلام ونظام العالَم: وصية مالك بن نبي) والذي من مجرد عنوانه نلاحظ الرسالة التي يوصلها الأستاذ أمير نور مباشرة وهي: فلنعِد صياغة المفاهيم مجددا لفهم العالم بشكل أعمق.
هذه الرسالة التي يتبناها أسَّسها بناءً على مرجعية راسخة من مرجعيات المدرسة الفكرية الجزائرية وهي أعمال الأستاذ الراحل، ضمير العالم الإسلامي والشاهد على القرن العشرين..»مالك بن نبي».
إن الأستاذ مالك بن نبي وفي إحدى أهم وأخطر الأفكار والملاحظات التي ضمّنها في محاضرة من محاضراته الأخيرة قبيل وفاته سنة 1973م والمسماة باسم (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين)، يحدد بدقة وفي وقت مبكر جدا ملامح (نظام دولي) سيقوم على أنقاض انهيار الاتحاد السوفييتي سابقا، الذي إستشرَفَ انهياره قبل سقوطه الفِعلي بأكثر من عشرين سنة.
هذه الملامح التي أشار فيها إلى ضرورة استعدادنا للتغيير المسبق ومواكبة الأحداث كي لا نقع في فخ الاستقطاب (أحادي القطبية) فيُفرَض علينا التغيير من الخارج. ثم يقوم ويدعو إلى التخلص من الإرث التاريخي والتراكم النفسي-الزمني الذي ألحقه انحطاط العالم الإسلامي من جهة والمدنية الغربية من جهة أخرى، حتى نتمكن من إعادة التوازن إلى الضمير الإنساني في العالم والذي يوازن بين العلم والروح على حد سواء..
 وهنا بالذات يتحقق مفهوم (إقامة نظام للعالَم) بدلا من مجرد نظام دولي أو عالمي أو كوكبي يحمل سِمات سياسية مختزلَة في طابع هيكلي لتنظيم العلاقات الدولية أكثر مما يحمل السّمات الحضارية الشاملة للعلاقات الإنسانية سواء أفرادا و جماعات أو شعوبا وأمما ومجتمعات أو دولا وحكومات.
ومن هنا بالذات ينطلق الكاتب «أمير نور» في تحليله العميق الذي يعود فيه إلى الجذور التاريخية لظهور ما يسمى بالنظام الدولي الذي حرص مالك بن نبي على نقده.. وقد عاد في ذلك إلى ما يقارب الأربعة قرون ليجد أن الجذور العميقة لشتى المفاهيم السياسية الراهنة هي ذات منشأ غربي بعد مؤتمر وستفاليا سنة 1648م (كمفهوم السيادة والمصلحة القومية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.. الخ)، ولكن هذه المفاهيم نفسها لم تكن الدول الأوروبية محترمة لها، وهي تغزو تحت الدفع القوي لنزعتها الاستعمارية المستندة إلى ما وصلت إليه من قوة مادية إثر الثورة الصناعية خصيصا إبان القرن التاسع عشر.
وفي أثناء تحليل الوضع الراهن، ثبت بأن (النظام الدولي) لم يعد صالحا ليستمر بهذا الشكل وأنه يتأهب للتحول إلى طور آخر وهو (نظام عالمي) متعدد الأقطاب لا تكون فيه (الدولة) هي وِحدة التحليل الأساسية على غرار ما تراه المدرسة الواقعية مثلا، بل تصبح الفواعل الأخرى كالشركات والتكتلات الإقليمية والمجتمعات المدنية وغيرها كلها فواعل لها تأثيرها أيضا..
 ولكن مهما يكن من أمر فإن الطابع السياسي الذي سيهيمن على النظام العالمي المقبل هو (التعددية القطبية)، أو (تعددية الأطراف الدولية) كما يعبر آخرون عن ذلك، الأمر الذي دفع بالكثير من النخب العالمية إلى محاولة استشراف مآلات كل ذلك وحتى تقديم بعض الأطروحات التي تسعى لاحتواء التحول المقبل.. وهذا ما تطرق إليه الأستاذ «أمير نور» في معرض نقده لما كتبه الدبلوماسي الأمريكي المخضرم «هنري كيسنجر» في أحد كتبه الأكثر أهمية وهو (النظام العالمي).
من أهم الإشكاليات التي يمكن استنباطها من كتاب كيسنجر هي مدى إمكانية إنشاء نظام عالمي مشترك ولكن انطلاقا من قيم وتجارب تاريخية متباينة لشعوب مختلفة. غير ان التوجس الأكبر الذي قدمه كيسنجر هو أنه في حالة فشل إقامة نظام عالمي جديد  سيكون الخوف من فتح مجالات نفوذ مختلفة لقوى معينة أكثر من الخوف من نشوب حرب واسعة النطاق.. وأهم أنموذجين سيشكلان لنفسهما مجالات نفوذ متضادة هما النسخة الوستفالية الغربية العالمانية القائمة حاليا والنسخة الإسلامية الراديكالية. بذلك يبدو الشكل العام لمستقبل العالم كأنه صراع بين هذين الأنموذجين.. ومن هنا بالذات يأخذ الأستاذ أمير نور زمام المبادرة ليتجاوز طرح كيسنجر والذي يصفه (بالقراءة السطحية والذاتية) أكثر منها استراتيجية.
لقد ذهب أمير نور قدما في كتابه ليطرح الإشكالية على صيغتين:
ما مستقبل الإسلام في العالم؟ وما مستقبل العالم بالنسبة للإسلام؟
إن الإجابة تتطلب أولا معرفة أوضاع العالم الراهنة والتي يشير إليها الكاتب باختصار أنها لا تخرج عن نطاق الفوضى الدولية التي تطبع النظام الدولي الراهن، كما أنها تشهد انهيارا وتفككا للمنظومات الفكرية التي هيمنت قديما مثل الكاثوليكية التي رضخت أخيرا لجموح العالم الحديث.. بينما بقيت (العولمة) تصول وتجول على مختلف شعوب العالم وثقافاتهم لتطبعهم بطابعها الأحادي الراضخ لليبرالية.
 وهنا يظهر الإسلام كحصن عتيد بقي هو الحامل الوحيد للواء التوحيد الإبراهيمي لم ينجح أي طرف في تفكيكه ليلائم ذلك الجموح الإيديولوجي والسياسي للنظام الدولي الحالي. وهذا يمثل بالنسبة للكثير من الشعوب والمجتمعات مرجعا ثابتا كالمنارة الشامخة وأملا مشرقا بين أمواج عصر تموج بالاضطرابات والتيارات المتضاربة.
فمستقبل الإسلام إذن في العالم يبدو جليا بأنه مستقبل مقاومٌ.. أي لن يستطيع العالم رسم أي شكل للعلاقات الدولية والحضارية يغلب عليها الطابع الأحادي دون أخذ الإسلام والعالم الإسلامي بعين الإعتبار. فمستقبل الإسلام هو مستقبل استراتيجي بحق وسيكون محوريا وليس هامشيا.
أما مستقبل العالم بالنسبة للإسلام نفسه فإنه يخضع للحتميات القدرية بالموازاة مع إرادة الإنسان، إذ الآيات صريحة في ذلك مثل {وتلك الأيام نداولها بين الناس} و{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. الأمر الذي يمنح للمسلم رؤية مزدوجة للعالم: من حيث هو ميدان للتصرف والإرادة الإنسانية، ومن حيث هو صفحة للقدر الإلهي. فلا يسقط لا في اليأس ولا في الإتكال.
وحينما نذكر (الإرادة) فذلك يعني طرح مجمل العوامل والشروط المعنوية منها والمادية التي تشحذ هذه الإرادة وتكونها ثم تجعلها تمثُّلاً وواقعا.. ومن هذه الفكرة يعود أمير نور إلى الهندسة التي وضعها الأستاذ مالك بن نبي في هذا الشأن والتي ربط فيها بين (إعادة تفعيل عقيدة المسلم) وتكوين ثقافته من جديد على (منطق عملي) ليجمع بين الروح والمادة ويحقق التوازن.. ومن خلال هذا التوازن يسعى برسالته ليكون (أعلى من الربوة وليس تحتها.. لأن الماء لا يسقي الربوة التي تعلوه)، أي أن يواجه المدنية الغربية وهو في المستوى العالي الذي يؤهله لتقديم أنموذج حضاري لها بعد تخلّصه من حالته المتخلفة أولا بمعالجته لها ولأسبابها. وحينها يجد المسلم أنه وصل لتحقيق: (نظام للعالَم) بدلا من رضوخه لتجاذبات خارجية لمحاور دولية تتضارب بين (نظام دولي) أحادي القطبية و(نظام عالمي) متعدد الأطراف. إذ يجد رسالته الحقيقية وهي أنه يسعى لوضع نظام يعيد ضبط المفاهيم والعلاقات والمصالح بين الناس من جديد.
ولكن: ما هي الأمثلة التاريخية التي تعين على الفهم؟ وكيف أثر التاريخ على الحاضر؟ وما هي آفاق المستقبل التي تشي بها الكثير من مؤشرات الراهن الحالي؟ وما القيمة المعرفية المضافة التي يمثلها الأستاذ مالك بن نبي في كل ذلك؟
إن جميع هذه الأسئلة وأكثر يتطرق إليها الكاتب أمير نور في عمله النوعي هذا تطرُّق الخبير والمشخّص والمعالج على حد سواء بما يدفع بنا إلى الإشادة فعلا بهذا العمل والدعوة إلى فتح أبواب البحث في أهم المواضيع التي طرحها لتوسيع نطاق الإستفادة من جهة والإسهام في المساعدة على معالجة كل تلك الملفات من جهة أخرى.. معالجةٌ تسعى إلى تقوية أسسنا الفكرية والأخلاقية والاجتماعية في عالم يتوجه نحو تغيّرات مستقبلية كبرى.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024