دراسات

إدوارد سعيـد والفلسفة

أ.د بشير ربوح

 بدءًا، وبصورة وامضة ومكثفة وصاعقة، يقول الإمبراطور والحكيم الروماني ماركوس أوريليوس في الكتاب الخامس من تأملاته “لا تعد إلى الفلسفة كما يعود الطفل إلى المعلم، بل كما يعود الأرمد إلى إسفنجه ومرهمه، أو يعود آخر إلى كمادته وغسوله. بذلك سوف تبرهن على أن طاعة العقل ليست عبئا كبيرا، وإنّما هي مصدر راحة تذكر أيضًا أن الفلسفة لا تريد إلا ما تريده طبيعتك، في حين تطلب أنت شيئًا يجافي هذه الطبيعة. فأي شيء أدعى إلى القبول من حاجات طبيعتك نفسها؟ هذه هي ذات الطريقة التي تخدعنا بها اللذة ولكن انظر، ألست ترى شيئًا أكثر قبولا من الشهامة والكرم والاتزان والتقوى؟ وأي شيء أكثر قبولاً من الحكمة ذاتها إذا كان ما يهمك هو التدفق المطمئن والدائم لملكتنا الخاصة بالفهم والمعرفة؟.

على هدي هذا التأمل النافذ في التاريخ، انخرط مفكرنا إدوارد وديع سعيد في مسعى فكري هو على درجة عالية من الطرافة والإبداعية المذهلة، عمل فيه على العودة إلى الفلسفة، بعد أن اختبر ذاته معرفيا في فضاء النقد الأدبي، واجتهد في استيعاب الممارسة المفاهيمية للنصوص الأدبية في مختلف تمظهراتها، وكان على دربة مكينة من مناهجها وطرائقها، مكنته من امتشاق الأفق النقدي، والتحكم في تقنياته المتجددة باستمرار.
يمكن الإقرار أولا، بأن إدوارد سعيد ينتمي من جهة الاشتغال المعرفي إلى مجال خاص هو فضاء النقد الأدبي؛ فقد كان أستاذا في هذا التخصص الأكاديمي لمدة قاربت أربعين سنة في جامعة كولومبيا، وكان فيها منشغلًا بالسيرة الذاتية للأديب الإنكليزي البولوني الأصل جوزيف كونراد (1857 – 1924) وعلاقة سيرته بنتاجه الروائي القصير، تحت إشراف أستاذه هاري ليفين الذي تأثر كثيرا بنظرية الناقد الألماني إريش أورباخ، وبكتابه المحاكاة: تمثيل الواقع في أدب الغرب (Mimesis: The Representation of Reality in Western Literature) لأن: كتاب أورباخ هو الأوسع مدى والأبعد طموحًا بما لا يقاس بين جملة المؤلفات النقدية المهمة جميعها خلال نصف القرن الماضي؛ فمداه يغطي عيون الأدب، بدءًا بملامح هوميروس والعهد القديم وانتهاء بإبداعات فيرجينيا وولف ومارسيل بروست.
وتشكل رواية كونراد قلب الظلام (Heart of Darkness) النص التمهيدي لأغلب الدراسات ما بعد الكولونيالية، كما يشير إلى ذلك الباحث الهندي هومي بهابها، إلى جانب رواية الأديب العربي الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، وفي مختلف متون النصوص الأدبية مثل: ألبير كامي وفلوبير ورايمون ويليامز و شاتوبريان وفرانتز فانون وجين أوستن وكاثرين مانسفليد وتوماس هاردي وروديارد كيبلنغ وأندريه جيد وأندريه مالرو، أو في عمل عايدة الأوبرالي، وفيها التقى إدوارد سعيد بمجموعة من المفردات ذات الحمولة الفلسفية التي هي في حاجة ماسة إلى تقعيد معرفي أصيل، يخرجها من تهلهلها ويضعها في أفقها الفلسفي، بحيث يدلّ ذلك على أن النص الأدبي يحمل هما ثقافيًا ورؤية معرفية، ويختزن بداخله معان قابلة للاستشكال والمفهمة والاستثمار، خاصة على مستوى الرؤية. ومن هنا، كان النص الأدبي نصا ثقافيا حاملًا أنساقا هي أنساق التمثيل، وهذا النص لا يخلو من (أنين) هو أنين التمزق المطلق كما يسميه هيغل، وأنين الترهل الإنساني الذي صوره صمويل بيكيت وأنين عمل الحلم الذي تحدث عنه فرويد.
في هذا الوضع، لم يكن غريبا على إدوارد سعيد أن يتحرك بعدته المعرفية صوب الفلسفة، ليس من أجل امتلاك ناصية التفلسف بالمعنى الأكاديمي الخالص، بغية تشييد نسق رؤيوي أو تقديم نموذج معرفي ينتصب كمنظورية شاملة لها مقدرة تفسيرية وتسويغية، بل يجتهد لكي يغدو أحد تقنيي الفلسفة الذين كان لهم الفضل الكبير في إدخال الفلسفة إلى فضاء الأدب ومنحه الثقل المعرفي، بحيث يقوم بتمتين الخلفية المعرفية للممارسة الأدبية، خاصة من جهة النقد. ونحن نعلم أن أغلب الفلاسفة الكبار اشتغلوا في حقل الأدب مثل: أفلاطون وبروتاغوراس وأرسطو في أثناء مرحلة تدريسه في الأكاديمية، ونيتشه وهيغل وهايدغر وسارتر وسيمون دوبوفوار، وكان لهذا الاشتغال الأثر الرائع في إثراء الخطاب الفلسفي باللغة والمجاز والأسلوب أيضًا، وبالمفردات المكثفة، وفي الضفة الأخرى هناك نزوح معرفي وأدبي نحو حقول الفلسفة، مثلما حدث مع عبد الوهاب المسيري ورولان بارت وتزيفيتان تودوروف ونعوم أنوم تشومسكي وجوليا كريستيفا وإدوارد سعيد الذي عثر في الفلسفة على ضالته، ووجد مستقره المعرفي؛ إذ بدأ بصورة متصاعدة وحلزونية في الاستثمار المفهمي للمناهج والرؤى والمفاهيم، وهنا وقف يقظا أمام هذا الزخم اللامتناهي من منجزات الفلسفة، ومرتحلا في خطابات التفكر الفلسفي المتعددة والمتجددة، وقد تأبط ملفًا زاخرا من مفردات الأدب، مثل: مفردة (الشرق) التي التقطها من رواية بنجامين دزرائيلي تانكرد (Tancred) حينما وصف الشرق بأنه صنعة، تلتها مفردات الخيال والسرد والثقافة والإمبريالية والآخر والتابع والهوية والتحرر والشرقي الكسول والمترهل والأصلاني والنص والخطاب....
بهذا التزاوج المعرفي بين الفلسفة والأدب في تجربة إدوارد سعيد، أصبح سعيد ضيفًا دائما على التفكر الفلسفي، وبدأ في معاشرة النصوص الفلسفية في مختلف ضروبها، ومن صلب التزاوج نتج النص الإدواردي الذي حمل كلّ هذا الإشراق اللغوي والوهج التعبيري والمجاز الاختراقي، وكان سعيد في الوقت ذاته الفرصة السانحة لتمتين رؤيته المعرفية للاستشراق والثقافة والإمبريالية والمثقف والنقد والقراءة والنص والأنسنية.. وغيرها من مكونات الشبكة المفاهيمية التي اشتغل عليها سعيد وكرس لها جهدًا كبيرًا في الارتقاء بها إلى مستوى عال من التأصيل العلمي.
مساوقة لهذا الحديث الذي يشير إلى وجود إقرار صريح بتعالق التفكر الفلسفي والإبداع الأدبي، يتنزل النص الإدواردي، بحيث جلب سعيد معه حزمة مفهومية أدبية، لكنّها بأفق فلسفي، ومنه اصطدم بنصوص جيامباتيستا فيكو  وميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي وتيودور أدورنو وكارل ماركس، وغيرهم من أهل التفلسف المبدع. لكن ما هو الشيء أو الأشياء المهمة التي عثر عليها إدوارد سعيد في فضاء التفلسف؟ وكيف أمكن له أن يرحل هذه الشبكة المفاهيمية العسيرة والملغمة من حقولها ومحاضنها التي تشكلت فيها وأخذت صورتها واستقرت على محتوى معرفي معين إلى فضاء النقد الأدبي الذي هو بدوره، حامل شرائط مخصوصة، وله تيماته السافرة والضمنية، وله كذلك سدنته وكهانه؟ وهل بالإمكان أن يأمن سعيد من شراك المفاهيم الفلسفية؟ وإلى أي حد معرفي استطاع أن يقيم جدلاً مثمرا بينه وبين الفلاسفة؟

على سبيل المقاربة
إن الأمر على درجة مرتفعة من الخطر الحدّي، وليس من اليسر أن يدخل سعيد في هكذا معركة بين الأدب والفلسفة، فإما أن يسقط في شرك الفلسفة، وإما أن يحتفظ بمكتسباته السابقة ويحترم مباشرة شرط التماسف، ولكن هي في حقيقة التوجه معركة مع الذات المعرفية الحديثة، بمعنى أن سعيد مقبل على فهم واستيعاب وتفكيك رؤية معرفية مبثوثة في المتن الفكري الغربي، أي إنه بدأ استشعار وجود المفاهيم، وشعر بمسؤولية تتبعها ومعرفتها والوقوف على حمولتها المعرفية، وطريقة اشتغالها والآليات التي تتحكم فيها، وهذا هو الأهم، أي الوعي بنسابيتها، وفق التصور النيتشوي، ثم النبش في المستوى الأركيولوجي تمشيا - وبصورة محدودة - مع القراءة الفوكوية للخطاب، من دون الاكتراث بطبيعة النص وانتمائه؛ إذ إنه اكتشف أن مفهوم الشرق حيثما وجد في الوعي الغربي، انتهى به الأمر إلى اكتساب مجال واسع من المعاني، والتداعيات، وظلال المعاني، وأن هذه لم تكن تشير بالضرورة إلى الشرق الحقيقي، بل إلى المجال الذي يرتبط بمحيط الكلمة، مؤكدًا مُسلّمة خطيرة جدًّا على مستوى الرؤية والمنهج معا، وهي أن الشرق كمفهوم ليس من صنع المخيال الغربي الذي نتج بدوره من رؤية نابعة من براديغم مفرط في ذاتوية منتشية بقوتها، ومتعالية ومستغرقة في نرجسيتها تطوف حول نفسها، إذ من المخادعة الاعتقاد بأن الخيال وحده قد فرض خلق صورة الشرق، بل هو من صنع خطاب القوة، خطاب يجمع في جوفه معنى المقدرة على استثمار واستغلال المعرفة المنتشرة في فضاء الدراسات الشرقية، تعتمل فيه إرادة القوة بالصورة النيتشوية، لأن شرط الدراسة الحديثة هو: تفهم الأفكار والثقافات والتاريخ، أو دراستها دراسة جادة، دون دراسة القوة المحركة لها، أو بتعبير أدق دون دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها؛ دراسة هشة على مستوى التحليل، لا تستطيع إنجاز الإنساء المنشود.
يمكن أن نلمس مدى رغبة الغرب في نقل هذه الصورة من مجال الخيال إلى أفق السيطرة بحيث جرى تنميط هذه الصورة أو المفهوم / الصورة، فهي صورة صُنعت في الغرب وشكلت في مختبراته الذهنية، وجرى إخضاع الشرقي لهذه الصورة ووضعه في هذا القالب المتخيل فلا يكاد أحد يوافق على أن مقابلة الروائي الفرنسي فلوبير مع غانية مصرية هو الذي أخرج نموذج المرأة الشرقية الذي امتد تأثيره واتسع نطاقه، ولكن هذه المرأة لم تتحدث مطلقًا عن نفسها، ولم تُصوّر قط مشاعرها أو تُعبر عن وجودها أو تاريخها، بل إنه هو الذي تحدث باسمها وصورها. وكان هو أجنبيًا، يتمتع بثراء نسبي، وكان رجلا، وهذه جميعا حقائق تاريخية مكنته من فرض سيطرته ومكنته لا من امتلاك كشك هانم جسديًا فقط بل أيضًا من التحدث باسمها، واطلاع قرائه على جوانب تمثيلها للمرأة الشرقية، والحجة التي أطرحها هنا هي أن موقع القوة الذي كان يحتله فلوبير إزاء كشك هائم، لم يكن حالة فردية، بل إنه يمثل بصدق القوى النسبية بين الشرق والغرب، ويمثل الخطاب الخاص بالشرق الذي نشأ بفضل موقع القوة المذكور.
لسنا هنا بصدد الحديث عن دراسة سعيد بشأن الخطاب الاستشراقي، وإنما نرمي إلى النبش عن تلك المهمة التي غدت عند سعيد قرارًا استراتيجيا في فهم سريان الاستشراق كخطاب متماسك يعلو على نصوص الأدب والثقافة والفلسفة، ويتحكم في طريقة اشتغالها وخضوعها لمنطق مهيمن قابع داخل الخطاب، وعلى أساس ذلك التقى سعيد بالمفكر الفرنسي فوكو (1926 - 1984)، بعد أن صفی حسابه نهائيًا مع مسألة النصوص الاستشراقية؛ فهو لا يشتغل عليها بحثا عن مدى صدقيتها أو اقترابها من الواقع، أو حتى إمكانية البحث عن حكم معياري نجعله مرجعًا في تقييم هذه النصوص، وإنما يتعالى عليها، متقصيًا عن وحدتها التي مكنتها من هذا الصمود المعرفي.
ويقر سعيد بمدى استفادته من الفكرة التي طرحها ميشيل فوكو عن الخطاب على نحو ما عرضها في كتابه “علم آثار المعرفة” وكتابه الآخر (التأديب والعقاب) في تحديده لمعنى الاستشراق، والحجة التي أطرحها تقول إننا ما لم نفحص الاستشراق باعتباره لونا من ألوان الخطاب، فلن تتمكن مطلقا من تفهم المبحث البالغ الانتظام الذي مكن الثقافة الأوروبية من تدبير أمور الشرق - بل وابتداعه - في مجالات السياسة وعلم الاجتماع، وفي المجالات العسكرية والأيديولوجية والعلمية والخيالية، في الفترة التالية لعصر التنوير.
يستمر مسار سعيد في التحاور مع المنجز الفوكوي، بحيث يقاسمه فكرة أن الخطاب في مساره شيء في غاية البساطة؛ إذ يقول فوكو عن الخطاب إنه في ظاهره شيء بسيط، لكن أشكال القمع التي تلحقه تكشف باكرًا وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة، أي إن آليات الاشتغال تبدي مدى مقدرته التحكمية في تحريك النصوص باعتبارها نتاجا لثقافة مسجونة داخل قفص الإمبريالية، فما هو مساير للخطاب يدرج ضمن الحقيقي، وما هو خارجه تنزع عنه صفة الحقيقة الجليلة، لأنه يحتوي على مجموعة من الطرائق المنظمة، من أجل الإنتاج والقانون والتوزيع والتداول، واستعمال المنطوقات.
إن الحقيقة مرتبطة دائريًا بأنساق السلطة التي تنتجها وتدعمها وبالآثار التي تولدها والتي تسوسها، وهو ما يدعى بـ«نظام الحقيقة”، وبهذا يتحرك الخطاب، خصوصا عندما تظهر قضية مزعجة له على مستوى نظامه الرؤيوي؛ إذ يسرد سعيد قصة فكرة التمثيل التي غدت مفهوما أثيريًا لدى الغرب بحسبانها مكوناً مفصليا في الخطاب الغربي وكلّ تمرد على هذا الحقيقي يؤدي إلى تشغيل ماكينة الخطاب بالإقصاء والطرد والطمس والتقزيم، فقد أحدث في مثل آخر عام 1986، خلال البث والمناقشات اللاحقة لبرنامج وثائقي عنوانه الأفارقة، كانت البي بي سي  أصلا قد كلفت بإعداده وقدمت معظم تمويله. وقد كتب السلسلة وسردها باحث متميز وأستاذ للعلوم السياسية في جامعة ميشيغن هو علي مزروعي، وهو كيني ومسلم تسمو كفاءته ومصداقيته كجامعي ثقة من الدرجة الأولى على كل مساءلة وريبة. وكانت لسلسلة مزروعي مقدمتان منطقيتان: الأولى، أنه للمرة الأولى في تاريخ تهيمن عليه تمثيلات الغرب لإفريقيا يقوم إفريقي بتمثيل نفسه وتمثيل إفريقيا أمام جمهور غربي، وهو بالضبط الجمهور الذي قامت مجتمعاته لبضع مئات من السنين بنهب إفريقيا، واستعمارها، واستعبادها، والمقدمة المنطقية الثانية هي أن تاريخ إفريقيا مكون من ثلاثة عناصر أو، بلغة مزروعي ثلاث دوائر متحدة المركز، التجربة الأصلانية الإفريقية، وتجربة الإسلام، وتجربة الامبريالية.

الحلقة الأولى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19480

العدد 19480

الأحد 26 ماي 2024
العدد 19479

العدد 19479

السبت 25 ماي 2024
العدد 19478

العدد 19478

الجمعة 24 ماي 2024
العدد 19477

العدد 19477

الأربعاء 22 ماي 2024