الأستاذ محمد سعيد بوسعدية يقرأ..

محمد أركون.. فيلسـوف بين الشـرق والغـرب للدكتـور فـارح مسـرحي

يوم 14 سبتمبر 2023، تكون قد مرّت 13 سنة على ذكرى وفاة مؤرخ الفكر الإسلامي محمد أركون صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي وفق منهجيات الإسلاميات التطبيقية. وبهذه المناسبة، أغتنم فرصة قراءتي لآخر كتاب حول الرجل والمعنون: “محمد أركون: فيلسوف بين الشرق والغرب” للدكتور والأستاذ فارح مسرحي، لأقدم لكم قراءة وصفية للكتاب مع دعوتي لجلّ المهتمين بالفكر الأركوني إلى قراءته ودراسته بتمعن، لما يحمل من معطيات فكرية أركونية تفتح أفاقا لقراءة المزيد من كُتب أركون ومختلف البحوث والدراسات والأطروحات التي عالجت فكره وصفا وتحليلا ونقدا.

  كان أول كتاب أقرأه للدكتور فارح مسرحي، هو “الحداثة في فكر محمد أركون” وفيه حاول إبراز إشكالية الحداثة في فكر ابن “ثاوريت ميمون” الساعي إلى تجديد وتنشيط الفكر الإسلامي، وجعله مسايرا لما يقتضيه العصر من حداثة فكرية، وذلك من خلال بلورة تصور لمفهوم الحداثة كفيل بتجاوز إشكالية الثنائيات في الفكر العربي الحديث والمتمثلة في الأصالة والمعاصرة، والتراث والتجديد، والتراث والحداثة، والأنا والآخر... إلخ. أما ثاني كتاب قرأته للأستاذ مسرحي فهو “المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحداثي: أصولها وحدودها”، وقد سعى في دراسته هذه إلى إنجاز مقاربة تحليلية نقدية لمشروع أركون الفكري، أو ما يدعوه بـ«الإسلاميات التطبيقية”، وحاول الإجابة على جملة من الإشكاليات المتعلقة بهذا المشروع خصوصا من جهة المرجعية الفكرية التي يقوم عليها.
أمّا آخر كتاب حتّى لا أقول ثالث الكتب - فهناك كتب أخرى كتبها الأستاذ مسرحي - فهو كتاب “محمد أركون: فيلسوف بين الشرق والغرب”، وهو عبارة عن عصارة لحياة أركون الدراسية والفكرية من طفولته إلى وفاته. ومن خلال هذا الكتاب أحاول أن أجرّكم معي إلى رحلة فكرية أركونية طويلة - داخل النص وخارجه - تتخللها محطات معرفية مختلفة بين الشرق المحافظ والسحري والروحي؛ والغرب الحداثي والعلماني والمادي؛ زارها أركون منذ طفولته إلى أن وافته المنية يوم 14 سبتمبر 2010 بباريس.
- الرحلة بين الشرق والغرب حاضرة في “ثاوريت ميمون” وفي أركون التلميذ      
لم تخل قرى الجزائر الصغيرة أثناء فترة الاستعمار من المدارس القرآنية والمعروفة غالبا بالكتاتيب، يتمّ من خلالها حفظ القرآن الكريم للصبيان. وقرية “ثاوريث ميميون” هي إحدى قرى منطقة القبائل “بآيث يني” التي كانت تحوز على مدرسة قرآنية أسسها عمّ محمد أركون، وفيها زاول الطفل أركون تعليمه القرآني وحفظ ما تيسر له من السور، لتكون المدرسة بذلك أول محطة معرفية شرقية يتوقف عندها أركون، ويكون لها الأثر البعيد عندما راح أركون الأستاذ يقرأ القرآن بمناهج حداثية بعد أن زار مرارا المحطات المعرفية الشرقية من خلال أمهات الكتب التراثية، وكذا المحطات المعرفية الغربية من خلال جامعة السوربون ومؤلفات أقطاب الفكر الحداثي وما بعد الحداثي.
دائما بقرية “ثاوريت ميمون”، يلتحق الطفل بالمدرسة اللائكية للجمهورية الفرنسية الثالثة، وهنا يكتشف الطفل لغة مغايرة للغته الشفهية أو لغة الأم “ثقبيليت”، وهي فرع من اللغة الأمازيغية التي فتحت لأركون الأستاذ آفاقا معرفية لدراسة انتروبولوجية الشعوب ذي الثقافة الشفهية وبأدوات ومناهج غربية، وأيضا مغايرة للغة العربية، لغة القرآن التي تعلمها أركون بفضل حفظه لسور الفرقان، ويسعى إلى تعليمها كأستاذ بثانوية الحراش بالعاصمة الجزائر. محطات معرفية غربية تستمر بمدينة الأربعاء بعين تموشنت ثم العودة إلى القرية ثم الالتحاق بثانوية “لاموسيار” بوهران.
يكتشف أركون من خلال محطته المعرفية بالثانوية، أنه مواطن من الدرجة الثانية، إنه مسلم شرقي من “الأنديجان”، وفوق ذلك يحمل اسم محمد النبي العربي؛ محطة تدفع أركون الأستاذ إلى نقد العقل الغربي المتعجرف خارج القارة الأوروبية، بل حتى داخلها كما تبينه الحربان الأوروبيتان المدعوتان بـ«العالميتين”، وإلى نقد العلمانية المتطرفة أو العلموية النضالية كما يصفها، وهو قاطن بين أصحابها.
- الرحلة الفكرية الأركونية الشرقية-الغربية: من جامعة الجزائر إلى جامعة السربون                    
لم نبحث كثيرا عن الدوافع النفسية وكذا المعرفية التي دفعت بأركون التلميذ الذي تحصّل على البكالوريا سنة 1949 إلى الالتحاق بقسم اللغة العربية وآدابها. لقد اختار دراسة لغة الشرق وآدابه وفكره وفلسفته إلى درجة العشق، لكن على يد المستشرقين الغربيين، ولم يكن راضيا عن مناهجهم كما صرّح مرارا ذلك؛ وتجرأ في رسالة التخرّج إلى دراسة ونقد أعمال طه حسين (أنظر مقالنا بعنوان قراءة في كتاب محمد أركون: “الجانب الإصلاحي في أعمال طه حسين)، بل تجرّأ في نقد الموروث بصفة عامة، وكانت فاتحة لمشروعه في نقد العقل الإسلامي.
كان أمل أركون وهو طالب بالسربون أن يبقى مشرقيا-جزائريا في اختيار موضوع أطروحته للدكتوراه ولكن بأدوات ومنهجيات غربية.. لقد وقع اختياره على “الإسلام الإثنولوجي-السوسيولوجي المعيش في منطقة القبائل” تحت إشراف المستشرق الكبير “جاك بيرك”. صحيح أنّ الموضوع كان من اقتراح لويس ماسينيون، لكن الأمر الذي شجعه في هذا الاختيار هو ذكريات الطفولة التي قضاها مع عالم الإثنولوجيا “جان سيرفييه” الذي اختاره وهو ابن الرابعة عشرة في سنه، من أجل مساعدته على فهم بعض المعطيات عن بيئته وقريته التي كانت موضوع أطروحة دكتوراه لهذا العالم. كان هذا الأخير يلقي أسئلة عديدة ومتباينة عن قرية “ثوريرت ميمون”.. أسئلة بدت غريبة على أركون في البداية، إلا أنه اكتشف من بعد أهمية النظرة الإثنولوجية والتمييز الذي تقيمه بين الثقافة الشفهية، وهي ثقافة قريته المجسدة في تنظيم “تجمعت” الذي كان يمثل عائلته فيه، والثقافة العالمة المكتوبة وهي ثقافة لغة القرآن من جهة، ولغة المدرسة اللائكية من جهة أخرى.. إنها رحلة فكرية بين الشرق والغرب دون أن يمتطي أركون “براق المعرفة” ودون أن يشعر بمشقتها.
اضطر أركون إلى تغيير موضوع بحثه بناء على نصيحة أستاذه في شهادة التبريز، المستشرق رجيس بلاشير، وبناء على تعذر القيام بالدراسات الميدانية في منطقة القبائل بسبب الثورة التحريرية. اهتدى أركون إلى دراسة موضوع نظري في الفكر العربي الإسلامي، وهو موضوع جديد حول مسكويه وجيله والنزعة الإنسانية التي سادت المجتمع الإسلامي إبان القرن الرابع الهجري وهي الأطروحة التي أشرف عليها “روبير برانشفيغ”، كما أنجز أطروحة مكملة تمثلت في ترجمة للغة الفرنسية وتعليق على كتاب “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق” لمسكويه. لقد بقي أركون مشرقيا في دراسته الجامعية، وهو طالبا وأستاذا بجامعة غربية، ومقيما بمدينة باريس عاصمة فلسفة الأنوار واللائكية النضالية.
-  من نقد العقل الإسلامي إلى نقد العقل الغربي: رحلة ركوبها محفوفة بالمخاطر المعرفية                       
لسنا هنا بصدد إعادة تلخيص المشروع الأركوني في نقده للعقل الإسلامي (انظر مقالنا بعنوان: العقل الإسلامي عند محمد أركون)، وإنما غرضنا هو تبيان  متاعب رحلة أركون المعرفية في نقده وتحليله وتفكيكه لرسالة الشافعي واضع علم الأصول للفقه الإسلامي. لم تكن الرحلة الفكرية خالية من الصعاب، بل كانت محفوفة بالمخاطر، وكان “قطاع الطرق المعرفية” بالمرصاد لجواده الفكري يتربصون أي تعثر له. لقد تجرأ في المساس بأهم كتاب ومرجع للفقه الإسلامي، فالكتاب كما يدلي أركون: “يكتسي أهمية بالغة لأن الفكر الإسلامي اعتمد ولا يزال يعتمد على عملية التأصيل، أي البحث عن أقوم الطرق الاستدلالية للربط بين الأحكام الشرعية والأصول التي تتفرع عنها”. وقد أكّد ذلك بإسهاب فخر الدين الرازي حين قال “كان الناس قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، في كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب وأدلة الشرع”.
 كان على أركون أن يتجنب كل الطرق المعرفية المحفوفة بالمخاطر، وكان سلاحه هو اللجوء إلى المصطلحات اللغوية التي ترضي هؤلاء قطاع المعرفة؛ إنها الضريبة الفكرية التي كان عليه أن يدفعها “للجمركي المعرفي المحافظ” حتى تمر سلعته المعرفية بسلام. هكذا، تجنب أركون ترجمة المصطلح الفرنسي (critique de la raison islamique) حرفيا حتى يتقي غضب مؤسسة الأزهر كما صرّح ذلك لمترجمه هاشم صالح، واختار عنوان “تاريخية الفكر العربي-الإسلامي”. كما تجنب ترجمة مصطلح (mythe) بالأسطورة، نظرا لشحنته السلبية في التراث الإسلامي، وفضّل المصطلح القرآني “القصص”. كل هذا لم يشفع لأركون من اتهامات بعيدة عن الحقل المعرفي؛ فهو المستشرق اللائكي والزنديق الكافر، بل والمرتد عن دينه.
لم يكتف أركون بهذه الرحلة الشرقية المحفوفة بالمخاطر المعرفية، فحب المغامرة الفكرية جعله يقتضي تذكرة لزيارة العقل الغربي المادي ونقده.. لقد أراد إبعاد تهمة المقلد للغرب بالنظر لدعواته المتكررة إلى تطبيق المناهج الغربية في دراسة التراث الإسلامي، وتبيان إستراتيجيته الفكرية القائمة على الصراع ضد جبهتين: جبهة الذات وجبهة الآخر، فهو ناقد للفكر الغربي مثلما هو ناقد للفكر الإسلامي. وقد لخص هذه المهمة بقوله: “باختصار أريد أن انتقد التراث الديني وتراث الحداثة الغربية في آن معا. وأريد أن أتوصل إلى عقل جديد واسع يتجاوز الاثنين، وهو ما يسميه بالعقل الاستطلاعي الاستكشافي المنبثق”.        
وكان أركون قبل أن يوجه سهامه للعقل الحداثي، انتقد الإسلاميات الكلاسيكية التي كانت تعتمد أساسا على المنهج الفيلولوجي والكتابة الرسمية، وإهمال الظواهر الشفهية التي هي جوهر الثقافة الشعبية الإسلامية. كما لم تنجو من سيف النقد الأركوني فلسفة ما بعد الحداثة التي كان يفضل عنها مصطلح “ما فوق الحداثة”. لم تكن رحلته الغربية آمنة، فهنا أيضا كان “قطاع الطرق المعرفية” بالمرصاد له، وكانوا يتربصون له كل هفوة لغوية للانقضاض عليه، خاصة وأنه يبقى ضيفا شرقيا مسلما ويحمل فوق ذلك اسم النبي العربي.
وجاءت الفرصة المواتية التي كان ينتظرها “قطاع الطرق المعرفية الغربية”، عندما راح يندد أركون بكتاب سلمان رشدي “آيات شيطانية” بصحيفة “لوموند الفرنسية الشهيرة”، مؤكدا أنّ المفهوم الغربي لحقوق الإنسان يعزز سوء التفاهم مع الإسلام، وأنه ليس من حق الكاتب أن يقول ما يريد حين يتعلق الأمر بالمقدس، ومادام الرسول مقدسا عند المسلمين، فمن حقهم أن يفرضون احترامه على الجميع. كان يكفي أن يدلي أركون بهذا الحوار حتى يمسي مسلما أصوليا متطرفا وضد حرية التعبير وحقوق الإنسان “الكونية”. لقد برهن أركون أنه بحق فيلسوف بين الشرق والغرب، كما جاء في عنوان الكتاب.
- نقد واقع المجتمعات الإسلامية         
في خاتمة كتابه “الجانب الإصلاحي في أعمال طه حسين”، يقول أركون “أنّ المثقف المسلم ليس له حق اللجوء إلى الهدوء القائم على الإيمان، ولا أن يسير على عجل في طريق يسحقه فيه العمالقة. يجب عليه أن يقبل الوضع المعقد؛ ليس كسبب للتثبيط والتأخير، ولكن كفرصة إضافية يجب التفكير فيها بعمق أكبر، وبالتالي تحقيق مشاركة أكثر ثراءً وأصالة في توضيح مشاكل عصرنا. لكن هذا يتطلب منه أن يكون مفكرًا صادقًا يواجه فيه ببرودة قيمه التقليدية مع متطلبات حياة الإنسان الحديث مع كل ما تنطوي عليه من ميول يتعذر كبتها”.
وفعلا، لقد حاول أركون عبر مساره الفكري ورحلته المعرفية بين الشرق والغرب أن يرتدي عباءة هذا المثقف المسلم الذي راح يتساءل منذ زيارة نابليون العسكرية لمصر: لماذا تقدم الغرب الكافر علينا نحن المسلمون؟ وكان يرى أركون أنّ تغيير الوضع القائم في المجتمعات الإسلامية وتكريس الحداثة، يمر عبر خلق الأطر الملائمة وهو ما يتطلب الفحص الدقيق لجملة من المواضيع الشائكة، أغلبها مصنف ضمن اللامفكر فيه. ويحدد أركون أهم هذه المواضيع في: وظائف الدين في المجتمع؛ الدولة والنظام السياسي؛ تنظيم السلطات؛ تنظيم المجتمع المدني؛ الحريات الفردية، وخصوصا الحرية الدينية أو المعتقد الديني؛ ثم مسالة العلمنة.
والخوض في هذه المسائل الحساسة عند العقل الإسلامي ينبغي أن تتم بالتوازي مع إحداث القطيعة مع الخطاب التبجيلي للذات، والاستعاضة عنه بخطاب جاد ومسؤول، يتحمل مخاطر المعرفة العلمية ومطالب الحداثة. لقد صارت القيم الحداثية كالتسامح والحرية والمساواة مطالب ملحة، وبمثابة محك فاصل بين المجتمعات التقليدية والحداثية. لم يعد يكفي السعي إلى التوفيق بين بعض القيم الحداثية وبعض القيم التراثية، مثلما لم يعد ممكنا الاستمرار في ذلك الخط التفكيري الذي يدعو ويعمل على أسلمة القيم الحداثية من دون وعي حقيقي بالبون الشاسع إلي يفصل على سبيل المثال بين الشورى الإسلامية والديمقراطية كما تبلورت في الفكر الغربي.
-  مآلات النص الأركوني
رحل أركون الشخص يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 2010، وبقي أركون النص حيا عند قرائه بين مبجل ودارس وشارح وناقد، كل من زاويته. لقد مات الكاتب، ومن حق القراء ودارسيه أن يستنطقوه كيفما شاءوا، وبمناهجهم العلمية المتباينة، فلا أحد يحوز على احتكار تأويل النص الأركوني. لقد فتح جبهات عدّة كما رأينا آنفا، كما تطرق إلى مواضيع جمّة لا تزال وستبقى من اهتمامات المثقف المسلم.
سيبقى أركون يزورنا بنصوصه كلما تطرقنا إلى دراسة ونقاش مواضيع الدين والدنيا والدولة، وهل هناك مواضيع خارج هذه الدالات الثلاثة؟   

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024