مثلما كانت الرواية أداة من أدوات نشر الوعي القومي وتشكيل الضمير الجمعي للأمة، و«حاضنة للطموحات القومية إلى حد أن ذهب البعض إلى اعتبار أن العولمة الأدبية فكرة مضادة للتقاليد القومية الراسخة والمعظمة”، يؤمل منها أيضاً أن تنشغل بالمشترك الإنساني، لذا بتنا نرى اليوم اتجاهاً روائياً معاكساً يميل إلى عولمة الأفكار والثقافات والاتجاهات الروائية بدلاً من مركزتها في شكل استقطاب أحادي اللون والنكهة الثقافية..
الحلقة الثانية
غير أنه في يومنا هذا غدت الغالبية العظمى من الناس ترفض فكرة “النزوع الكولونيالي” و«الإمبراطورية المهيمنة “ التي ترسخت في الستينيات والسبعينات من القرن العشرين مع نمو الحركات المناوئة للإمبريالية، وصعود الحركات الداعمة للحقوق النسوية، وقد تعاظم - منذ ذلك الحين - إدراك خطر أفكار من مثل: الإمبراطورية والعنصرية والتمييز الجنسي، ولم ينظر إليها بوصفها هموماً فردية بل عامة ترسخ دور الأفكار المناهضة للهيمنة الإمبراطورية مع رسوخ الأفكار المضادة للنزعات الكولونيالية وصار بإمكاننا اليوم أن نرى كتاباً يكتبون في هذا السياق الجارف من جميع أنحاء الكوكب الأرضي وصار متاحاً لنا الوصول إلى نتاجات الأدب العالمي بأفضل مما كنا نفعل من قبل.
الرواية المعرفية وتداخل المعارف
وقد أفضى النزوع إلى التواصل والتداخل الثقافي والاجتماعي بين الأمم والشعوب، إلى نزوع من نوع آخر، هو نزوع إلى التداخل المعرفي يمكننا من أن نطلق على الرواية “الرواية المعرفية”. وقد عني بهذا الاتجاه المعرفي لطفية الدليمي، ففي لقاء حواري أجراه معها عواد علي، أشار إلى أنها ترد تداخل المعارف إلى أن العقل البشري الخلاق يصهر المعارف المتعددة ويعيد إنتاجها في هيئة مركب عضوي واحد، ويسعى إلى استكشاف تلك الروابط التي تربط كل الاجتهادات المعرفية البشرية، فالعقل الخلاق ينفر من الرؤية المحدودة. ولأن الدليمي معنية بالتداخل المعرفي، نجدها تنقل قول جي إم كوتوزي في مقدمة ترجمتها لكتاب فيزياء الرواية: “إن تأريخ الإبداع الإنساني هو تأريخ التخصيب المتبادل والمتواصل بين الأفكار خارج حدود الجدران والجدران المصطنعة بين الثقافات”.
وقد شكل هذا التداخل المعرفي تحوّلاً جوهرياً في بنية العمل الروائي، إلى درجة صار نصاً معرفياً وأساساً معرفياً ومنصة معرفية، بل حاضنة معرفية لخلاصات الفكر والفلسفة والتقنيات المتطورة، تزود المتلقي بأنواع المعارف التجريبية والإنسانية على السواء، وربما يؤدي ذلك إلى ازدهارها. وهذه الطبيعة التي تتميز بها الرواية رتبت عليها أدواراً منتظرة في تهشيم نموذج المركز الأطراف الثقافي وجعله إرثاً ثقافياً مركوناً على رفوف النسيان.
الرواية الرقمية والتعليم..
وللرواية دور في النهوض بالجانب التربوي والتعليمي، مما فرض عليها مواكبة التغير والجديد، فقد صار تطويع التكنولوجيا في خدمة المحتوى ضرورة ملحة. وقد جعلت بعض الأنظمة التربوية تحويل المحتوى المعرفي إلى رواية رقمية بصرية وسمعية أولوية، مما أفرز تحدياً تمثل في السعي إلى مخاطبة الجيل الرقمي بالرواية الرقمية والوسائل التكنولوجية الرقمية. ونحن إذ نوظف الرواية في بناء العالم الرقمي، فلأننا نسعى إلى تغيير العالم الواقعي.
يُعول الكثير على الرواية الرقمية في أنها تحفز وتثير التفكير من خلال الصورة، وتحث العقل على التفكير وخلق صور ذهنية متوالية ذات متوالية دلالية قوامها الكلمة والصورة والتفكير والموقف الناقد، وتتمثل مهمة الرواية الرقمية في افتراع وسائل تدفع المتلقي إلى التفكير، فخير الكلام ما يثير العقل ويحفزه إلى التفكير ويصنع الصور فالقضية الأساس في هذا السياق، هي بناء رواية وتوظيفها وإثارة تفكير المتلقي، مما يجعل التركيز على النص والبنية والمقاصد أولوية كبرى. وهذا يتطلب العناية بالمحتوى وبناء المعنى المثير للتفكير والرؤية الناقدة، فالرواية سؤال ومفتاح للأسئلة وليست نهاية، مما يلقي بمسؤولية كبيرة على كاتب المحتوى، مع مراعاة التبسيط والوضوح والتشويق وعدم الإطالة، والأخذ بالحسبان مستويات الجمهور من أجل التأثير فيهم وحثهم على التفاعل فيما بينهم.
لعله من المفيد أن نتوقف عند نقاط الاتفاق والاختلاف بين الرواية الورقية والرواية الرقمية. وثمة مشابهات بين الرواية الرقمية والرواية الورقية من حيث العناصر وحركة الشخصيات والمقاصد والرؤى، مع فارق في درجة توظيف الأدوات الفنية، مع ضرورة مراعاة أن الإغراق في توظيفها على حساب صناعة المحتوى يقتلها، كما أن حشد معلومات كثيرة يقتلها أيضاً، مما يعني ضرورة الحفاظ على التكثيف ومزاوجة الصورة مع الصوت، وتوظيف السرد البصري ، والمزاوجة بين النص المكتوب والصورة، ذلك أن النص المكتوب يصنع الصورة.
التأليف في الرواية الرقمية تأليف جماعي، يشترك فيه الكاتب والمبرمج والمصمم والجمهور المتفاعل، فلغة الكاتب هي الكلمات، ولغة المبرمج هي الأرقام والبرمجيات، ولغة المصمم هي الألوان، والرواية الرقمية ليست قالباً ثابتاً يُسكب فيه المحتوى، بل يتم تشكيله حسب رؤية الكاتب، فكل رواية عالم جديد ومخلوق جديد وفضاء جديد ورؤية جديدة. وتصميم الرواية جزء من المعنى والمحتوى والسرد الروائي التفاعلي، وليس شكلاً فقط، وإذا كان للسرد روح، فإن التصميم هو الروح الذي تسري فيه.
للرواية الرقمية أكثر من بداية ونهاية، وقد تكون البداية من الوسط أو من النهاية، وفي كل جزء بداية ونهاية، على خلاف الرواية التقليدية التي تقوم على البداية الواحدة، وعلى النهاية الواحدة أحياناً.
جمهور الرواية الرقمية، هو المستخدم المتفاعل وبوجه عام، فإن جيل الكمبيوتر هو المستهدف، وهو جيل يقدس السرعة، ويعيش في عالم التدفق المعلوماتي، وأحياناً، لا ينتمي إلى الجيل الذي يكتب ويوجه، مما يزيد الأمور تعقيداً ، لذا من المهم التفكير في مستوى المستخدم ونوعه وأفق توقعه ونوع مشاركته، نظراً لدوره في العملية السردية، ومن الضروري أن تدفعه الرواية إلى المتابعة والتفكير بمغزاها وما بعد نهايتها.
وينبغي مراعاة أن ثمة خصوصية في إنتاج المحتوى التعليمي في مختلف التخصصات، إذ لا بد من الحرص على عنصر التشويق بالاهتمام بطريقة تقديم المحتوى، من أجل ضمان تفاعل المتلقي مع المحتوى، مع العلم أن التفاعل قديم في أساليب التدريس، لكننا نعيد توظيفه في الرواية الرقمية بتفاعل أكبر وأوسع وباستخدام التكنولوجيا. والسؤال الذي يُطرح الآن: لماذا نوظف الرواية الرقمية؟ والجواب يكمن في قدرتها على إثارة الأسئلة وإثارة التفكير الناقد، بالإضافة إلى أنها تقدم المعرفة وتحفز المتلقي على التحليل واستخلاص المعاني والأفكار وحفزه على التخيل، والخلاصة أن المتلقي وهو يتفاعل مع الرواية الرقمية، يفكر ويتخيل ويستدعي ويبدع وينتقد ويتزود بالمعرفة.
لا فرق بين الرواية التقليدية والرواية الرقمية سوى باستخدام وسائل التكنولوجيا، من صوت وصورة وموسيقى واستخدامها في التعليم في عرض المحتوى بطريقة جديدة، مما يعظم من أدوارها. وعلينا أن ندرك أن دور المتلقي في صناعة محتوى الرواية الرقمية أعظم من دوره في الرواية الورقية، ذلك أنه شريك في إنتاج المحتوى، وبالتالي، لا بد من التركيز على المحتوى وعلى جودة إنتاجه وأسلوب تقديمه للمتلقي، ومراعاة القطاع العريض من المتلقين وتنوع مستوياتهم. وإذا كان السرد هو المعتمد عليه في الرواية الرقمية، فإن الصورة هي المعول عليها في الرواية الرقمية لدورها الكبير في إثارة التفكير، وبالتالي، فإن التحدي يكمن في كيف نحوّل المحتوى إلى رواية رقمية، مما يعني ضرورة التركيز على الأسلوب وطريقة التقديم والتصميم والإخراج. ونشير إلى أن صناعة المعنى بمشاركة المتلقي يرفع من مستوى الرواية.
ينبغي مراعاة أن يتصف المحتوى بالتشويق والتأثير بتوظيف المؤثرات الفنية التكنولوجية من موسيقى تصويرية وإيقاع صوت وارتفاعه وانخفاضه في مواقع مختلفة، لما لذلك من دلالات وأهمية، فنغمة الصوت لها دور في التأثير، وتشير إلى أهمية الموضوع وتأثيره في المتلقي، مع مراعاة ضرورة الاقتصاد في حشد تقنيات التكنولوجيا، من أجل إعطاء فترة من الزمن للتخيل والتفكير والتصوّر وتكوين الدلالات، والاقتصاد في مدة العرض تجنباً للملل الذي ربما يلحق بالمتلقي. وهذا يعني أن إنتاج الرواية الرقمية وعرضها عمل يشترك فيه المؤلف والمصمم وكاتب السيناريو والمخرج والمنفذ وخبراء في الصوت والصورة واللون، وغير ذلك، على خلاف إنتاج الرواية الرقمية.
ثمة أكثر من نمط يستخدم في الرواية الرقمية، منها: النمط السمعي، والنمط المرئي، ويمكن دمج النمطين معاً، بما يحفز على خلق الصور الذهنية عند المتلقي، بالاستعانة بالصور والفيديوهات، أما النمط الثالث فهو النمط المكتوب، ويكتسب أهميته من كون الرواية مرتبطة بالمكتوب، وهذا يعني أنه يمكن تقديم المحتوى بأكثر من استيراتيجية، والتدرج في تقديم المنتج بتقسيمه إلى مراحل، منها مرحلة التمهيد لما قبل الاستماع ثم مرحلة الاستماع برواية الرواية سمعياً أو بصرياً، وأخيراً مرحلة ما بعد الاستماع بما تتضمنه من مناقشة وتحليل واستخلاص ونقد بما ينمي مهارات التفكير الناقد، ويمكن إضافة مرحلة يكلف فيها الطلبة بالقيام بمجموعة من الأنشطة، وكتابة وإنتاج رواية رقمية ثم يتناقش الطلبة فيما بينهم بحضور المعلم الذي يقوم بدور التوجيه وإثارة الحوار، وهذا يعزّز رأي الطالب.