مشكلة المصطلـح النقدي العربي..

د. محمد كاديك

ســؤال السّخريـــة نموذجـا

شرف كبير نحظى به في رحاب أكاديمية الوهراني للدراسات العلمية والتفاعل الثقافي، ورئيستها الدكتورة سعاد بسناسي، بعناية كريمة من أستاذنا الدكتور عبد المالك بلخيري، شاكرين لهما، ممتنين لكرمهما، مع خالص الشكر للدكتورة زاهية عثمان، مسيرة البث التقني، راجين أن نكون في مستوى هذا الصّرح العلمي السامي، ورواده من صفوة الأساتذة العلماء، والطلبة النجباء، لنناقش معا “مشكلة المصطلح النقدي”.. متخذين من تجربتنا في معالجة سؤال السّخرية نموذجا.. ولعل الواجب يقتضي – في البداية – أن نشير إلى أننا لم نصطلح بـ«سؤال” بما هو المقابل لـQuestion، ولكننا تخيّرناه ليكون مقابلا للفعل PENSER، بحكم أن “السخرية” – على المستوى المفهومي - ترتبط بـ«اللسانيات” و«النقد الأدبي” و«الأدب” و«الفلسفة” وغيرها من حقول المعرفة، وهي كما يصفها إيريك بوردا من (الكلمات المفخّخة)، ويقول إن الوضع الإشكاليّ لهذه المرجعيّة الأسلوبيّة المثقلة باتساع مداها، يعود قبل كل شيء، إلى مرجعيّتها غير الواثقة. (فهي) شكلٌ، مجازٌ، خطابٌ، فكرٌ، أخلاقٌ، ظاهرةٌ، فلسفة، بل إنّ هناك من يتحدّث عن سخريّة في “الموسيقى” و«الرّقص” و«الهندسة المعماريّة” و«النّحت” و«التّشكيل”، وتخصّصات أخرى يمتدّ إليها المفهوم، ويستغلّها كي يتجلّى في صورة “اسم جامع” أو “اسم جنس”..

 
نبدأ – إذن – بتقديم نماذج تقرب إشكالية المصطلح النقدي في مقاربة السؤال، ثم نعرّج – في المرحلة التالية – على الأنواع الساخرة وتراتبياتها بالحاضنة النقدية، ثم نحاول تقديم نموذج تطبيقي من عمل روائي، نحبذ أن يكون رائعة الروائي الجزائري مرزاق بقطاش، “المطر يكتب سيرته”، غير أننا قبل هذا كلّه، نرى ضرورة الإلمام بطبيعة الخطاب الساخر، والإشكاليات التي يمكن أن تعترض تحققه لدى المتلقي، ومن ذلك ما روي الجاحظ في كتاب البخلاء، عن أسد بن جاني، وهو طبيب أكسد في سنة وبئة، سأله أحدهم عن سبب الكساد، فراح يسرد عليه عدد منها الأسباب قائلا:
(أما واحدة فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبّب، لا بل قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطّب، واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً، وجبرائيل، ويوحنا، وبيرا، وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى، وأبو زكريا.. إلخ..)..
وليس أشهر في الأعمال الأدبية العربية من سخرية الجاحظ، ومع هذا، نجد محقق “البخلاء”، الشيخ محمد سويد، يغفل الحسّ الساخر الذي تتأسس عليه القصة، ويخصص هامشا للردّ على ابن جاني، فيقول: (قوله إن المسلمين لا يفلحون في الطب، قول كذّبه التّاريخ، فابن سينا والرّازي والخوارزمي وغيرهم من أطباء المسلمين هم أساتذة العالم في الطبّ).. وظاهر أن مقولة سويد تعني تلقائيا أنّ “السّخريّة” التي تحدّث بلهجتها ابن جاني لم تبرح حالة الخمول/الكمون التي اصطنعها لها الجاحظ، أي أنّها بقيت في حكم “السخريّة المفترضة” ولم تتمكّن من التّحقّق لتؤدّي وظيفتها، بل لقد تحوّلت، على يدي سويد، إلى موقف أيديولوجي دوغمائي، وإن لم يكن في مقولة ابن جاني ما يؤيّد موقف سويد الصارم، ولا حتى ما يوحي مجرّد إيحاء أنّ ابن جاني يقصد إليه؛ فابن جاني نفسه يتحدّث بمرارة عن الواقع الاجتماعي الّذي تهيمن عليه الفكرة الخاطئة (المسلمون لا يفلحون في الطبّ)، وهذا ما يعتقده الناس قبل أن يولد ابن جاني، وليس موقفه الشّخصيّ؛ ثم إنّ مصلحة ابن جاني تقتضي دحض هذه الفكرة، ولهذا تحدّث بلهجة السّاخر، وهي الفكرة التي يرفضها محمد سويد، ويخصّص لدحضها حاشية كاملة يستدعي فيها التّوثيق التّاريخيّ حين يتمثّل بأسماء كبار الأطباء المسلمين، معتقدا أنّه يفنّد رأي ابن جاني ويردّ عليه.
ولعل موقف الشيخ محمد سويد، وهو الباحث المتمكن، يبيّن مستوى “التمنع” الذي تتحصّن به العبارة الساخرة، فـ«السخرية” – في أصلها - تتفلت من التعريف، وإن كانت قابلة لـ«الوصف” كما يقول فلاديمير يانكيليفيتش، فهي تتأسس على “إخفاء” المعنى المقصود، ولكنها – بالمقابل - تقدم للمتلقي مفاتيح الوصول إليها واستيعابها، شرط الإلمام بالمفهوم المؤسس؛ ونعتقد أن المشكلة التي تواجه تحديد المفاهيم – في مختلف الحقول المعرفية - هي في المقام الأوّل، “البداهة” التي تقدّم بها هذه المفاهيم نفسَها. أمّا المشكلة الثّانية فهي متعلّقة بأسلوب صياغة التّعريفات نفسِه، ومن ذلك أنّنا حين نقول - على سبيل المثال - إنّ “السّخرية” هي “استعمال ألفاظ” أو “قلب معنى” أو “الإيحاء بقصد دون قوله”؛ فإنّنا نتحدّث عن “أفعال” يقوم بها المتكلّم، أو”نعيّن” مواقع للأفعال في الكلام؛ ولكّننا لا نحدّد “السّخرية” في ذاتها، ولا نتعرّض إلى ماهيّتها، ما يعني أن الشرط يقتضي بناء متصورات مفهومية تنسجم مع متطلبات كل حقل معرفي، إضافة إلى أن مفهوم “السّخرية”، في اللّغة العربية، يواجه إشكاليّة أخرى تطرحها التّرجمة، إذ تختلف الدّراسات في التّرجمات التي تعتمدها لـ«Ironie”، بين “سخريّة” و«مفارقة”، وحتى “مفارقة ساخرة”. بل إن الخلط يصل إلى اعتبار “السّخريّة” نوعا من الفكاهة، أو واحدة من ألوانها الأجناسيّة، ونرى أنّ هذا التّشرذم الاصطلاحيّ يعود أساسا إلى غموض الخلفيّات الفلسفيّة التي نشأ في حضنها “المفهوم”؛ إذ لا وجود لـ«المفهوم” خارج التّفكير كما يقول إميل بنفينيست
ولقد لمسَ عبد الواحد لؤلؤة هذه المشكلة في أثناء اشتغاله على ترجمة “موسوعة المصطلح النّقديّ”، فسجّل في مقدّمته العامة للموسوعة أنّ «المصطلحات النّقديّة تعتمد مفهومات أوروبيّة ترجع إلى حضارة الإغريق والرّومان وما نشأ من آداب أوروبيّة منذ عصر الانبعاث (وأنّ) ترجمتها إلى العربيّة لا يمكن أن تتّخذ صيغة نهائيّة تقف عندها» ا.هـ؛ ما يعني أن مشكلة ترجمة المصطلحات تعود أساسا إلى نشأة متصوّراتها المفاهيميّة خارج الحاضنة اللّغويّة العربيّة. وإذا قدّرنا أنّ الواقع الحضاريّ والتّفاوت المعرفيّ يؤثّران تأثيرا مباشرا على إحكام صياغة المصطلحات والنّفاذ إلى أعماقها المفاهيميّة، انطلاقا من مقولة دوني ديدرو (Denis Diderot) الّتي يذهبُ فيها إلى أنّ “لغة الشّعب” تمنح مفرداتها الوفيّة لمعارف الشّعب”؛ فإنّنا نتبيّن عمق المشكلة الّتي لم يجد لؤلؤة طريقة لتجاوزها سوى “الاشتقاق” و«النّحت” و«التّعريب” إلى جانب التّرجمة.  واشترط تدخّل “الحسّ اللّغويّ” و«الذّوق الفرديّ” و«المعرفة باللّغات”، وأضاف إلى هذا كلّه “ثقافة المترجم”. ولكنّ مترجم “موسوعة المصطلح النّقديّ” أغفل ما نعتقد أنّه ينبغي أن يسبق كلّ هذا، وهو أولويّة العمل على “توطين المفاهيم” في الحاضنة اللّغويّة التي نرغب في نقلها إليها. فإذا توطّنت المفاهيم واستقرّت في اللّغة، تكون “الصّيغة النّهائيّة” للمصطلح، في سياقه التّاريخيّ أو في سيرورة تطوّره، ممكنة ومعقولة، بل تكون في متناول اللّغة بمنتهى السّهولة. ولقد كانت نتيجة إغفال عنصر “توطين المفهوم” أن عبد الواحد لؤلؤة اعتمد مصطلح “مفارقة” لترجمة Irony، ولكنّه اضطرّ إلى استخدام “مفارقة ساخرة” في ترجمة المصطلح نفسه، في مواضع لم يسعفه الاصطلاح بـ«المفارقة” في التّعبير عن أفكار دوغلاس ميويك. ذلك لأن لؤلؤة لم يعد إلى المفهوم المؤسس، وإنما اعتمد الترجمة التي اجترحتها نبيلة إبراهيم في مقال بمجلة “فصول” صادر عام 1987، وسمته بعنوان “المفارقة”، وتحدثت فيه عن (سقراط بصفته “صانع المفارقة الأول”)، لتخلط بين Ironie  وParadoxe، وتتسبب في انحراف كثير من الدراسات العلمية، خاصة منها المتعلقة بـ«الرواية”، حيث اصطنعت لها تخريجات وهمية لمفاهيم محورية في الدرس النقدي، أصبحت تمثل عائقا حقيقيا أمام القراءة الحصيفة التي تمتلك أدوات النفاذ إلى المعنى.
ولقد تعمّق هذا الانحراف المفهومي، رغما عن المعاجم العربية التي تربط لفظ “السّخريّة” بالهزء والتّهكم والانتقاص، بينما تقدم المعاجم نفسها لفظ “المفارقة” دون أن تضمّنه أي معنى للانتقاص ولا لما هو دونيّ من الأوصاف الّتي يمكن اجتراحها في حق انسان؛ فـ«المفارقة” عند ابن منظور “المبايَنة”، أي المخالفة. و«مَفَارق الحديث” وجُوهه، أي الاحتمالات المفترضة لتأويلاته؛ وهذه لا ترتبط مطلقا بالاستهزاء ولا بالتّهكّم. فإذا قلنا مثلا: إن تظاهر سقراط بـ«الجهل”، يباين حال سقراط المعرفيّة ويخالفها؛ فإنّ “المفارقة” هنا لا تمثّل مجمل “التهكّم السّقراطي”، ولكنّها من أداوته التي يستغلّها في الوصول بمحاوره إلى النّتيجة التي يوجّهه إليها. ثم إن إسحاق ابن حنين جعل “الاستهزاء” مقابلا لـ«Eironeia” في ترجمته لـ«أخلاق” أرسطو؛ ولم يكن أمام ابن حنين سوى الاصطلاح بـ«الاستهزاء” كي يوافق السّياق الذي حدّده أرسطو.
مجمل القول أن المقالات والدراسات العلمية العربية التي تتوجه إلى البحث عن “المفارقة” في الرواية، إنما تقصد إلى تحرّي البنى الساخرة، بحكم أن “الرواية” جنس أدبي نقدي بالضرورة، غير أن الترجمة الخاطئة، أحدثت متتالية من المغالطات المفهومية، واستحدثت مصطلحات أبعد ما تكون عن الإحاطة بالمفاهيم، ومن ذلك – على سبيل المثال (Ironie de Mention) التي تتواطأ الدراسات النقدية العربية على وصفها بــ«سخرية الإشارة”، وهو المصطلح الذي تعتمده المنظمة العربية للترجمة، واختار له هشام ابراهيم عبد الله الخليفة، مترجم كتاب “ نظرية الصّلة أو المناسبة في التواصل والإدراك” لدان سبيربر ودريدري ويلسون، مصطلح “الذكر”، ونعتقد أنه وقف على أن مصطلح “الإشارة” لا يحدد بدقة مقصد سبيربر وويلسون، وهما اللذان لاحظا أن التعريف التقليدي لـ«السخرية” (قول الشيء والقصد إلى ضدّه) لا يسمح بالإحاطة بكلّ أفعال الكلام التي يمكن أن تكون ساخرة، وهذا يعني أن التّعريف المستعار من الحاضنة البلاغيّة، لا ينسحب على “المبالغة” ولا على “كناية التّقليل”؛ لهذا قرّرا دراسة ظاهرة السّخرية دون استدعاء “المعنى المجازيّ”؛ فراهنا على منهج الاستقراء من منظور تداوليّ، ذلك أن “السّخرية” عند سبيربر وويلسون “تركّز دائما على نقل خطاب، دون أن تترك أثرا يدلّ على النّقل، ودون الإشارة إلى السّاخر ولا حتى القول بأنّ الأمر يتعلّق بإعادة إنتاج خطاب، وكأنّ المتحدّث لا يتبنّى الملفوظ الذي يبثّه، ولكنّه يكتفي بإعادة إنتاج خطاب متحدّث آخر، أو فكرة منسوبة إلى شخصيّة أخرى”، فمقولة: “الجو رائع” قد تكون ساخرة إذا قيلت في أثناء هطول المطر، لتكون صدى (Echo) لمنطوق سابق لم يكن ملائما (نشرة جوية مثلا).. وعلى هذا، بدا لنا أن مصطلح “الذكر” أقوم من مصطلح “الإشارة”، وإن كانا معا، يحددان توجها واحدا نحو حدث خطابي سابق، ولا يعبران بدقة عن الجمع بين الحدثين، فقدّرنا أن مصطلح “الوصلة” يكفل التعبير عن الحدثين ويربط بينهما، ليعبر عن حالة (الجيئة والذهوب) بين الحدثين، وهو مستخلص من ترقيم استعمله القدماء لترتيب مؤلفاتهم، حيث يثبت النّاسخ في نهاية الصّفحة تحت آخر كلمة من السطر الأخير، أوّل كلمة في الصفحة الموالية، لتتواصل بها القراءة على الوجه الثاني.. الوصلة إذن – أو التعقيبة كما يتعارف عليها في الكتاتيب عندنا - تنسحب على معنى “الإشارة” إلى الوجه الثاني من اللّوح، وتوظّف في التذكير أو التنبيه إلى ما يلي من النص، أي ما يعقبه ويصله، فتنسحب – بالتالي - على معنى “الذكر”، وهكذا تجمع بين حمولتي المعنى في “الإشارة والذكر” معا.
مصطلح آخر لم يحظ بالعناية، وهو المتعلق بـ«l’Ironie Dominée”، ويضع متصورا إيجابيا استحدثه سورين كيركغور لـ«السخرية”، متخّذا من التهكم السقراطي مرجعية للتخلص من (السلبية اللانهائية المطلقة) التي وصم بها فريدريش هيغل “السخرية الرومانسية”، غير أن أطروحة كيركغور لم تنل حظا في اللغة العربية يتجاوز جهد الترجمة الحرفية، فوُصفت سخرية كيركغور بأنها (سخرية متحكّم فيها) أو (سخرية مسيطر عليها)، وهذا ما بدا لنا ركيكا بالنسبة للمقابل في اللّغة الفرنسية، فاقترحنا له مصطلح “السخرية المروّضة”، ليكون معبّرا عن صنافة السخرية، ويعيننا على تمييز ما ينتمي من أنواعها إلى “الوعي السليم” أو إلى الوعي الفاسد”، وفق فلاديمير يانكيليفيتش، وهو ما نتذرّع به لأجل توضيح مفهوم “السّخريّة” (بما هو اسم جامع) وفق قصديّة الوعي، ومن ذلك أن “التهكّم” و«الاستهزاء” مثلا، ينتظمان تحت الاسم الجامع، ولكنّهما يختلفان على المستويين الأخلاقيّ والمعرفيّ، بقدر اختلافهما في الجانب المقاصدي؛ وحتى إذا قدّرنا بأنّ الحديث عمّا هو “سليم” وما هو “فاسد”، خاضع لنسبويّة معيّنة، بحكم أنّ “الخير” و«الشّرّ” قيمتان تتضمّنان محتويات مختلفة باختلاف النّظم الأخلاقيّة، أي أنّ محتواهما في منظومة أخلاقية معيّنة، قد يكون مضادّا لمحتواهما في منظومة أخرى وفق رؤية نيتشه.
الحاصل أن مفهوم السخرية بالحاضنة العربية لم يبرح مقامه البلاغي لأسباب متعددة، قد يكون بينها عامل الانتقال المتعثر من الواقع الشفاهي إلى الواقع الكتابي، وهذا نستشفه من والاس مارتان في كتاب “نظريات السّرد الحديثة”، إذ يعتبر انتقال أوروبا من القرون الوسطى إلى القرن العشرين، نظيرا للانتقال من “الأسطورة” إلى “السّخرية”؛ وهو ما يصف تاريخ السّيرورة الانتقالية من “الشّعر إلى الأدب”، بل يصف الانتقال بين مختلف أشكال الاشتغال الذّهني، من الإحيائيّ إلى الجدليّ؛ ولهذا نتوسم أنّ استخلاص مفهوم “السّخريّة” إلى الحاضنة اللّغوية العربيّة، يسمح للكتابة الرّوائيّة العربيّة بتجاوز المحاكاة، إلى الوعي بنوعها الأجناسيّ.
ولقد أخذت الدراسات النقدية بالضفة العربية اتجاهات مختلفة في التأصيل لمرجعيات “الرواية” الأجناسية، وأُشكل الأمر بالنسبة لـ«التّشكيل الكرنفالي” وطبيعته، وصار يتأرجح بين “توظيف المكوّن الكرنفالي” (الواقعي) و«الفاعلية الفنية التي يكرسها الرمز الكرنفالي الساخر”، وهذه تتوقف – غالبا - عند مشهدة الاستعراضات الفكاهية الضاحكة ، وتتبنى الدّراسات – في معظمها – “الكرنفال” بما هو “أصل جينيالوجي” لـ«الرواية”، بينما أوضح ميخائيل باختين صراحة أنه لا يقصد إلى أدبية مفترضة في الكرنفال؛ ذلك أن “الكرنفال ليس حدثا أدبيا”  كما قال، وأن القصد يرمي إلى “لغة الأدب” التي تتطابق مع روح الكرنفال، وتستلهم منه مختلف مظاهره؛ ما يعني أن النّظر في “التّشكيل الكرنفالي” ينبغي أن يكون من خلال تعلّقه بطبقات “العمل الرّوائيّ” على المستوى “الأسلوبيّ” و«التّداوليّ”، ومدى تحقق مقولات “الكرنفال” بما هو واقع معيش يخترق الواقع العادي/الطبيعيّ، ويفرض “عالما مقلوبا” ينتهك القواعد العامّة، ولا يعترف بالتّراتبيّة الاجتماعيّة من خلال بلورة شكل ملموس للحياة يمزج “الواقع” بـ«اللّعب”، ويصطنع علاقات إنسانية تبادليّة جديدة، في مقابل العلاقات القويّة للتراتبيّة الاجتماعيّة المفروضة على الحياة خارج الكرنفال .

صنافــات السّخريــة
تعدّدت صنافات “السّخرية”، وتعدّدت تعريفاتها إلى درجة جعلت المفهوم عرضة للغموض، بل إن يانكيلفيتش وصفها بأنها “مستعصية عن التّحديد” كما قلنا آنفا، وذهب إلى أن هناك سخريّة أوّلية تشتبه بـ«المعرفة”، وهي مثل “الفن” بنت الترفيه، (ولكن) “السّخريّة” – بالتأكيد – (يقول يانكيلفيتش) “أخلاقيّة” إلى درجة أنها لا يمكن أن تكون فنّيّة حقّا، و«قاسية” إلى درجة أنّها لا يمكن أن تكون فكاهيّة حقّا .
ولقد حدّد  دوغلاس كولين ميويك عددا من المبادئ، صنف في ضوئها الأنواع الساخرة وفق تراتبية درجاتها، انطلاقا من موقفه الذي اتخذه من الخاصيّة الأساسية لـ«السّخريّة” (“التّظاهر” مثلما هي الحال في منهج سقراط) وإمكانات تعديلها وفق مقتضيات “الحدث” أو “الموقف”، ويتضمن تصنيفه قسمين مركزيين: “القصدي”، و«غير القصدي”، دون أن يهمل ما يصفه بأنّه من “الخصائص الجوهرية” لـ«السّخريّة” و«الخصائص المتغيّرة” ، أما واين كلايسون بوث، فقد اقترح تصنيفا لإجراءات “السّخرية” وفق ثلاثة متغيّرات، أوّلها “درجتا الشّفافية والإخفاء”، وهذه مقتضاها التّركيز على منسوب العمل الذي يقتضي تفكيك الشّيفرات، والثّانية “درجة الاستقرار في إعادة بناء المعنى”، وهذه تركّز على الأسباب التي تجعل المتلقّي يفكر بأنّ عمله التأويلي قد انتهى في لحظة معيّنة، أما المتغيّر الثّالث، فهو المتعلّق بـ«الحقل الذي تنكشف فيه الحقيقة”، وهذا يتعلق بالمدى الذي ينبغي للقارئ فيه أن يتابع أسلوب “الإنكار”، وهو ما ينتهي به إلى التّفريق بين “السّخرية المستقرّة” و«السّخريّة غير المستقرة”، ولقد لاحظ بوث على المستقر من السّخريات أنها تشترك في أربع علامات تميّزها عن غير المستقرّ منها؛ وهي كما يلي:
- أنّها جميعها موجّهة ولها مقاصدها، وهي إبداع بشري للسّماع أو القراءة أو الفهم، ولهذا فإن هذه العلامة لا تمتدّ إلى ما يمكن أن تصطنعه الصّدفة، ولا إلى ما يصدر عن غير وعي؛ وهي لا تنسحب -  بالتّالي - على ما يعرف بـ«سخرية الأحداث”، ولا على “الحبّ من أوّل نظرة”، كما يقول بوث.
- أنّها جميعها تعتمد على تضمين مقاصدها التي ينبغي إعادة بنائها بما يوافق المعاني السّطحيّة المختلفة، وهذه علامة لا تنسحب على المقولات الصريحة؛ مثل: “إنه لمن السّخرية أن..” وغيرها من العبارات المشابهة.
- أنّها كلّها تستقر أو تتثبّت بمجرّد تحقّق معناها الضّمنيّ، ما يعني أنّها لا تستدعي المتلقّي إلى هدم المعنى وبنائه من جديد؛ وإذا اختار المتلقّي، من تلقاء نفسه، إعادة بناء المعنى مرة أخرى، فإنّه يمكن أن يحوّل “المستقر” إلى “غير مستقر”، ولكنّ خياره هذا لا يؤثر مع أخذ العلامة الأولى بالجدّية اللاّزمة.
- أنها تشترك كلّها في التّطبيق المحدود، وهي تتباين مع السّخريات اللاّنهائية (مستقرّة وغير مستقرّة)، ذلك أن معانيها التي يعاد بناؤها موضعيّة ومحدودة، وحتى حين يكون موضوعها عامّا ومتشعّبا، فإنّ مجال الخطاب بها يكون محدودا جدّا بالنّظر إلى اتّساع الموضوع الّذي تشتغل عليه.
ويسجّل بوث بأنّ العلامات الّتي حدّدها لـ«السّخرية المستقرّة” أبعد من أن تكون نهائية، ذلك أنّها لا يمكن أن تميّز السّخرية عن بقيّة الأشكال التي تقتضي القراءة بين السّطور، فهناك اجراءات كلاميّة كثيرة “تقول شيئا وتقصد إلى آخر” كي تستدعي القارئ إلى إعادة بناء المعنى، كما هي الحال مع “المجاز” و«الاستعارة” و«الكناية”.
وإذا كان بوث يراهن في مقاربة المقول السّاخر على قصديّة المؤلف، فذلك لأنّه لا يتصوّر النّصّ دون حدود يضعها أمام القارئ، بل إنّه يرى هذه الحدود أمرا لا جدال فيه، والنقاش - كما يراه بوث - لا يتعلّق بتعدّد التّأويلات المفترضة لنصّ أو فقرة معيّنة، وإنّما هو متعلّق بالخيار بين تأويلين اثنين جادّين متعارضين تعارضا واضحا، وعلى هذا، تكون “السّخريّة” مستقرّة إذا توصّل القارئ إلى قصد المؤلف الضّمنيّ، بينما لا تكون مستقرّة في حالتين اثنتين: أولهما تلك التي يرفض فيها المؤلف اتّخاذ موقف، وهو ما يمنع القارئ عن إعادة بناء المعنى الحقيقي للنّصّ، والحالة الثّانية هي تلك الّتي يرفض فيها القارئ تلقّي العمل وفق مقاصد المؤلف، ويحاول - عوضا عن ذلك - أن يفرض تأويله الخاصّ .
أما بيار شاونتيس (Pierre Schoentjes)، فقد جعل “السّخريّة” أربعة أقسام: التّهكم السّقراطي، سخريّة الموقف، السّخرية اللّفظيّة والسّخريّة الرّومانسيّة؛ ثم خصّص لكلّ قسم منها مجاله الخاصّ الذي يوافق “نوع الخطاب” و«الغائية” و«المعنى” و«الشّكل”، فانتهى إلى ربط “التهكّم السّقراطي” بـ«السّلوك”، و«سخريّة الموقف” بالوضع العام أو المقام؛ بينما ربط “السّخرية اللّفظيّة” بـ«الخطابة”، و«السّخريّة الرّومانسية” بـ«الفنّ”. ثم جعل أقسام السّخرية نوعين: نوع وسيط يستجيب لمعيار مادي (السّخرية في الكلمات والسّخرية في الأشياء)، ونوع ثان أوّليّ يستجيب لمعيار زمنيّ (التّهكم السّقراطي والسّخريّة الرّومانسيّة)، بينما اقترحت مونيك ياري تخصيص مصطلح “السّخرية الرومانسيّة” للظّاهرة في سياقها التّاريخي، ما يعني أن المصطلح لا ينبغي أن يتجاوز “تاريخ الأدب”، بل يجب التّخلّي عن هذا الاصطلاح في مجالات التّنظير والنّقد، وكل ما يتعلّق بـ«المفهمة” (Conceptualisation) والتّحليل، وانتهت ياري إلى اقتراح الاصطلاح بـ«السّخرية الحديثة” عوضا عن “السّخرية الرّومانسيّة”، ثم أسست للسخرية الحديثة وفق تراتبية جعلتها في قسمين: السخرية المفارقة (Ironie paradoxale)، والسخرية الشعرية (Ironie poétique) أو “السخرية الفلسفيّة” و«السخريّة الفنيّة”؛ وسجّلت أنّ “السّخرية الفلسفيّة الحديثة” توصف أحيانا بأنّها “سخريّة مفارِقة”، وأحيانا أخرى بأنها “سخريّة عدميّة”، بينما يتوحّد النّظر إلى سخرية الحداثة البدئية الفلسفية (Ironie Philosophique Proto-Moderne) على أنّها “سخرية مفارِقة”، في حين، تختلف التوجّهات في النّظر إلى “السّخرية ما بعد الحداثيّة”، وهي التي ما تزال في حاجة إلى توثيق، فتُدرج أحيانا في مدارج الفكاهة، وأحيانا أخرى تُلحق بالسّخرية العدميّة، وذلك وفق المؤلف، أو بقدر أخصّ، وفق المجال الفنّي أو البلد، أي المناخ الثّقافي الذي تتجلّى فيه.
ولا نرى حاجة في مواصلة عرض صنافات السّخرياتيين، خاصة وأنها – في مجملها – تتفق على خاصية “الإخفاء”/”التظاهر”، بما هي الميزة الرئيسة لأي نوع من الأنواع الساخرة، حتى إن فرديريتش نيتشه كان يتجنّب في كتاباته الاصطلاح بـ«السّخرية”، ويفضل “الإخفاء” أو “القناع” .

السّخرية في الرواية
قد يكون واضحا أننا تعاملنا مع الجانب الظاهراتي من “السّخرية” بحكم أن تجلّياتها في الألفاظ والعبارات البسيطة، غير كافية لاستيعاب تحوّلها إلى موقف يرمي إلى إعادة ترتيب الرؤى، أو إلى إعادة النّظر الشّاملة في المتصوّر العام، بتعبير اشليغل، وما دام “التشكيل الكرنفالي” أصل ثابت في الطبيعة الأجناسية للرواية، فهذا يعني تلقائيا أن “سؤال السّخرية في الرواية” هو نفسُه سؤال أجناسي، بحكم أن عمود كلّ رواية – مهما تكن الرواية - لا يمكن إلا أن يكون “السّخرية”؛ ولهذا تخيّرنا رواية “المطر يكتب سيرته” لمرزاق بقطاش، وهي رواية مأساوية لا تحفل بالسّخرية اللّفظية، على غرار السّرديات السّاخرة المحض، ولكنها تجعل عمودها ساخرا يتجاوز القراءات السّطحيّة التي تركّز على تفاصيل لا ترتبط بفنّ الرواية، وتترك  – بالتالي – فاعلية السّخرية لـ«الكمون”، ما يؤدي بالضرورة إلى تعطيل قدرة العمل الروائي على القيام بوظيفته النّقديّة، بل حرمانه ممّا يسوّغ طبيعته الأجناسيّة .
ويجب أن نسجل – في هذا المقام – أن رواية بقطاش لم تذكر لفظ “السخرية” بمتفرعاته، إلا في سبعة مواضع على الأكثر، بينها مشهد عبّرت فيه “لوسيان” عن ذهولها من صيحة أطلقتها “فاليريان” وهي في غيبوبتها، فسُرّ “فرحات” بما توسم أنه خيط أمل قد ينتهي إلى عودة محبوبته من الغيبوبة، بينما «علّقت الممرضة على سبيل السخرية منه: ها قد عدت، يا من يعرف أمور الطّب أفضل من الطّبيب المعالج!» ، وهذه تدخل فيما لا يعتدّ به من علامات واين بوث المذكورة سلفا.

المطر يكتب سيرته
تنقسم رواية “المطر يكتب سيرته” إلى قسمين كبيرين، تدور أحداث الأول منهما في تسعينيات القرن الماضي، بينما يركز القسم الثاني على أحداث وقعت عام 1946م، وقد وزعها بقطاش على ستّة فصول (مقبرة بحرية – فرحات - أورليان – فاليريان – ترجيعات سينمائية – توشية الغريب) وسيّر حبكاتها في فيلا فخمة تقع على شاطئ البحر قريبا من مدينة اسطاوالي، يستقبل بها مالكها، فرحات، ابن أخته المهندس المعماري (محمود) وابنَه الطالب بكلية الفنون الجميلة (نسيم)، حماية لهما مما يتربّص بهما من مخاطر الموت على أيادي الإرهابيين، وتكبر الألفة بين الشيخ فرحات نسيم، فيشاركه جولته الصباحية إلى “كثيب رملي” (مقبرة الحلازين)، فقد أدرك أن المأساة التي يعيشها ابن محمود تحتاج إلى شيء من التّرويح عن النفس، خاصة أنه كان يعيش الخوف على والده ووالدته التي اضطرت إلى إجراء عملية جراحية على القلب بباريس، وحدث أن وقعت مشادة مع سمسار يرغب في شراء الفيلا، عقّدت وضع نسيم النفسي، ليأتي خبر اغتيال واحد من أصدقائه بكلية الفنون الجميلة مع والده مدير الكلية، فيزداد الوضع تعقيدا يبلغ درجة دخول نسيم في حالة ذهول، خاصة أنه سمع والده من قبل وهو يحدّث صديقه المغتال قائلا: «لقد حطموا حياتي، ولا أريد أن يحطموا حياة ابني» ، ثم سمعه، مرة أخرى، وهو يقول للشيخ فرحات بعد حادثة الاغتيال: «أخشى أن أُقتل، أنا وابني، مثلما قتل صديقي مدير معهد الفنون الجميلة وابنه في عقر دارهما بالذات» ، وفي خضم الخوف، لم يجد فرحات ما يخفف به صدمة نسيم سوى العودة إلى كراستي صديقه “بليز” (ابن صاحب الفيلا الذي يشتغل بصناعة العطور في مدينة جراس الفرنسية) ليكشف تفاصيل المأساة التي عاشها عام 1946، مع وفاة أورليان نتيجة مضاعفات صحية بسبب حبسه في محتشدات الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، ثم وفاة فاليريان حزنا على خطيبها وزميلها بمعهد الموسيقى بباريس، ومع تصاعد الأحداث التي يرويها بليز في كراستين وفقا لوصية والده بقصد متابعة حالة ابنته المريضة، تتحسن حال نسيم، ويعود إلى طرح الأسئلة حين يعيش الجوانب الموثقة في “الترجيعات السينمائية”، ويحتم فرحات مأساته وهو يطلق من الكلافسان جملا نغمية من مقطوعة “البحر” لكلود دبيسي، ويحولها في بضع ثوان إلى “توشية الغريب”، ثم يسود صمت كليّ عجيب.

الإطار العام للسّرد
لا شكّ أن كتابة “السيرة”، مهما تكن السيرة، تقتضي التركيز على المواقف العصيبة، فالناس – عادة – ينشغلون بالمثير والمخيف، وما يتوسّمون أنه يمنحهم تجربة إضافية في الحياة، وعلى هذا، يمثّل عنوان رواية بقطاش أول ما يثير انتباه المتلقي، فـ«المطر” عنوان الغيث والخير والنماء، و«الكتابة” التي يمارسها تُحدّث عن وعي كامل بدور حيوي في الواقع المعيش، بينما تصنع فكرة “السيرة” - في مقابل “المطر” والكتابة” - وضعا يوحي بأن تركيبة العنوان مثالية/شعرية خالصة، وقد يترسّخ هذا الشّعور لدى المتلقي، مع أوّل مشهد من الرواية يصوّر “فرحات” “المرهق نفسيا، المكدود جسديا”، وهو يتمدّد على كثيب رملي تجتهد الحلازين في تسلقه كلما هطلت أمطار الربيع، كي تكمل دورة الحياة، وتلتحق بها آلاف الحلازين الأخرى لتترك الانطباع بأنها جاءت لتشارك في جنازات الحلازين التي سبقت، ثم تلفظ أنفاسها الأخيرة في هدوء، تماما مثلما هي أمنية فرحات، في مقابل الفتى نسيم الذي يبدي عدم رضاه عن مواقف خال والده؛ ذلك أن الفتى يجابه الموت هو الآخر، ولكن بشكل مختلف، ثم إن الكثيب الرملي – بشهادة فرحات - كان مقصدا للسياح الذين طالما “تسلقوه (في الزمن الغابر)، وتعجبوا من الحلازين التي تنتحر فيه”، ليتبين فرحات (في زمن السّرد) أن المسألة إحساسٌ بـ«دنو الموت”، وأنه – مثل الحلازين – يريد أن يكون شبيها بها في هذه المرحلة المتأخرة من العمر (ثمانون عاما).. “يجب أن يموت في مكان مماثل لهذا الكثيب، لن يُقلق أحدا، ولن يزعجه أيّ إنسان” .
وقد يكون واضحا مما قدّمنا، أن سؤال “المطر يكتب سيرته”، وجودي محض، وأن “الموت” - في مختلف تمثلاته – هو المحرك الأساسي لفاعلية السؤال، ما يجعل “سيرة المطر” محاولة لتفكيك إشكالياته الكبرى في مواجهة الحياة بفيلا اشتراها صانع العطور الفرنسي عام 1930م، واستقبل بها فرحات الميكانيكي الناجح، بعد أن أنقذ ابنه من الهلاك على أطراف مدينة البندقية في الحرب العالمية الثانية، ويعيش فرحات قيّما على الفيلا يتلقى راتبا، ولكنه لم يكن مستخدما عاديا، وإنما كان عضوا من العائلة، وعنصرا مهمّا فيها.

 تجلّيات “السّخرية” في “المطر يكتب سيرته”
تتجلّى “سخرية الحب” (Ironie de l’Amour)  في رواية بقطاش واضحة دون غموض، فهي أصلا «تولد من الإحساس بالتّناهي، والإحساس بحدودها الخاصّة، ومن التّناقض الظّاهر بين هذا الإحساس وفكرة اللاّتناهي التي يتضمّنها الحبّ الحقيقي»  كما يقول اشليغل، وهو ما يجسّده فرحات الذي يقع قي حبّ “فاليريان”، مع سابق علمه أنه “حبّ مستحيل”، بحكم أن محبوبته مخطوبة لـ«أورليان” الذي تعرّفت عليه في معهد الموسيقى وأحبته بشغف، وأنها قد تقضي جزعا على وفاته، ثم إن شقيقها “بليز” سجل في يومياته أنه سأل فرحات: «هل تحب فاليريان حقا؟!.. لم يردّ عليّ؛ لأنه وجد السؤال غريبا، هأنذا أمام حالتين شاذتين، فاليريان تقف على حافة الجنون وتستعصي عليها العودة إلى أرض الواقع بعد الذي أصابها، وفرحات ينأى عن دنيانا بدوره؛ لأنه مصاب بجنون الحبّ (...) هل يجنّ الإنسان حقا إذا ما تعلق الأمر بمواجهة حبّ مماثل من طرف واحد؟!» ، وهذا كاف جدا ليوضّح الحال التي يعيشها فرحات، فهو يحتفظ بحبه “اللامتناهي” لفاليريان، بينما يحول إحساسه بـ«التّناهي” (وفاة أورليان واحتمال وفاة فاليريان.. إلخ) دون البوح بالحب الذي يمزّق قلبه، حتى إنه – كما وصفه بليز – يجلس أمام فاليريان في غيبوبتها «وكأنه قبالة قدّيسة من قدّيسات العصر الوسيط. عيناه تتسمران في وجهها كأنما يحاول أن يستشف فيه معالم الحياة» .
ولقد عرف بقطاش كيف يدير إجراءات “سخرية الحب” بإحكام، ويتقن توزيع علاماتها وفق تطوّر الخط السّردي، ومع هذا، نرى أن الروائي جعلها ثانوية مكمّلة لمخطط السّرد، وهي تنسجم مع باقي البنى الساخرة في الرواية، كي تتوصل إلى تفكيك إشكاليات واقع معيش يحيط به الموت من كل جانب.. واقع مأساوي لا تسلم “فيلا فرحات”، في أثنائه، من أعين السماسرة الذين يرغبون في ابتياعها بسعر زهيد؛ لأن العديد منهم «ذهبت بهم الظنون إلى أن الشيخ فرحات استفاد من سياسة الأملاك الشاغرة، وسكن الفيلا بعد استقلال الجزائر عام 1962، وادّعى آخرون أنه لا يمتلك أية وثيقة تثبت أن الفيلا صارت ملكا له بقرار من مالكها الأول (...) وخابت ظنون الجميع عندما علموا أن الشّيخ فرحات يمتلك الوثائق الرسمية فعلا، وازدادت خيبتهم عندما قررت السلطة وضع يدها على المنطقة كلّها، وأن تُسكن فيها مسؤوليها السّياسيين الكبار» .
ويتكرر الموقف نفسه بالرواية – في زمن الاحتلال - حين يحلّ سمسار إسباني، يدّعي أنه سمع أن “الفيلا” معروضة للبيع، لكن فرحات وبليز يردّانه عن أطماعه، غير أن الأحداث تتصاعد مع هذا السمسار الذي يمارس ضغطا رهيبا يبلغ به درجة إلقاء القبض على فرحات بتهمة القتل، ولم تختلف ظنون سكان اسطاوالي الفرنسيين في فرحات فقد «تجمهروا فوق ربوة وراحوا يجعجعون دون توقف. ما إن وقعت أبصارهم على فرحات حتى انطلقت الوشوشات والتّساؤلات والإشارات الغامضة»، فهؤلاء لم يكونوا يعرفون مكانة فرحات بين أفراد عائلة صاحب الفيلا الفرنسي، تماما مثلما لم يكونوا يعلمون بأنه تحصل على ميدالية الشّجاعة بالجبهة الإيطالية، فقد حرصوا خلال الحرب على البقاء «بضيعاتهم يراقبون تحركات الفلاحين البؤساء، يسومونهم الخسف والهوان» .    
ولا تختلف صورة السمسار في زمن الاستقلال عن نظيره في زمن الاستعمار، فهما معا جشعان ينتهزان الفرص للإثراء على حساب الناس، وهما معا يمتلكان نفوذا قويا في السلطة، وكلاهما يضغطان بشتى الوسائل لإخراج فرحات من الفيلا، وفي هذا التناظر بين زمن الاستقلال وزمن الاستعمار، نلمح بقطاش وهو يأخذ المسافة التي تكفل له بناء العمود الساخر دون تدخل، ذلك أن “السّخرية” تكون مفترضة (في حالة خمول) بالقسم الأول، ثم تنتقل في مرحلة تالية، بالقسم الثاني، إلى “التّحقق” في اللحظة التي يتمكن فيها الملاحظ/المتلقي من تكوين صورة مجملة عن “قصديّة” معيّنة للسّرد، ما يعني أن بقطاش “يُخفي” مقصده من الرواية، ولكنّه يتذرّع بكل ما يتاح له كي يحيل إلى حقيقته أمام القارئ، و«السخرية” - بطبعيتها - تقدّم لـ«الضّحيّة”/”القارئ” كل الأدوات التي تتيح اكتشاف ما يخفي المنطوق؛ لهذا قدم بقطاش شخصياته الرئيسية دون ألقاب كي يوحي للقارئ أن أحداث الرواية هي نفسها في جميع أنحاء القطر، وألغى أسماء جميع الشخصيات الثانوية، كي يمعن في التعميم، ثم استبق لحظة انتقال “السخرية” من “الخمول” إلى التحقق”، فافتتح القسم الثاني من الرواية بذكر اسم “الفيلا” مرة واحدة فقط.. “المطر”، وهو الاسم الذي أطلقته والدة بليز وفاليريان على الفيلا عندما وقعت عيناها عليها أول مرة عام 1930 (...) ومنذ ذلك الحين، وهذا الاسم ملازم لهذه الفيلا، وهذا ما لم يعد إليه بقطاش مطلقا كما فعل مع باقي الأحداث، وكأنه حرص على “إخفاء” الاسم بين الأحداث المتصاعدة، كي لا يتبين القارئ حقيقة العمود الساخر إلا عندما تجتمع لديه كل مكوناته.
بناء على ما سبق، يتضّح أن “سيرة المطر” هي سيرة الوطن بكل ما ابتلي به من نكسات متعاقبة، وما كابد من الصبر من أجل البقاء شامخا لا تمسه أيادي “السّماسرة”، ويتّضح أيضا أن عمود الرواية يتأسس على “سخرية القدر” (Ironie du Sort) التي يُلقي فرحات بإرهاصاتها الأولى قائلا: «قمنا بثورة عملاقة في هذا البلد، وأبينا إلا أن نصير أقزاما بعدها، أجل، ألقينا بأنفسنا في خندق عميق» ، فالصورة في زمن الإرهاب لم تختلف عن نظيرتها في زمن الاستعمار، وإن كانت الرؤية الوجودية مختلفة بين جيل محمود الذي يحمل همّ الحياة وهو يفرّ من الإرهابيين القتلة، وجيل فرحات الذي يحمل همّ الموت، وهو يواصل المقاومة لأجل التخلص من السّمسار، بل إنه يقضي وهو يعزف “توشية الغريب” في هدوء دون أن يُقلق أحدا، أو يزعجه أي إنسان.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19761

العدد 19761

الأربعاء 30 أفريل 2025
العدد 19760

العدد 19760

الثلاثاء 29 أفريل 2025
العدد 19759

العدد 19759

الإثنين 28 أفريل 2025
العدد 19758

العدد 19758

الأحد 27 أفريل 2025