المســـــــــــــرح الجزائـــــــــري.. البدايــــــــات والتّأصيـــــــــل

محمّد الأمين بن ربيع

 

 المسرح فنّ الفرجة والإمتاع والتثقيف، ولأنّه كذلك فإنّ كل شعوب المعمورة ممّن نالها نصيب من التحضّر برز على ساحاتها الثقافية مشتغلون بالمسرح، كانوا متيّقنين أنّ المسرح هو الوسيلة الأنسب ليقدّموا أفكارهم، ويتبّنوا مشاريعهم التنويرية ورؤاهم الطّلائعية، في حين اعتبره بعضهم غاية في حدّ ذاته، ومنتهى طموحاتهم.


 استطاع المسرح الجزائري منذ نشأته الأولى من أن يبدع تمظهراته الجمالية الخاصة، بفضل ما قدّمه روّاده الأوائل ومؤصلوه من بعدهم، من إبداعات فنية على مستوى بنائه الدرامي والشكلي وبعده الثيماتي. ولذا تمكّن من أن يحجز له في فترة وجيزة مكانة هامة ينافس من خلالها مسارح أخرى، وذلك بفضل اعتماده على القدرة التحليلية للظواهر على مستوى النص والأداء.
وقد ظلّ المسرح الجزائري منذ بداياته يتطوّر بشكل ثابت، مستفيدا من الأوضاع التي كانت تشهدها الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي ثم أثناء الثورة التحريرية، ومن ثمّ حقبة ما بعد الاستقلال. ولذا يجد المتتبّع لتطوّر المسرح الجزائري نفسَه أمام مجموعة من المراحل تتمثل في: مرحلة المسرح الفصيح، وخلالها كان المسرح الجزائري نخبويا يخطو خطواته الأولى المتأثرة بالمسرح المشرقي، بعد زيارة جورج أبيض إلى الجزائر، ثم كانت مرحلة المسرح الشعبي، وهي المرحلة التي عرفت اهتمام المسرحيين الجزائريين باستثمار الموروث الشعبي والواقع المعيش في تجسيد أعمال المسرحية مال أغلبها إلى الإضحاك وصنع الفرجة على غرار مسح رشيد القسنطيني وعلالو، ولم يلبث أن عاد المسرح في المرحلة الثالثة إلى الشكل الأول الفصيح، ولعلّ السبب في ذلك راجع إلى أنّ أغلب من اشتغل في المسرح في هذه المرحلة كان من رواد جمعية العلماء المسلمين، وفي المرحلة الرابعة انهمك المسرحيّون الجزائريّون في العمل من أجل خدمة القضية الجزائرية والثورية التحريرية، وخلال هذه المرحلة ظهرت الفرقة المسرحية التابعة لجبهة التحرير الوطني، التي أدارها المسرحي الجزائري مصطفى كاتب، أما بعد الاستقلال فقد دخل المسرح الجزائري مرحلة جديدة تميزت بالتجريب على مستوى البنية النصية والأدائية، ونضجت التجربة وبلغت أوج تطوّرها على أيدي مسرحيين من أمثل عبد القادر علولة وعز الدين مجوبي.
وفي المجال فقد تميّز المسرح الجزائري وعلى مدار مراحل تطوّره المختلفة بجملة من الخصائص التي تجعله مسرحا ملتزما، انفتح على المسرح العالمي فاستفاد من تجارب رواده، واهتم بالتراث الشعبي فأغنى الركح بأعمال خالدة.
مسرحة الرّواية وإثراء التّجربة المسرحية

السبت 12 جانفي 2016، في تمام الساعة السادسة مساءً، كان جمهور المسرح قد أخذوا أماكنهم في قاعة مصطفى كاتب بالمسرح الوطني محي الدين بشطارزي منتظرين أن يُسلّط الضوء على الرّكح، ويبدأ عرض مسرحية “اللاز”، إنتاج مسرح سوق أهراس الجهوي، إخراج يحيى بن عمار، واقتباس محمد بورحلة، عن رواية بالاسم نفسه للروائي الراحل الطاهر وطّار. كانت تلك أوّل محاولة لمسرحة رواية اللاز، لكنها لم تكن المحاولة الأولى لمسرحة رواية جزائرية، فقد سبق وأن قامت صونيا بإخراج مسرحية أنثى من ورق سنة 2012، التي كتب نصّها مراد سنوسي اقتباسا من رواية أنثى السراب لواسيني الأعرج، وقبل ذلك بعقود أعاد كاتب ياسين كتابة نجمة، كتابة مسرحية وعنونها بالجثة المطوّقة، وكان عرضها لأول مرة سنة 1958 بمسرح موليير ببروكسل. لكن هذه العقود الفاصلة بين هذه المسرحيات لا تعني أنها كانت حافلة بعروض مسرحية مقتبسة عن روايات جزائرية، فالمتتبّع لمسار مسرحة الرواية الجزائرية، بإمكانه أن يعُدّ تسع مسرحيات على الأكثر مقتبسة عن روايات جزائرية.
المسرحيات المقتبسة غالبا ما تكون مأخوذة عن روايات لها شهرتها، لروائيّين لهم وزنهم في الساحة الروائية الجزائرية، كرواية الحوات والقصر للطاهر وطار التي مُسرحت وقُدمت سنة 2007، ورواية الصدمة لياسمينة خضرا المُمسرحة والمُقدمة سنة 2009، ورواية الأرض والدم لمولود معمري المُمسرحة والمعروضة سنة 2013، بالإضافة إلى روايات أخرى لا تقل شهرةً عن التي سبق ذكرها، ولعلّ العروض التي قُدّمت زادت من شهرة تلك الروايات بالنسبة لجمهور المسرح حصرا، ذلك الجمهور الذي تعوّد على مسرحيات مقتبسة عن أعمال عالمية مكرّرة ومستعادة.
في الجزائر قد يكون جمهور فنّ القول أكثر من جمهور فن الفعل، ولذا فإنّ خدمة المسرح للرواية تكون أكثر فاعلية إذا كانت الرواية غير منتشرة لدى جمهور القرّاء، أو كانت الرواية رائجة في الأوساط النخبوية فقط، فالمسرح حينها سيقدّم الرواية إلى جمهور عريض من الشعب المرتاد للمسرح.
في المقابل، نجد أنّ الرّواية تخدم المسرح بشكل أفضل، بخاصة إذا أخذنا الأمر من منطلق ثراء النص الروائي بالمعطى الدرامي، الذي يسهّل في كثير من الأحيان على كاتب النص المسرحي عملية الاقتباس، إذ تصبح مسرحة الرواية أشبه بعملية اختزال للأحداث وتقديمها على ألسنة الممثلين وحركاتهم، ونجد أنّ الكثير من المخرجين يحافظون على روح النص الروائي قدر الإمكان، ما عدا تلك المتطلبات التي يفرضها تحويل المعطى السردي إلى معطى بصري، لكن ليس الأمر بهذه السهولة دائما، فقد يكون النص الروائي مبنيا على تقنيّتي الوصف والسرد، مما يجعل مسألة مسرحته صعبة، وتعتمد أكثر على جهد المقتبِس وبراعته في تطويع هاتين التقنيتين، والاستفادة منهما لخلق بناء درامي تفاعلي يمكن تقديمه على الركح، ولعلّ هذا ما حصل مع مسرحية أنثى من ورق المقتبسة عن رواية أنثى السراب.  
تقف الفنانة نضال على ركح المسرح وتقول على لسان بْهيجة بطلة المسرحية وبطلة الرواية التي شكّلت النص الأصلي “دون حجاب دون ندم sans voile sans remords”: حتى لو كانت أختا، حتى لو كانت زوجة، وحتى لو كانت أمّا، ستبقى دائما حاشاكم مْرا..كانت تلك العبارة واحدة من أقوى العبارات في المسرحية، ومن أكثر العبارات عمقا في النص الأصلي، وكأن نضال قد قالتها على لسان كلّ النساء في كل زمان ومكان شبيهين بجزائر التسعينات، تتعرّض فيهما المرأة للقهر لأنها امرأة، صمتَ الجمهور أمام تلك العبارة، في حين أن ليلى عسلاوي كانت تستعيد بالكثير من الفخر نصّها الروائي الذي كانت تراه أمامها حيّا بهيّا كما ينبغي له أن يكون، بفضل المخرج المسرحي زياني شريف عياد. كثيرة هي الروايات التي تمتلك تلك القوة الدرامية التي تؤهلها لتكون على الرّكح نابضة بالحياة، يحتاج الأمر فقط لأن يقرأ صنّاع المسرح تلك النصوص، دفعا لأيّ استياء محتملٍ من أزمة النص في المسرح الجزائري.

مسرحة التّاريخ
التّاريخ..ذلك الهاجس الذي سكن الإنسان، فأرّقه ودفعه إلى التفكير والبحث والإبداع، إذ لم يكن من السهل على الإنسان وهو يسأل عن بداياته وأصوله أن يُغفل أن التاريخ هو الوعاء الذي استوعبها وأطّرها ثم حفظها أو أغفلها، ولأنّ من طبيعة الإنسان جموح خياله واستنفار إبداعه، فقد أطلق المبدعون الحرية لأخيلتهم لترى بعين الخلق الثاني ذلك التاريخ، وكان للمسرح العين العليا في استحضار التاريخ وتجسيده بأحداثه وشخوصه قبل أن تحاكيه السينما في ذلك وتستثمر إمكانياتها التي لا تتوفر في المسرح وتذهب بعيدا في استحضار التاريخ وتجسيده، غير أنّ المسرح ورغم منافسة السينما ظل وفيا للتاريخ، وظلّ يقدّمه بتفاصيله التي تتضمن جمالياته ومساوئه مشخّصا حينا وناقدا حينا آخر. فتناول المسرح للتاريخ يقوم على أبعاد رؤيوية تبدأ من النص وتنتهي عند العرض، تبدأ من كتابة حادثة تاريخية وتنتهي عند إعادة بعث الحياة في تلك الحادثة. وقد كان المسرح الكلاسيكي سباقا إلى استلهام التاريخ من خلال اعتماده على مبدأ المحاكاة الحرفية للتاريخ، ورفض الوهم واللاواقع أو الأسطورة، مع التركيز على المثال الأخلاقي والصرامة الجمالية، فكان يستقرىء التاريخ بدل الأسطورة، ويقدّم النماذج العليا التي عرفها التاريخ، كما فعل أحمد شوقي بانتقاء أبطال مسرحياته من التاريخ، كمسرحية قمبيز وعنترة وكليوباترا. ويحرص المسرح الكلاسيكي إذا ما كانت المسرحية مستمدة من الماضي أن تخدم الواقع والمستقبل، كأن تكون قصة إرشادية، هدفها التأثير في أخلاق المتلقي قبل إمتاعه، من خلال استخلاص العبرة، ولا ضرر إذا أضاف المبدع من خياله، ما يخدم السياق الدرامي للمسرحية، مع التركيز على دور الشخصيات التي تمثل دورا تأثيريا كبيرا في المسرحية، إذ لابد أن تقدّم الشخصية الدور بإتقان شديد، ويأتي أيضا الدور على المخرج بأن يختار الأشخاص المناسبين لهذه المسرحية، الذين بإمكانهم أن يعيدوا تقديم الشخصيات التاريخية وكأنها حاضرة على الركح بكيانها. واستثمار عناصر السينوغرافيا لتقديم أجواء تتناسب والحقبة التاريخية التي يستعرضها على الركح.
إنّ تقديم المسرح للتاريخ يعد توثيقا إبداعيا للوجود البشري ضمن تحولاته المرحلية المختلفة، فقد أصبح المسرح التاريخي بمثابة الوثيقة التي تكشف عن بعض تفاصيل الصورة المتكاملة، للوجود الإنساني، فإذا كان التاريخ شاهدًا على الحياة، فإن المسرح شاهد آخر بإمكانه استيعاب التاريخ ومعطياته دون هدم الحاجز الفاصل بين التاريخ والواقع، الذي يُتوقَّعُ منه أن يتأثر بالتاريخ. فالمسرح والتاريخ يتفقان في كونهما يهتمان بالأحداث الفارقة في الوجود الإنساني، والمسرحي عند مسرحة التاريخ يجد نفسه أمام تقديم منتج إبداعي لا توثيقي، فنجد أنّ جورج بوشنر يرى أن المؤلف المسرحي أقرب إلى أن يكون مؤرخا، إلا أنه يحتل مرتبة أعلى منه، فهو يخلق التاريخ مرة أخرى، لأنه يقدّم إبداعا يبعث الحياة في التاريخ، لا سردا جافا مهمته التوثيق. إلا أن ذلك لا يبيح للمسرحي إمكانية العبث بالتاريخ بحجة خدمة الجانب الفني للمسرحية، فعدم التزامه بتوثيق التاريخ لا يعني تشويهه أو العبث به، فالتاريخ ليس ملكا للمبدع المسرحي يتصرّف فيه كيف شاءَ. ونجد أنّ تيار المسرحية التاريخية، الذي بدأه خليل اليازجي عام 1878، بتقديمه عرض مسرحيته المستلهمة من تاريخ مملكة الحيرة “المروءة والوفاء أو الفرج بعد الضيق”، قد صار بمثابة الخط الإبداعي الذي شكّل معالم مَسرَحَة التاريخ، وانتهجه العديد من المسرحيين العرب أمثال إبراهيم الأحدب، الذي كتب مسرحية الاسكندر المقدوني، وفرح أنطوان الذي كتب مسرحية صلاح الدين في مملكة أورشليم، ولعلّ تجربة سعد الله ونوس في مسرحة التاريخ تعد تجربة متفرّدة بما هي تجربة قامت على مزج التاريخي بالنقد السياسي، كتجربته المسرحية رأس المملوك جابر التي عاد من خلالها إلى حادثة سقوط بغداد في يد المغول، وتواطؤ وزير الخليفة مع المغول طمعا في أن تؤول السلطة إليه، فكان يمارس ونوس نقدا للحاضر من خلال الماضي.
إنّ تجربة الكتابة المسرحية وتجسيد النص المسرحي على الركح متعة لا يعرف كنهها إلا الممسوسون بحب المسرح والراسخون فيه، وإذا كان المسرح يوفّر المتعة لمرتاديه ومشاهدي عروضه فهو يوفر للمشتغل عليه حيوات متعدّدة، وألسنة كثيرة تؤهله لقول ما شاء، واستخدام المسرح كقناة لتمرير إيديولوجية المسرحي.
عن مجلة “فواصل”

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024