أعماله تنبع من عمق الثّورة الفلسطينية

الاتّجاهــات الحكائية في شعـر أبـي عـرب

الباحث: عمر عبد الرحمن نمر

 تستهدف هذه الورقة أشكال توصيل الرسائل عند الشّاعر أبي عرب، من خلال الأغنية الوطنية التي كتبها، ولحّنها، وغنّاها، لذا تتوخّى هذه الورقة أن تجيب عن الأسئلة: ما الرّسائل التي حملتها أغاني أبي عرب؟ كيف تشكّلت هذه الرّسائل؟ وبالتالي تتقاطع الورقة في الإجابة عن السؤال المركزي: كيف بنى أبو عرب أغنيته؟ ما عناصرها؟ وكيف ترتّبت هذه العناصر؟ وعند الشروع بكتابة البحث، لم أجد في المكتبة العربية أي أبحاث أو دراسات حول فنانٍ فلسطينيٍّ قضى عمره مناضلاً، ولم أجد مرجعًا يشير إليه العنوان..كل الذي وجدته هو ما اعتدنا قراءته من كتبٍ لنمر سرحان، والبرغوثي، وكناعنة، وكأنّ البحث التراثي العام قد توقف، وتوقف معه البحث في الأغنية الشعبية، وآليّة بنائها..

وأمام هذا المعيق في قلة المراجع والأبحاث حول شعر أبي عرب وقصائده، عدت لما توفّر من إبداعات الشاعر، القصائد والأغاني التي سمعتها، وتأملتها، وحاولتُ تصنيفها تبعًا لمعمارية بنائها، وخصائصها، وطبيعة رسائلها. من هو الفنان أبو عرب؟
أبو عرب، إبراهيم محمد صالح، شاعر ومنشد الثورة الفلسطينية، ولد في قرية الشجرة (بين مدينتي الناصرة وطبريا) عام 1931. اكتسب أبو عرب موهبته الشعرية من جدّه لأمه “الشيخ علي الأحمد” أحد وجهاء قرية الشجرة. بعد نكبة 1948 لجأ أبو عرب إلى قرية كفر كنّا، ونتيجةً لشراسة المحتلين غادر أبو عرب كفر كنّا إلى قرية عرابة البطوف، ومكث فيها شهرين، ليتوجّه بعدها إلى لبنان، ثم إلى سوريا، وتونس ومخيمات الشتات. سنة 1948 استشهد والد أبي عرب خلال اجتياح الميليشيات الصهيونية لفلسطين، في حين استشهد ابنه (معن) سنة 1982 خلال اجتياح الصهاينة للبنان. شهد أبو عرب في طفولته انطلاق ثورة 1936 ضد بريطانيا والصهيونية، والتي كرّس لها جلّ أشعاره، وأشاد بها وبمقاتليها وشهدائها. أسّس أبو عرب فرقته الأولى في الأردن سنة 1980، وسميت “فرقة فلسطين للتراث الشعبي”، وتألّفت من أربعة عشر فنانًا، وبعد استشهاد ناجي العلي سنة 1987 - وهو أحد أقارب أبي عرب - تم تغيير اسم الفرقة إلى “فرقة ناجي العلي”. ألّف أبو عرب، ولحّن، وغنّى أكثر من 400 أغنية وقصيدة، محورها: الأرض، واللجوء، والشتات، والحرمان، وحق العودة، وتصوير النضال الفلسطيني، والاحتفاء بالبطولة والشهادة. (1) ولعلّ في أغاني أبي عرب ما أسهم في الكشف عن صورة بناء المجتمع الشعبي، لأنها نبعت من صميم الشعب صورةً وممارسةً، ولفظًا ولحنًا فهي أغنية حية  «الأغنية الشعبية الحية، تلك الأغنية التي نبعت من صميم الشعب لفظًا ولحنًا، وتوارثها الشعب..وأسهمت مع غيرها من أشكال التعبير الشفوي في الكشف عن صورة بناء المجتمع الشعبي” (2) نعم، إن المتأمل في أغنية أبي عرب يستطيع الكشف بسهولة عن صور بناء المجتمع، المجتمع الفلسطيني الذي واجه قوى الظلم والظلام من احتلالٍ انجليزيّ، إلى هجمةٍ صهيونية، قتلت العباد، واغتصبت البلاد، وشردت أبناءها إلى المنافي والمهاجر، نعم، لقد ترجمت هذه الأغاني: أحوال الفقر والتشريد والحرمان، واللجوء، ثم النضال ضد المحتل من أجل تحرير الأرض، والعودة إليها.
عنوانٌ رئيس
العنوان الذي لا تخطئه عين في قصيد أبي عرب وأغانيه هو “الأم”، فلا تكاد مقطوعةٌ من مقطوعاته تخلو من ذكر الأم، فهي صديقة أبي عرب الأولى، وهي محاورته، وملهمته، يحكي معها أبو عرب ويحدثها، يسألها فتجيب، وربما كان لهذه المركزية في النص ما يبررها، فقد استشهد أبو الشاعر وهو شابٌّ يافع، فكانت الأم تمثل الوالدين له، ولعلّ في معاني الحرمان والفقر ما يتلاءم مع الأم، فهي التي تحاول أن تدبر أمور البيت من غوائل الزمن، ولعلّ في الغياب والهجر والنفي والتشريد، ما يتلاءم مع الأم أيضًا، فهي التي كانت تعيش مع ابنها في غيابه، وتنتظر سلاماته ورسائله، كما تنتظر أن تلتقيه جسديًا”.
إنّ الصورة الطبيعية للأم في التراث الشعبي، وفي الحياة الواقعية هي صورة الأم الحنون، ذلك إن هذه الصورة تشمل الغالبية العظمى للأمهات، فالأم هي الحارس الأمين، والمربية النشيطة الدؤوب لأولادها، حتى إذا ما كبر الأولاد ظلّت الأم تحرص على مصالحهم، وتزودهم بالنصيحة والمساعدة المادية والمعنوية ما وسعها ذلك”. (3) وفي هذا السياق التأويلي التحليلي نجد أبا عرب يتحدث مع والدته، يحكي لها الحكاية، يسألها، ويحاورها، فهي الأقرب له معنويًا على الأقل:
يا يمّه في دقّة ع بابنا...يا يمّه هاي دقّة حبابنا
يا يمّه هذول النشاما...يا يمّه طلاب الكرامة يا يمّه ما بنربى يتامى...يا يمّه هي دقة فدائيةيناديها نداء القريب (يا)، ولك أن تتخيل الشاعر، وقد سمع دقاتٍ على باب بيته في الليالي المظلمة، تفزع الأم عند سماعها الدقات، وتخاف من المجهول، لكن أبا عرب وبأسلوبٍ إخباريٍّ بسيط، يكشف لها السؤال المحيّر، ويطمئنها بأنّ هذه دقة فدائيين. ومن هذه الأغنية (يا يمّه في دقّة ع بابنا) التي غناها أبو عرب، يقول: حدثت في سبعينيات القرن الماضي لشابٍ اسمه بلال، حيث هجر بلال بلدته في بيت لحم، إلى لبنان، وهناك التحق بالعمل الفدائي، تسلل بلال مع مجموعته (777) إلى فلسطين لتنفيذ عملياتٍ ضد الغزاة، بعد أن أنهى مهمته فكر بلال أن يزور قريته في بيت لحم، ويرى أمه ويتفقدها قبل أن يغادر، دقّ الباب بعد منتصف الليل، ردّت الأم: مين؟ - أجاب: ابنك بلال..لم تصدقه، وكان قد أشيع عنه أنه استشهد، وأقام له الأهل بيت عزاء، لم تصدق الأم، واعتقدت أن الاحتلال ينصب لها كمينًا، ليكتشف المحتل من يتعاون مع الفدائيين..
لم تفلح دقاتُ بلال في فتح الباب، فذهب إلى الجارة، وأخبرها بالحال، ذهبت الجارة وبلال إلى بيت الأم وأقنعاها أنّ هذا بلالًا..اقتنعت الأم، فتحت الباب، بدأت تقبله، وتقبله، وتقبل بارودته..وبعد عودة بلال إلى لبنان التقى أبا عرب، وحكى له القصة، فكتبها أبو عرب بروح الفنان وغنّاها.
ويحدث أمه، ويحكي لها، كيف تحول الفرح إلى حزن، والوطن إلى منفى، والحياة إلى فقرٍ مدقع، والعيد حتى العيد إلى ذكرى حزينة:
يا يمّه لو جاني العيد يمّه..قلت العيد لصحابو
شو بنفع العيد..للي مفارق حبابو؟
يمّه..يمّه..يمّه..آآآخ يمّااا
يحكي أبو عرب لأمه عن مفاهيمٍ تغيرت من حالة الفرح والسرور إلى حالة البؤس والشقاء، من حالة لمّ الشمل، إلى حالة التشرد والنفي، ويتابع أبو عرب:
العيد يا يمّا لما بلادنا بتعود..وأرجع ع أرض الوطن وأبوس ترابو
ويسائلها، بطريقةٍ مفجعة: كيف يكون العيد، وأولادي قسم منهم تحت الردم، والآخرون في البرد، ثم يقرر رغم الحزن والجراح:
عيدي يا يمّا ع حدودي..الناس تعيّد إيد بإيد يا يمّااا..وأنا بمسح بارودي...(6)
هدّي يا بحر هدّي:
ما من شعبٍ تشرّد أكثر من الشعب الفلسطيني، فقد كنت ترى العائلة الواحدة قد قسّمت بين أرضٍ احتلها الصهاينة في 1948، وأخرى احتلت في 1967، وقسم منها في الأردن، وآخر في الخليج العربي، أو في دول أوروبا شرقيّها وغربيّها، وأمام هذا الغياب الدائم، وظّف الفلسطيني الرسالة (المكتوب)، وربما كان - مع بطئه - هو الوسيلة الوحيدة للاتصال، وقد قالوا: المكتوب ثلثا المشاهدة..وقد راقت لشاعرنا هذه الوسيلة للتعبير عن شوقه، وحرمانه من زيارة وطنه، بل والسكن فيه، وهذه الوسيلة (الرسالة) تحدث فيها أبو عرب عن الوطن بحالاته كافة، وعلاقته بهذا الوطن في الحالات كافة أيضًا..وملأ رسالته سلاماته وتحياته للأهل، وللتراب، وللطير، وللشجر، فهو يمزج هذه السلامات بعناصر أخرى موجودة في المحيط (شجر، وطير، وبيادر، وكروم، وفراشات..إلخ) لينتج من هذا المزيج صورًا تزخر بالعواطف، وتتزين بالمشاعر والأحاسيس، مما يتيح للمتلقّي أن يعيش هذه الصور في ترحالية حالمة شجية، ملفوفة بالحزن والبؤس والشقاء.. يغني أبو عرب:
يا توتة الدار صبرك ع الزمان إن جار..لا بد منعود مهما طوّل المشوار
هدّي يا بحر هدّي..طولنا في غيبتنا
ودّي سلامي ودّي..للأرض اللي ربتنا
سلملي ع الزيتونة..وعلى أهلي اللي ربّوني
بعدا إمي الحنونة..بتشمشم بمخدّتنا
سلّم سلّم ع بلادي..تربة بيي وجدادي
وبعده العصفور الشادي..بغرّد لعودتنا
ودّي سلامي يا نجوم..ع البيادر والكروم
وبعدا الفراشة بتحوم..عم تستنظر عودتنا
واحمل لبلادي سلام..لخوالي وكل العمام
وبعده زغلول الحمام..عشّو على توتتنا (7)
عند التأمل في هذا النص، نجد:
1 - أخذ النص طابع الرسالة، رسالة مرسلة من محب غائب لأهله وأرضه، بما تتضمن هذه الأرض من عناصر..لذا نجدها مكتظةً بالسلامات المرسلة والتحيات من مشرد مشتاقٍ إلى وطنه.
2 - من بداية النص يقرر الشاعر أن الغياب قد طال، وظهر جور الزمان وغدره، وهنا وظّف الشاعر شجرة التوت المزروعة في الدار كي يخبرها بذلك.
3 - يطلب أبو عرب من البحر أن يهدأ، وأن يبطئ أمواجه، وذلك إما كي يحمّله أكبر كمية من السلامات للأهل والوطن، وإما يطلب من البحر أن يهدأ ويستمع إليه، ويصغي لمعاناته، ولم يأتِ الشاعر بلفظة البحر صدفة، فالبحر هو أحد شهود المأساة، فهو الذي حمل اللاجئين من مساكنهم الآمنة إلى أماكن التشرد والنفي في أشتات الدنيا..
4 - يكرّر الشاعر لفظة (سلملي)، وهذا إن دل على شيء فإنه يشي باشتياقه، وحنينه لوطنه، ومحبته له.
5 - يمزج الشاعر في سلامه العناصر بعضها مع بعض، ليكوّن مزيجًا يتأتى عنه صورة مبتكرة غير مستهلكة، من هذه الصور، فهو يسلم على:
^ شجرة الزيتون؛ بما تمثله من امتدادٍ وأصالة، وعلى الأهل الذين ربّوه، ونلاحظ ظهور صورة الأم الملوعة، المنتظرة، التي تعيش ببؤس وقلق “بعدا إمي الحنونة..بتشمشم بمخدتنا” صورة الأم التي تحمل وسادة أبنائها، وتتلمسّها، وتحسس عليها، ثم تبدأ بشمّها من كل جوانبها، وهذا يقتضي هطول دموع الأم، التي بلا شك تبلل المخدة. إنها صورة عاطفية حدّية، تأتت من الطاقة التي استثمرها الشاعر في فعل الشمّ، والزيادة عليه “بتشمشم”.
-  بلاده، وتربة آبائه وأجداده.
-  على العصافير والطيور التي تنتظر عودة الغياب.
-  على الفراشات الطائرة التي تنتظر عودة الغياب.
-  على البلاد، والأخوال والأعمام.
-  على الزغلول، صغير الحمام، الذي بنى عشه على التوتة.
- للبيادر والكروم: يطلب من النجوم أن تحمل سلاماته وأشواقه للبيادر والكروم، والبيادر تحمل في معناها: الخير والعطاء، والسهر، والتعاليل، والحفلات الصيفية التي كانت تقام عليها،
والكروم أيضًا تحمل معاني الخير والكرم والعطاء..
وكأنّ الشاعر هنا يقارن بين حالٍ مضى، فيه السعادة والرخاء والفرح، وحالٍ قائمٍ فيه البؤس والشقاء والتعاسة.
6 - نكاد نلحظ التماهي في سلامات الشاعر في رسالته، ولندقق بين كل صدر بيتٍ وعجزه:
الزيتونة - أمي الحنونة (وتتماهى الأم أيضًا مع الأرض والوطن) .
بلاد - تربة الأهل والأجداد.
النجوم - الأهل، والطيور، والفراشات.
7 - الملاحظ هنا أيضًا كيفية جمع الشاعر للقوى في معسكرين اثنين: معسكر أعلن عنه، يتمثل في: الأهل، والأرض، والزيتونة، والأم، والبلاد، والنجوم، والكروم، والبيادر، والطيور والفراشات، كل هذا التجمع الوديع، ضد معسكرٍ أخفاه، وهو معسكر الاحتلال والاستعمار، معسكر يغتصب أرض الإنسان ومقدراته..ولا شك أن النصر سيكون في جانب المعسكر الأول، طال الزمن أم قصر
8 - في نهاية رسالته، يلخصّ الشاعر حال الوضع الماضي والحالي، ويتخذ القرار: وعهد الله وعهد الثوار..ما بنسى حقك يا دار ومهما طولنا المشوار..راجعلك يا ديرتنا  إذن، لا بد من العودة..وهذا ما افتتح به الشاعر نصّه، وكأنّ الرسالة دائرية..إن هذا النوع من الرسائل الطربية يتيح للشاعر الاستطراد في التعبير، فهو يتسع لما شاء الشاعر من المعاني، ولما أراد من الرسائل، ولمن أراد من المرسل إليهم.. والعنوان الرئيس هو (التحدي)، في أجواء الطبيعة، والرومانسية بشكلٍ عام.
وكما توسّل أبو عرب البحر لحمل رسالته وسلاماته للوطن والأهل، فهو يتوسّل الطير أيضًا لحمل هذه السلامات، لما تمثل من محبة وحنين، ولكنه في هذه المرة لا يتوقف عند بيته، وشجرة التوت، وبيئته الصغيرة، بل يكبر هذا المحيط، ليشكل خارطةً لمدن الوطن وقراه في مناطقه المختلفة، فمن خلال (لسان الطير)، المعبر عنه،استطاع أبو عرب أن ينتج الصورة السلبية التي تلائم بُعد المشتاق، ولوعة الغائب، وعدم قدرته على العودة إلى أرضه نتيجة قوانين المحتل: ففي زفرات الشاعر وآهاته، نرى الطير غير القادر على حمل الغائب إلى أرضه، ورغم هذا العجز فإن باستطاعته حمل السلامات والاشتياق، أوووف...أوووف...أوووف...
أنا لأبعث سلامي لطرف مِرسال..
ودمعي ع فراق الوطن مُرسال..
يا طير ال بالسما ع الوطن مرسال..بعدها الدار تبكي ع الغياب
يا طير يا طارش ع حمانا..روح مرسال.. بعدها الدار تبكي ع الحباب...

 الحلقة الأولى

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024