المؤسّسة الناشئة:

آلية ابتكار لا يمكن الاستغنـاء عنهــــا

كمال بداري أستاذ التعليم العالي ـ المسيلة -

تُطوِّر المؤسّسة الناشئة أو «النّاشئ الصّغير» إمكاناتٍ ثمينةً للابتكار، وآفاقًا كبيرةً للنّموّ؛ لهذا توليها العديد من البلدان مكانة مميّزة في سياستها الخاصة بالتنمية والحدّ من البطالة؛ على غرار الجزائر؛ التي تُعَلّق عليها آمالا كبيرة؛ بدءًا من الحدود الموضوعية، ونقائص الماضي.

اختارت السّلطات الجديدة في البلاد مقاربة منهجية للتنمية لصالح المبدعين والمبتكرين الشباب، وقد تمّ في هذا الصّدد إنشاء وزارة للمؤسّسات الصّغيرة والمؤسّسات النّاشئة واقتصاد المعرفة؛ مكلّفة بدعم أيّ نشاط يولّد ثروة، ويخلق قيمة مضافةُ، وتسعى هذه الورقة إلى استجلاء جوانب تصميم الشّركة الناشئة.
الحاضنة: الفكرة ونظامهما
لا يمكن إنشاء مؤسّسة ناشئة إلّا من خلال فكرة خضعت مسبَقًا لعملية تصوّر وتحوّل ونضج؛ يقوم بها فريق شديد الانضباط، وهذه العملية تتمّ في حاضنة، وتدور حول فكرة تُعتبر مبتكرة؛ حيث يتّحد المدرّسون والطّلّاب والمهندسون والفنيّون والمبدعون المبتكرون.. لتحويل الفكرة إلى ما يمكن الاصطلاح عليه بـ»البراعم»، إنّه أشبه بحضانة البيضة التي تحتوي على صيصان، أو زراعة البيوت الزّجاجية التي تنبثق منها البراعم (النباتات الصغيرة).
    يمكن إيواء الحاضنات في هياكل مختلفة، ففي الجزائر مثلا؛ خُصِصَت لها مقرّات رئيسةٌ في الجامعات، وفي الولايات المتّحدة؛ هناك ما يُعرَف بـ (وادي السيليكون Silicon  Valley) وفي فنلندا هناك (جامعة آلتو Aalto University) وفي الصّين نَجِد مراكز (شينزين وَتشونغ غوانكون Shenzhen et Zhongguancun) على وجه الخصوص؛ والتي تأوي الحاضنات الرئيسة، ويُعتَبَر تنظيم الحاضنة الأساسَ الأوّل لنجاح المشاريع التي تحتضنها؛ إذ يجب أن تتّسم بالمرونة والخُلوِّ من البيروقراطية؛ كما يجب أن تتكيّف مع روح الشّعب الذي يستضيفها.
       هذه «البراعم» المُحَوّلة عن الأفكار لا تبقى على حالها؛ بل ستنتقل  من الحاضنة (البيوت الزجاجية) إلى المشتل؛ حيث سيتمّ تأهيلها بعد ذلك كـ»براعم شابّة» أو شركات ناشئة؛ في انتظار رأس المال الاستثماري الذي سيسمح لها باتّخاذ خطواتها الأولى في سوق غير مؤكّد. ولكي تصبح مبدعًة ومبتكرًة -بعيدًا عن إثارة اهتمام المموّلين - يجب أن تفِيَ «المؤسّسة الشبابيّة» أو المؤسّسة النّاشئة بشروط؛ بما في ذلك امتلاك إمكانات قويّة للنموّ؛ كاستخدام التكنولوجيا الجديدة، والقدرة على التّواجد في سوق يصعب تقييمه، كما يجب أن تكون مرئيًّة، وأن يكون لديها فريق موحّد.. يجب دراسة كلّ هذه العناصر بعناية؛ ومن ثمّة تحويلها إلى نموذج عمل.
يضمن الاحتضان في البيئة الجامعية للمؤسّسة الناشئة ترسيخًا علميًا؛ مع المساهمة في بناء علاقة دائمة بين الشّركة والجامعة، وهو شرط لا غنًى عنه للتّغيير من البحث النّظريّ إلى البحث والتّطوير، كما يُسمح للطّالب - المبدع المستقبلي في الواقع - بالتّكوين على كيفيّة إنشاء وإدارة الشّركة، وتطوير استراتيجية عمل فعّالة، واستخدام أدوات الإدارة والجودة، والتدريب على التّقنيات الإدارية؛ لأنّها تحفّز الابتكار، وتقوّي روح الفريق...).

ضرورة توفير المناخ المناسب للابتكار:
بما أنّ المؤسّسة الناشئة هي هذا الكيان الذي يطمح إلى أن يصبح شركة ابتكار؛ سواء أكان ذلك في مرحلة البدء أم التوسّع؛ يجب أن تكون مستعدّة لتحمّل الأعباء؛ وكأنّها شركة صغيرة أو متوسّطة الحجم.
إنّ نسيج المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة في الجزائر ليس كثيفًا البتَّةَ، ولا يخلق فرص عملٍ بمعدّل التّخرّج السّنويّ لخرّيجي التّعليم العالي، والتّعليم المهنيّ؛ فحتّى نهاية عام 2019؛ كان هناك ما يقرب من 1200000 مؤسّسة صغيرة ومتوسّطة الحجم (نشرة وزارة الصناعة والمناجم رقم 35 - نوفمبر 2019) وهي تتكوّن أساسًا - وفقًا للنّشرة المذكورة - من شركات صغيرة جدًّا بنسبة (97٪) تغطي (17٪) فقط من الصّناعات التّحويلية، مقابل (54٪) من الخدمات (السياحة، الفنادق...). وتتركّز هذه المؤسّسات في ولايات شمال البلاد بنسبة (70٪) وولايات الهضاب العليا بنسبة (21٪) وولايات جنوب البلاد بنسبة (8٪). إنّ هذا العدد من المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة ضئيل جدّا مقارنة بدولٍ مثل إسبانيا أو فرنسا؛ حيث يبلغ عدد الشّركات الصّغيرة والمتوسّطة فيها عدة ملايين.
        والمؤسّسة الناشئة لا تتطوّر بثبات إلّا في مناخ ملائم للاستثمار والعمل والابتكار، ولعلّ السياسة الواعدة في هذا المجال - أولاً وقبل كل شيء - هي التي ستركّز على تحديث القطاعات التي مازالت - حتّى الآن - تمثّل تحدياتها الحقيقية؛ سواء أكانت اقتصادية (خلق بيئة مواتية للأعمال التجارية، والاختراع، وتعزيز المناولة الصّناعية، ووضع المقاول الذّاتي؛ لتشجيع المقاولاتية، ميثاق الاستثمار..) أم ماليّة ومصرفيّة (بافتراض الدّور الحقيقي في تسهيل ودعم المؤسّسات)، كما سيركّز هذا التّحديث - أيضًا - على الجوانب الاجتماعية والثّقافية (ثقافة الشّركة، وتطوير العلاقات مع الجامعة، وترقية عمل المرأة) والحوكمة (أدوات وآليات التنظيم والرقابة والمراقبة، والمعايير، ولوحات القيادة؛ مع مؤشّرات المراقبة والأداء، واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتّصال، والتدريب على تقنيّات الإدارة..).
       هذا الدّافع الرّياديّ للتحديث يتطلّب التّضامن بين خدمات الدّولة؛ والجهات الفاعلة في المجتمع المدني؛ العامّ والخاصّ؛ لتحديد أكثر أدوات التّعاقد والشّراكة فعالية؛ سواء كانت قانونية، أو مالية، أو اقتصادية، أو بيئية.
كيف يتمّ تمويل الحاضنات والمؤسّسات الناشئة؟
يُعالج هذا العنصر تمويل مؤسّسة ناشئة (المشروع المربوط الذي ينتظر رأس المال الاستثماري) لا تتعامل مع تمويل الحاضنة؛ حيث تحتاج المؤسسة الناشئة - مثل أيَّةِ مؤسّسة تطمح إلى أن تصبح فاعلة وناضجة - إلى التّمويل والدّعم، ويُعَدُّ صندوق التّأسيس هو أداة التّمويل المستخدمة لهذا الغرض، وهو عبارة عن مساهمة في رأس مال الاستثمار؛ لضمان بدء التشغيل. ويمكن البحث عن هذا الصّندوق بطرق مختلفة: التّمويل من الشّركات العامّة أو الخاصّة، والمساهمة الشّخصية، وملاك الأعمال (Business-Angel) والطّلب المؤسّس من المنظّمات الدّولية (الاتّحاد الأفريقي، والاتّحاد العربي، والبنك الإسلامي الدولي..). ومن هذا المنطلَق؛ أمر رئيس الجمهورية بوضع برنامج عاجل للمؤسّسات النّاشئة والمؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة؛ لاسيما من خلال إنشاء صندوق خاصّ، أو بنك مخصّص لتمويلها (مجلس الوزراء 5 يناير 2020).
إذا كانت إدارة هذا الصندوق من مسؤولية وزارة المؤسّسات الصّغيرة والمؤسّسات النّاشئة واقتصاد المعرفة أو خدمة حكومية أخرى؛ فسيتمّ إنشاء كيان إداريّ لهذا الصّندوق، ويمكن النّظر في إمكانية حشد الدّعم من الشّركات الاستشارية المتخصّصة، وسيحاول هذا الكيان الإداريّ الإجابة على تفاصيل الأسئلة التالية: كيف يتمّ اختيار المستفيدين باستخدام معايير موضوعية وشفافة محدّدة مسبقًا؟ وما هي المستويات البيئية والإقليمية بشكل أساسيّ؟ وما هو حجم المساعدات التي ستمنح؟ وكيف ستكون طرق الدعم؟.. وما مدى اهتمام القضيّة؛ فيما يتعلّق بالأهداف التنموية للبلاد؟..

الدّوافع لانحراف المشروع
يجب أن نعترِف بأنّ كيانًا جديدًا عديم الخبرة في سوق مضطرب للغاية ولا يمكن استشرافه؛ قد يواجه مغامرات سيّئة يمكن أن تؤدّيَ إلى سقوطه؛ حتّى لو حدث وطُبِّقَت تحدّيات وشروط النّجاح المذكورة أعلاه بحذافيرها؛ في سياسة تطوير المؤسّسة الناشئة، وليس من الخطأ استلهام الأفكار والتجارب الماضية،
 فالمؤسّسة الناشئة ما هي إلّا مشروع؛ ومثل أيّ مشروع يولد ويتطوّر ويتحوّل أو يختفي خلال مرحلة التّنفيذ والتّطوير قد تواجه المؤسّسة النّاشئة انحرافات عديدة؛ كانت موضوع منشورات في أعمال مختلفة مثل «أنثروبولوجيا المشاريع» (مجموعة PUF - باريس) التي تستشهد بالانحرافات السّبعة المحتملة للمشروع وهي: خيبة الأمل (بناء مشاريع غير قابلة للتّحقيق..) التّقادم (تكاثر المشاريع بمعدّل لا يسمح بتنفيذها أو بمتابعتها) التّقليد (النّسخة المطابقة) النّرجسية (إعداد المشروع دون المصادقة أو التّشاور) الانحراف الإجرائي (هوس تقني: استخدام غير متناسب للجداول، مخطّطات انسيابيّة..) انحراف شموليّ (رفض النّظر في الفجوة بين التّصميم والتّنفيذ) الانحراف المثاليّ (الإعداد منفصل عن التّنفيذ).
       إنّ الاستخدام المكثّف والواقعي لرياضيات الصّدفة يجعل القياس المسبق لمدى التهديدات المحتملة التي يمكن أن تؤثّر على المشروع ممكنًا؛ كما يُمكّن من إلقاء نظرة عن كثب على الفرص الحقيقية المتاحة؛ لاسِيما أنّه لا يوجد مشروع في مأمن من الانحراف.

عوامل النّجاح الرئيسة للمؤسّسة النّاشئة وآفاقها:
الابتكار في جوهره ذو منحى اقتصادي؛ إنّه نتاج بحث تطبيقي - بعكس الاختراع ذي الطّبيعة الفنّيةّ - يخضع للبحث الأساسيّ؛ حيث يلبّي البحث والتطوير احتياجات المجتمع؛ من خلال تحويل نتائج البحث التطبيقيّ.
تعتمد عوامل النّجاح الرّئيسة لأيّ مؤسّسة ناشئة على عدّة معايير؛ مثل: قطاع نشاطها، وتوجهها، وبيئتها.. ومع ذلك - وبشكل عامّ - يمكن تكوين وجهة نظر عامّة؛ من خلال مفاتيح النّجاح التّالية: تعريف واضح للتّحدّيات والأهداف؛ من خلال تجنّب التّركيز فقط على المهامّ والأنشطة التي سيضطلع بها المشروع، دعم البحث التّطبيقي؛ لضمان ترسيخه في مجتمع المعرفة؛ مع السّماح للطّالب بوضع «القدمين في الدرج»، القدرة على الاختراق، تمكين المؤسّسة لنفسِها في سوق تنافسيّ؛ ناهَيْكَ عن إدارة نموّها بمرور الوقت، القدرة على جذب المستثمرين (جمع الأموال)، تنويع مصادر التّمويل، والقدرة على التّواجد على المستوى الدّولي..
يجب أن تتكيّف آفاق المؤسّسات النّاشئة مع الأولويات التي تحدّدها الحكومة؛ والتي من بينها: التّخطيط الإقليميّ (8٪ فقط من الشّركات الصّغيرة والمتوسّطة تقع في الجنوب) تطوير التّكنولوجيا (مهن المستقبل، الذّكاء الاصطناعي..)
 يختلف معدّل النّجاح أو الفشل من بلد إلى آخر؛ مع التأكيد على أنّ الأول أقلّ أهمية من الثاني؛ ولكن ينبغي أن لا يؤدّيَ الفَشَلُ إلى الإحباط؛ لأنّ «الفشل يمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق للنجاح».

خاتمة:
تضع السّلطات الجديدة في البلاد تطوير المؤسّسة الناشئة على رأس أولوياتها؛ حيث تعتبر أحد العوامل الرئيسة «لتثمين الأفكار والمبادرات المبتكرة «، ويعتمد نجاحها على الشروط المذكورة أعلاه؛ كما يعتمد على قدرتها على التطوّر السّريع، وفهمها لنقاط القوّة، وعلى فكرتها الإبداعية، ونوعية فريقها، وطرق التّمويل التي تنتهجها، وتنظيم الحاضنة.. دون أن ننسى قدرتها على اغتنام الفرص المناسبة في الوقت المناسب.
وتلعب  وزارة التكوين المهنيّ دورا ثمينا وفاعلا؛ وفي هذا الصدد؛ دعت الحكومة التّربية الوطنية والتّعليم العالي والتّكوين المهنيّ إلى «تحقيق تكامل أكبر بين القطاعات الثلاثة؛ والمؤسّسات المصغّرة والمؤسّسات الناشئة (مجلس الوزاراء 3 فبراير 2020).
تتضمّن عمليّة إنشاء مؤسّسة ناشئة الفكرةَ المبتكرةَ، والاحتضانَ، وظهورَ البراعم؛ التي تتحوّل لاحقًا إلى مؤسّسة ناشئة، ورغم أَنّه لم يتمّ تسليط الضّوء على ولادة الفكرة المبتكرة بشكل كافٍ؛ مع أنّها أهمّ جزء من العملية. يبقى السّؤال الأهمّ هو: كيف تولّد الفكرة الإنسان؟ هذا سؤال يستحقّ التّفصيل في أكثر.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024