العيد بن عروس في “رحلة طائر المواسم”

سـيرة قلم ومسـيرة وطـن

الدكتور عيسى ماروك

 إنّ الولوج إلى أي بناء لا يكون إلا من الباب الرئيس له وباب الرواية عنوانها، فإذا سلمنا بأنه يمكننا التعامل مع العنوان باستقلالية بعيدا عن المتن الذي يؤطره لاشك “يتطلب منا دراسة العنوان بوصفه نصا مستقلا للوقوف عند كل الزوايا التي نراها ذات وظيفة في التحليل واكتشاف الأسلوب والدلالة”.
هذا يؤهله إلى إقامة مسافة مائزة بينه وبين المتن من خلال أولية التلقي، وبذلك يصبح “جنسا أدبيا مستقلا له مكوناته البيوطيقية وخصائصه البنيوية” ( ) والعلاقة بين النص وعنوانه هي علاقة مؤسسة : علاقة تابع ومتبوع، ولكن هذه العلاقة المنطقية تتعدد أشكالها وتجلياتها. فإلى أيّ حد يعتبر العنوان دالا على نصه؟


يقول ليستنغ: “ينبغي أن لا يكون العنوان مثل قائمة الأطعمة، فعلى قدر بعده عن كشف فحوى الكتاب تكون قيمته”. ( ) وبذلك يصبح الشروع في تحليل العنوان أساسيا عندما يتعلق الأمر باعتباره «عنصرا بنيويا يقوم بوظيفة جمالية محددة مع النص أو في مواجهته أحيانا» ( ).
1 - العنوان الرّئيس وأبعاده الدّلالية
يتكوّن العنوان من ثلاث دوال تشكل جملة اسمية، إذ يرى اللغويون أن الاسم كلمة تدل على معنى من غير اختصاص بزمان، ويفيد الثبوت، لأن الاسم موضوع على أن يُثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده، فإن لفظة “رحلة” تفيد “المضي في السفر”، وفي ذلك دلالة على التنقل والحركة، كما أن المركّبات الاسمية حسبما يرى عبد الناصر حسن محمد “تعطيها نوعا من الاطلاقية غير المقيدة بزمن” ( ) فلفظة “المواسم” تدل على أزمنة معينة وبهذا يأخذنا الكاتب إلى جدلية الثبوت والتغير، والحركة والسكون.
ومن خلال استقراء دلالات كل دال نجد أن:
الدال الأول “رحلة” اسم من دلالاته الحركة والانتقال، كونه يدل على المضي في السفر “وجاءت الرحلة مرة ثانية إلى شمال الحلم” ص27، إذن هي ليست رحلة واحدة بل رحلات متعددة كما أن تجردها من “ال” نفى عنها التحديد  “فاتسعت الدلالة وأمكن تعددها” ( ) فالهجرة قدر الجزائريين الذين شردهم الاستعمار أولا ثم الإرهاب من بعده، فتفرقت بهم السبل “هاجر الأشقاء والأصدقاء وركبوا البحر والأرض وتاه الكل” ص87.
أما الدال الثاني: “طائر” اسم فاعل وفي عرف علماء اللغة يدل على الفعل ومن قام به و الطَّيَرانُ: حركةُ ذي الجَناج في الهواء بِجَنَاحِهِ، ولأن الطيور أشكال وأنواع، وإن كان بعضها يجلب السرور للنفس، فبعضها يجلب الشرور “تتلاحق أمامه أشكال طيور المبنى الرمادي عندما شاهد أسراب الطيور السوداء الصغيرة التي تقتات من الرمال وهي تحوم حول مرتفعات الطاسيلي” ص85.
وأيضا من مدلولاته التفرُّقُ والذهابُ، وهو المدلول الذي وظفه الكاتب “رحلتهم قوى الظلم البطش فعاشوا متآلفين” ص 72.
والطيران كذلك الخفة والسرعة، إنها السرعة التي تمر بها الأيام الجميلة والذكريات السعيدة في أحضان الطفولة فتدور الأيام دورتها تذبل زهور الربيع ويحل خريف العمر كلمح البصر “أسراب الطيور الحالمة تمر أيضا من هناك متجهة إلى الجنوب في فصل الخريف وتعكس الاتجاه عند انتهاء الشتاء” ص 26.
وأما الدال الثالث المواسم والتي تعني اجتماع الناس، فالمواسم جمعت الجزائريين في السراء والضراء بل إن الجزائري لا ينعم بالعيش إلا إذا التجأ إلى إخوانه “رحلتهم قوى الظلم البطش فعاشوا متآلفين” ص72.
والموسم كذلك وقت اجتماع الناس من السنة، فالأديب وهو يعبر عن ذلك قائلا: “اسوّد ذلك الخريف” ص 78، إنه خريف الاستعمار الآيل للزوال بعدما قربت شمس الحرية التي أوقدها المجاهدون.
والموسم من الوسم وهو الأثَر والمَعْلم. وهل من معلم يأسر النفس ويخلد في الذاكرة أكثر من مراتع الصبا؟ ألا يراود الحنين لأول منزل ألفناه ونقشت معالمه في أحلامنا كما في ذاكرتنا؟ “كلهم أمل في العودة إلى مكان الحصاد الأول عندما تنمو السنابل مرة ثانية” ص 46.
فإذا كان للعنوان وظيفة الإغواء أو الإغراء، التي تجذب المتلقي “نحو اقتناء الكتاب وقراءته، وهذا لا يتحقق إلا بتفخيخ خطاب العنوان بالإثارة، تركيباً ودلالة ومجازا” ( ). فقد نجح الكاتب في إثارة فضول القارئ من خلال انفتاح الدلالة على تأويلات متعددة يثيرها العنوان لدى المتلقي: بين الحركة والسكون، والذهاب والإياب، وبين الزمان والمكان من خلال تعدد الرحلات: رحلة الجهاد والكفاح ورحلة البناء والتعمير، ورحلة العلم والتعليم، وتجدد المواسم فمرة موسم للزرع والحصاد ومرة موسم للخير والنماء تعقبه مواسم قحط وجفاف، وتنوع الطيور وأشكالها، بل نجزم أحيانا أن تلك الطيور ما هي إلا شباب الوطن الذي انبرى لخدمته والذود عنه “تعبر تلك الأسراب السماء بطريقة تنسيقية إلى هدف آخر...فتظهر صورة الشباب الحاصدين في خط واحد” ص26.
2 - سيميائية الغلاف
الغلاف عتبة قرائية مهمة تكمن أهميته في موقعه، إذ يعتبر أول ما يثير انتباه القارئ فيدفعه إلى محاولة فهمه وفك شيفرته، مما يجعل الخطاب الغلافي من أهم عناصر النص الموازي التي تسهم في فهم المتن دلاليا وبنائيا، وأيضا على مستوى التشكيل والمقصدية، وقد عمد الكاتب إلى توظيف هذه العتبة لدفع القارئ إلى ردم الفجوة القرائية التي أحدثها الحذف النحوي والمضموني في العنوان   “رحلة طائر المواسم”، فسيطرة اللونين البني والأبيض، وما فيهما من تناقض وتباين يفتح باب التأويل واسعا أمام مخيلة القارئ فإن كان البياض رمز الأمل والنقاء فهو كذلك رمز الحزن ( )، وهذا التداخل الدلالي يؤيده مظهر الشجرة العارية من أوراقها، فإن كان للشجرة مدلول الحياة والتشبث بالأرض، فإن تجردها من الأوراق تجرد من الحياة التي سلبها منها الخريف على أمل أن يعيدها الربيع إليها أكثر رونقا ونضارة، وإذا هجرتها الحياة هجرتها الطيور التي تبحث عن ملجأ يؤويها من عواصف الخريف وما أكثر العواصف التي مرت على الجزائر وما اقتلعتها من جذورها ولن تفعل، ويبرز وجه شاب مهموم واضعا يده على جبينه مستغرقا في التفكير يحيط به اللون البني من كل جانب كأنه عواصف المحن التي عصفت بالبلاد، غير أن اللون الأزرق في أعلى الغلاف يرمز إلى الأمل الذي يجب أن نتحلى به في مواجهتها فمهما ادلهم الليل لا بد للفجر من بزوغ.
3 - سيميائية العناوين الفرعية
قسم الكاتب العيد بن عروس روايته إلى خمس لوحات، عنون الأولى بـ “رعشات مرتفعات جوف المهري”، وفي ذلك ارتباط بالمكان الذي ترعرع فيه الطفل “الربيع بن يحيى”، كاشفا تفاصيل إحدى القرى الجزائرية بحقولها وتلالها وخيامها تلك القرى التي شهدت ميلاد الثورة التحريرية وولدت أعتى قادتها، تعلق السارد بمسقط رأسه هو تعلق الطائر بعشه، طائر لا ينزل عن المرتفعات ورؤوس الجبال، ورعشاته هي رقصات فرح وحبور، كل ذلك جعله يتذكر أدق التفاصيل من مواسم الزرع والحصاد وقوافل المجاهدين التي تزور الدشرة بين الفينة والأخرى، والعصابات الموالية للمستعمر وما تقوم به من سلب ونهب كلها محطات سجلتها ذاكرته التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، فكان مرتفع جوف المهري مدرسته الأولى لكن رغم ذلك اضطر للهجرة “انتهى الاخضرار واصفر الزرع، وجاءت الرحلة مرة ثانية إلى شمال الحلم” ص27، الذي حوله المستعمر كابوسا بعد أن حشرهم في حوش بوخلخال “في هذا الوقت كان مرتفع جوف المهري البعيد صامتا لا تدب فيه أية حركة بعد أن هدأت أصوات وغابت صور وتحولت هذه الحركة إلى مكان آخر جاءه سكان الفضاء الواسع” ص46، هذا الحوش ببيوته القصديرية التي تنعدم فيها أدنى شروط الحياة دفعهم الاستعمار إليه دفعا هو أشبه بالقفص الذي يزج بالطائر فيه إذا وقع في الأسر، فوقف الربيع على مظاهر البؤس نتيجة التمييز بين المحتلين وأصحاب الأرض، فكأنما أغمض عينيه على صورة الأراضي الشاسعة التي خلفها وراءه، فكان لحضور الأصوات والأشخاص في هذه اللوحة الحيز الوسع عكس اللوحة الأولى التي حفلت بتفاصيل عن الراضي الشاسعة والحقول الخضراء والعصافير المهاجرة، وإنه طائر ترك عشه هناك بين التلال وشجيرات القطف الطرية فلم يفارق مخيلته “هكذا كانت عصافير البراري واخضرار الأزهار وحنان التربة ثم صديد صفيح الأبواب وقرقعاتها وسكون الوادي الحالم والهواء العليل والصدقات الحميمة، بواعث تزيد من اختزان حب أبدي وإظهاره عند الضرورة…” ص55.
أما اللوحة الثالثة فعنونها بـ “البحث عن الكلمات الدافئة”، فالربيع بن يحيى طائر لا يهدأ له بال تشعبت به الطرق وطالت رحالاته باحثا عن مكان يسع أحلامه، ويعيد إليه ذكريات “مرتفعات جوف المهري”، والتي يبدو أنه وجدها في مرتفعات بوزريعة “تأمل الوادي المملوء بالضباب في الشتاء والمنحدر من أعالي جبال بوزريعة المحيطة به الأشجار الخضراء البارزة أسفلها الزهيرات الملونة العديدة…” ص54، وفي مدرستها تلقن حب الكلمة الصادقة كطائر يغرد أجمل ألحانه في مواسم النماء.
في اللوحة الرابعة يحط الطائر المهاجر الرحال في “المبنى الرمادي” فيبني عشا من الأحلام العريضة ما تلبث يد القدر أن تشتتها مع بداية الأزمة سنة 1988م، فتعيد تجربة مرتفعات جوف المهري نفسها من جديد وتعصف بكل ما بناه الربيع بن يحي وما خطط له، فتضطره الظروف لحزم حقائبه نحو الجنوب ليكمل رحلته الخريفية هذه المرة وقد ترك خلف ركام الرماد والخراب “الصور خراب، مبان حجبها الدخان، حافلات وسيارات مفحمة، سلع مرمية على الأرض، وأمواج من الشباب تهرع بفوضى في الشوارع …« ص77.
وفي اللوحة الأخيرة يرسم لنا الكاتب عودة الربيع بن يحيى إلى أحضان الطبيعة في الجنوب بهدوئها وجمالها بعد أن يغادر المباني الشاهقة في الشمال بضوضائها وصخبها “…لأنها ملتقى الراحة والهدوء لمارين ومقيمين كثيرين، فلا يكاد يشعر أحد بها بالاغتراب والبعد عن الأحبة والأرض الأولى…” ص90 لكل هذا أسرته “رائحة شجر الطاروت” فعاد إلى أحضان الأم الرؤوم مجبرا بعد أن هجرها مجبرا ليجد الراحة في أحضانها، وما استحضاره للشجر الطاروت العتيق إلا استحضار لماض سكن مخيلته ووجدانه من قبل في “مرتفعات جوف المهري”، ولم يفارقه مهما شرّق أو غرّب في مجاهيل الأرض.
بما أن الرواية التي بين أيدينا تنمي إلى روايات السيرذاتية، فقد أرخ الكاتب لمراحل مهمة من تاريخ الجزائر المعاصر، ومن الزاوية التي عايش أحداثها في قريته وفي العاصمة بعد ذلك (الحراش، بوزريعة، مبنى التلفزيون) والجنوب الجزائري، إذ وزع لوحات الرواية ووظفها بطريقة تناظرية محكمة النسج، فنجده يرتحل من الجنوب إلى الشمال مرغما وقد انطبعت في مخيلته تلك المناظر الطبيعية الخلابة ثم يرحل من الشمال إلى الجنوب تحت وطأة الوضع الأمني فيجد الأمن والأمان والراحة والاطمئنان بين أحضان الطبيعة الساحرة، ويستعيد ذكريات مراتع الصبا وبين الرحلتين يمر بوقت مستقطع ترتاح فيه النفس للكلمة الراقية والرقيقة، وينعم بذكريات الشباب المتوثب والمفعم بالمشاعر التواقة، وكأن قدره الارتحال طوعا أو كرها، فمن رحلة الكفاح والنضال إلى رحلة العلم والتعليم إلى رحلة البناء والعطاء، كلما ألف المكان حزم حقائبه صوب المجهول، إنها رحلة الطائر المهاجر المولع بالطبيعة والمفتتن بها، طوحت به المواسم (مواسم الزرع والحصاد في القرية، ومواسم الدراسة في المدينة، ومواسم العنف العجاف، ومواسم الراحة والخلوة)، فأينعت كلماته أدبا ورغم أن الظروف انتزعته من مراتع أحبها فخلّدها في مخيلته وكتاباته “بأرض الرمال الحالمة ظلت شجرة الطاروت تتمايل ساكنة بشموخ وهدوء…” ص95

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024