دراسات فلسطينية

الاتّجاهات الحكائية في شعر أبي عرب

الباحث: عمر عبد الرحمن نمر

 يرسم الشاعر في رسالته خريطة فلسطين التاريخية من خلال سلاماته، فيظهر في النص ذكر: عكا، والجليل، وبير زيت، وحيفا، وعين غزال، والقدس، ويافا، وغزة..إلخ. وهنا، وبواسطة الرّسالة التي يتحدّث أبو عرب من خلالها، نؤكّد مرةً أخرى، إمكانية اتساع الدائرة، والاستطراد في الحديث، والمزج بين المدن والقرى في مناطقها كافة (حتى القرى المهجرة: عين غزال، ولوبية والشجرة..).

أبو عرب يرثي:
لم يترك أبو عرب شاردةً أو واردة تمتّ للقضية بصلة إلا وتحدّث عنها، تحدّث عن الاحتلال، وطرد الناس من بيوتهم، وتحدّث عن المنافي والمخيمات، وحياة الشقاء والفقر والبؤس التي عاشها أبو عرب كما عاشها الفلسطينيون، ورغم كل هذه المعاناة تحدث أبو عرب عن حتميّة العودة إلى الوطن، وهو حقٌ شرعي لكل منفيٍ عنه مشرّد. تحدث أبو عرب عن كل هذا بنثريّة بسيطة واضحة العبارة، يفهمها القاصي والداني (وهذا كان في مقابلاته الشخصية مع الإعلام، وأحيانًا في مقدمة أغانيه وقصائده) كما تحدّث عن هذا، وعبّر عنه في قصائده وأغانيه وأشعاره، بلغةٍ تبُثّ حزنًا، وبصوت شجيّ يزيدها حزنًا، ولوعة..حتى ليحزن المتلقّي في طربه، وبذا أصبح أبو عرب شاعر الثورة الفلسطينية، ومنشدها..

 أ‌- في رثاء ابنه معن:
استشهد ابن الشاعر معن في اجتياح الصهاينة لبيروت 1982، وقد تحدّث الشاعر عن صدمته عند تلقي الخبر (مقابلة تلفزيونية مع الشاعر)، وعن معاناته وسيره بالسيارة أثناء القصف ليرى قبر ابنه، الذي اشترك في معركة شرسة ضد الغزو الصهيوني، استشهد فيها، كما استشهد معه سبعة من رفاقه..
بجملة تقريرية، وبضمير (أنا) المتكلم يتحدث عن الشهيد، ويقرر بفخر أنه استشهد، ويظل مرتبطًاً بسلاحه حتى بعد استشهاده، ويطلب من رفاقه أن يحملوه ويسندوه على خشب بارودته:
أنا استشهدت يا رفاقي احملوني
وعلى خشاب البارودة اسندوني
ثم تنتقل أنا الشهيد لتطلب وصايا عدة:
لأصحابه: أن يدفنوه تبعًا لقبلة الوطن، وهذا ينمّ عن مدى ارتباطه بالوطن حيًا وشهيدًا..
أمانة تحقّقوا لنفسي مناها
وعلى قبلة وطنّا مدّدوني
وتتماهى الأم في الوطن تبعًا لرؤية الشهيد، وتكون هي المعادل الموضوعي للوطن:
يا أمّي بلادنا بعشق سماها
مثل عشقي لعطفك يا حنوني
أما الأب فيجيب عن تساؤل ابنه الشهيد في مقطوعة رثائية أخرى، ويصف مشهد سماع الخبر، والصدمة الأولى، ثم يعلن موقفه من الشهادة:
يا ابني لأقسم في حرمة ترابك
ودمك هاللي عطّر ثيابك
فرحت يابا بنجاحك
يوم حصلت الشهادة
إنّه الفقدان المطلق، الموت، الذي يبعث على الحزن المتواصل، والبكاء والدموع، لكن، وكما يقول أبو عرب، إن الشهادة ضريبة يدفعها الفلسطيني تجاه تحرر وطنه.

 ب ‌-    أبو عرب يرثي أمه:
ذكرنا فيما سبق علاقة الشاعر بوالدته، ومركزية هذه العلاقة في إبداع الشاعر، لذا يتحدث الشاعر عن مأساة الوحدة، إثر فراق والدته، والسهر والبكاء والدموع لفقدانها، وهو كما أسلفنا يعبر عن ذلك بعباراتٍ بسيطة مشحونة بالحزن، مبللة بالدموع، فهو ينادي دموعه ويستحثّها على الهطول، كي يشفي غليله، وكأن الدموع يمكنها غسل أحزانه..
يصوّر الشاعر مشهد الموت الحقيقي، حركة بعد حركة، وسكنة بعد سكنة، ثم يظهر العنفوان والتحدي وكأنهما سلاحان يقطّعان الظلام واليأس:
قلت: يمّي اسمعي يا أمي عهدي
ما عدت أعيش في غربة ذليلي
خلقنا للرجولة والتحدي
أبواب الموت دقّي وافتحيلي
يافا يافتي واللد لدّي
ما برضى تعيش في حكم إسرائيلي
لأرجع ع أرض بيّي وجدّي
وما عدنا نعيش بغربة ذليلي
إنّ المتأمّل في هذا النص الجنائزي، يلحظ المعمارية الحزينة التي اتكأ عليها الشاعر، تلك البنية التي خففت من لوعة الفراق والفقد المطلق، فقد انبنت المقطوعة على مقدمة، ثم تصوير لحالة الرحيل التدريجي، ثم جاء الحوار بين الشخصيتين، والذي أظهر نماذج من قوى الوطن ومدنه، وانتهى النص بالعهد المعتاد للشاعر، في حتميّة الانتصار والعودة إلى الوطن الذي غادره.. وخلاصة القول، فقد استطاع شاعرنا تصوير وفاة حبيب قريب على قلبه في أرض الشتات والمنافي، وهنا يكون الموت مركّبًا.

ج‌ - يرثي القائد الرمز ياسر عرفات:
يبدأ أبو عرب نصه بالندب والنواح، فينادي الدنيا يناجيها، كما ينادي نسر السما، ويطلب منه البكاء..ثم ينتقل في النصف الثاني من العتابا الحزينة إلى الحكمة، كل هذا بتوظيف ضمير المتكلم (أنا)، وعلى لسان الشهيد:
يا دنيا قرّبي صوبي وناحي
بكّي نسر السما عليّ وناحي
والله وليفي اللي ما بييجيلي وأنا حيّ
شو لي فيه عند هيل التراب؟
ومن الوليف الذي قاطع أبا عمار ولم يزره، وهو حي، وتذكره فقط عند دفنه، يشتق الشاعر علاقة المرثي ببعض الناس..والحكومات، وهنا نشهد الاختلاف والتنوع في جو بناء المرثية، فالرجل قائد سياسي ورمز، فجع استشهاده الشعب كله، ونتيجة وضع الرجل، تتسع عناصر الرثاء لتحاكم بعض الناس:
ما بدري ليش خِلّاني عادوني
أتوني ع زيارتي حتى يعيدوني
وبعض الناس في الماضي عدوني
أتوني ع زيارتي حتى يعيدوني
وتسافر المرثية إلى باريس، حيث كان يتعالج القائد الذي أدرك أن طب فرنسا وقف عاجزًا عن علاجه، لذا طلب من أصحابه أن يعيدوه للوطن، فتراب الوطن هو علاجه وشفاؤه:
من باريس لبلادي عيدوني
أنا بشفى إذا شمّيت التراب
ما لي طب بفرنسا عيدوني
أنا بشفى إذا بشمّ التراب
ثم يرسم الشاعر لوحتين متضادتين، واحدة لأطفال الوطن الذين يمثلون الانعتاق، والحرية والأمل، والثانية للأعداء الذين غدروه وسمّموه:
أطفال الوطن بتغاوى باسمهم
نشامى ترى ويشفيني بسمهم
إذا الأعداء غدروني بسمّهم
لومي على أهلي والقراب
إذا الأعداء غدروني بسمّهم
لومي على بعض حكام العراب
ويلوم أقرب المقربين:
أنا لومي لومي ع الوليف ال هجر ودّو
جرحي بالقلب انزاد ودّو
ويوصي بأن ترسل تعازيه لثوار العرب جميعهم في حال موته:
أماني أماني أماني إن متت ودّوا
تعازي لكل ثائر بالعراب
ثم يتغير ضمير الخطاب من (أنا) إلى (هو) ، ويعمم الشاعر المأساة على بيوت الشعب كلها، ويطلب من الشعب أن يكونوا أوفياءً للقائد، فهو لم يتخلّ يومًا عن الحقوق، وبقي صلبًا، محافظًا على الثوابت..
فلسطين الحزينة مات خِلّا
ياسر عن حقوقها ما تخلّى
يا شعب بعهد ياسر ما تخلّى
أمانة توفوا عهدو بالتراب
وتلخص العتابا الختامية مشهد طائرة تحمل جنازة القائد، بعلمها الأسود، ويظهر في المشهد اللوم الأخير على العروبة وأنظمتها، تلك الأنظمة العاجزة عن حماية الرئيس، وهو محاصر في المقاطعة، ويموت ببطء أمام ناظريهم:
لفّت طيارتك أسود عَلمها
ولفلسطين ما أعطت عِلمها
يا ويلي قدس مجروحة بتنادي على أمها
على أمها العروبة وما حدا لبّى الجواب
نعم، لقد كانت الفاجعة كبيرة، وكان النص استثنائيًا، مزيجًا من النواح، ولوم الأصدقاء، والحكام العرب وفيه إقرار بأن فرنسا عجزت عن علاج مرض الرئيس... وأخيرًا هبطت الطائرة المفجوعة في أرض المقاطعة في رام الله، ونزلت الروح تعانق أرض فلسطين.

 د - يرثي الشّهيد ناجي العلي:
الشهيد ناجي العلي، الفنان، رسام الكاريكاتير الشهير، استشهد غدرًا في لندن سنة 1987، وهو من بلدة الشجرة المهجرة (بلدة الشاعر) ومن معارفه القريبين.. صدمه خبر استشهاده، وأسمى فرقته باسم (فرقة ناجي العلي للتراث الشعبي) تخليدًا للشهيد..اعتمد الشاعر في رثائه للشهيد على مقطوعة تراثية للشهيد، تأسست على اللازمة (طلت البارودة والسبع ما طل…يا بوز البارودة من الندى مبتل)، حيث حوّرها الشاعر لتصبح: (طلت البارودة والبطل ما طل..يا بوز البارودة من دمّو مبتل).
وتأتي هذه المرثية على لسان الشهيد (أنا الشهيد)، ويحمّلنا الشهيد أمانة، أن نرسل قطرات من دمه لتروي عشب فلسطين..فالمناضل مرتبط بالوطن حيًا وشهيدًا..
ثم تدور اللازمة: طلت البارودة..وكأنها تعزز البكاء والنواح..وتستدعي استمراره...ثم يتحدث الشاعر عن حادث استشهاد ناجي العلي، واغتياله غدرًا، ويأتي الحديث هنا على لسان بارودة الشهيد:
صاحت البارودة تبكي على الفنان
وهو عم يشكي من غدر الخوّان
وتنتهي المقطوعة باللازمة: طلت البارودة والبطل ما طل..
 لوحات تعبيرية:
في هذه اللوحات يتحدث أبو عرب عن مشاهد متعددة، يظنها المتلقي بادئ الأمر أن لا علاقة بينها، وأنها مشتتة، ولكن المدقق فيها يرى أنها صدرت من رحم المعاناة، وترعرعت في بيئة اللجوء والبؤس والشقاء، وهذا ما يجمعها، كما تجمعها الألفاظ البسيطة التي تصف المشهد، وتقطر حزنًا ودمعًا ودمًا..لوحات تُعجز ريشة الرسام.. بعد ودما ودموع عيشتنا، لنتأمل كيف صور الشاعر بكاء الليل فوق الخيمة، والأطفال تحت البرد، والجد المريض، والأخت الحائرة، والأيام تنقضي والبؤس يتفاقم:
شهر وسنة عم تمرق الأيام
والليل باكي فوق خيمتنا
وأطفال تحت البرد عم بتنام
خيمة وريحة الظلم عصفتنا
ولعلّ الصور هنا ليست مجازية أو خيالية، بل يمتح أبو عرب من الواقع، وينسج الصور التي تقرر الواقع، وتوثقه:
وجدّي مريض بتوكله الأسقام
أختي وأنا بنلوك دمعتنا
وتظهر الأم، بحزنها ودموعها، تحكي عن القدس، وعن خذلان الحكام العرب للفلسطينيين، ولذا فإنها تزيد الألم آلامًا:
أمّي حزينة دموعها أرقام
أرقام تحكي بعد نكبتنا
وكأنه يحاور الأم، ويقول إنه يرفض الذل، وينادي بالثورة:
نحنا يا أمي بذلّ ما بننام
وردّ الردى والفدا عادتنا
لازم نفجر حمم من الخيام
ونسمع التاريخ صرختنا
وكأنه يهوّن على الوالدة، ويرحل الشاعر إلى رومنسية يصف فيها وطنه، وطن السعادة والفرح:
ويا أمي أنا دمعة من الأيتام
ونوح الحمامة فوق تينتنا
وشبّابة الراعي ورا الأغنام
وعنّت عتابا فراق ديرتنا
وتنهيدة الحصاد تالي العام
وموال من رجاد حقلتنا
وبفيّ زيتونة معبعببين
ريحة خبز طابون حارتنا
ومن الرومنسية إلى الثورة والتحدي مرةً أخرى، فهو يتذكر عملية دلال المغربي (1978)، وفدائي يفجر الألغام في المحتل في عملية السافوي:
يا أمي أنا صرخة دلال تصارع الإجرام
ع أرض حيفا وحَد ديرتنا
وزهرة فدائي فجّر الألغام
بسافوي حتى الناس سمعتنا
ويتحدث عن رجولة الفلسطيني وبسالته في تصديه للغزاة الصهاينة، فهو يذكر المتلقي بمعارك العرقوب، والخيام، وتبنين في لبنان، كما أنه يذكره بمعركة الكرامة، التي خاضها الفدائيون بمساندة الجيش الأردني، وانتصروا فيها، ويذكره بمعارك الأغوار:
قوموا اسألوا العرقوب والخيام
تبنين تتغنّى برجولتنا
فينا الكرامة تزايدت إكرام
الأغوار عم تبكي ع سيرتنا
وفي نهاية النص، وبناءً على معطيات الواقع، يستخلص الشاعر النتائج، والتي أوردها على شكل نصائح لأمه:
يا أمي كفانا نعيش بالأوهام
كذب ودجل ووعود حاجتنا
حاجتنا نشكي الظلم للظلام
ونبوس إيد اللي ذبحتنا
يا أمي كفانا نعيش بالأحلام
ما عاد بدها شرح حالتنا
بدها رجولة وتضحية وإقدام
بدها عروبة تصون ثورتنا
إنه يرفض الوهم، والكذب، والوعود الزائفة، وهذا الرفض تأتّى من تجربة هذا الشعب، نعم، كفى شكوى الظلم للظلّام، كفى..كفى..وكل ما يلزمنا من أجل التحرير والعودة هو الرجولة والتضحية والفداء، كما أننا بحاجةٍ إلى حاضنة العروبة التي ننتمي إليها وتحمي ثورتنا.

^ خاتمة

يشكّل أبو عرب مدرسةً موسيقيةً متفردةً، بما تتضمنه هذه المدرسة من رسائل شعرية هدفها كل عربي بشكل عام، وكل فلسطيني بشكل خاص، حيث استطاعت مدرسة أبي عرب أن ترصد حال الفلسطيني المُهجّر من أرضه، وحال الفقر والحرمان الذي يعيشه، ومن ثم وثّق الشاعر هذه الصور، في نصوص موسيقية تطرب لها الأذن، رغم الحزن الذي تبثه، والبؤس الذي يشع منها.
لم يترك أبو عرب شاردةً ولا واردةً من عناصر القضية الفلسطينية إلا تحدث عنها، وذكّر بها، فقد تحدث عن الوطن الضائع، والمنفى البائس، وحتمية حق العودة، وقضى الرجل حياته ينتظر لحظة العودة للأهل والوطن والثرى.
لقد غنّى الشاعر، واتّخذ من المناضلين والشهداء والأسرى والمحرومين أبطالاً لقصائده، ونوّع في طريقة إبداعه رسائله، فقد اتكأ على الأم، وسما بها، حتى تماهت معانيها مع الأرض، وجاء بقصص إخبارية حملت الواقع، ونهضت به نحو المستقبل، فكانت قصص التأمل التي تضمنت معاني المقاومة والتحدي، والثبات على الثوابت، وفي مقدمتها حق عودة اللاجىء إلى وطنه...كما تحدث الشاعر عن سيرة الشهداء وتاريخهم، ووصف عمليات مواجهتهم مع المحتل واستشهادهم... ومن الوسائل الأخرى التي نقل بها الشاعر رسائله، إبداعه للّوحات التعبيرية، تلك اللوحات التي تبدو للوهلة الأولى أنها مشتتة، لكن - في الحقيقة - يجمعها الحنين للوطن، وحياة الفقر والحرمان، وحياة البؤس التي يحياها اللاجىء...
نحن أمام قامة شعرية وطنية مميزة، وربما فريدة، وحالة إبداعية تمتلك طاقة هائلة في الوصف والتعبير، والإخبار والتقرير، أنتجت أكثر من 400 أغنية وقصيدة، كتبها الشاعر، ولحّنها، حتى إذا ما استوت على سوقها، أخرجها قطعاً موسيقيةً تشنّف الآذان، ومن المؤسف - وفي حدود اطلاعي - أن لا تجد بحثاً واحداً جدّياً عن أعمال الرجل؛ لذا فإن هذه الورقة المتواضعة التي بحثت في شعر أبي عرب، لتستحث الباحثين للعمل في إنتاج أعمال أبي عرب، جمعاً وتوثيقاً وتحليلاً، ليكون أبو عرب أنموذجاً رائعاً، كتب قضيته الفلسطينية بالكلمة الشعرية، والنوتة الموسيقية، وذلك في إطار من التفاعل بين الفكر النيّر والرؤية الفلسطينية الثاقبة.

الحلقة الثانية

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024